مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

موريتانيا والقاعدة.. استراتيجية جديدة في حرب مفتوحة على جبهات مختلفة

في 22 أغسطس 2010، نقلت وسائل إعلام في موريتانيا أن الرهينتين الإسبانيتين المتبقيتين (الجالسين على أقصى اليمين وأقصى اليسار في الصورة التي بثتها قناة "العربية" الفضائية) الذين اختطفا من طرف "القاعدة" يوم 29 نوفمبر 2009 قد تم الإفراج عنهما وهو ما تأكد لاحقا. وسبق أن أطلق سراح السيدة أليسيا غاميز (الجالسة في الوسط) يوم 10 مارس 2010. Keystone

شكّـلت المواجهات الدّامية التي شهدتها صحراء شمال جمهورية مالي خلال الأسبوع الماضي، بين وحدات من الجيش الموريتاني وعشرات المقاتلين من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، مُـنعطفا جديدا في الصراع الدائر بين الطرفيْـن منذ خمس سنوات، والذي بدأ بتنفيذ التنظيم أول عملية له على الأراضي الموريتانية، قتِـل خلالها عدد من الجنود الموريتانيين.

فقد قرّر الجيش الموريتاني اعتماد إستراتجية جديدة في مواجهته مع تنظيم القاعدة، تقوم على نقل المواجهات من الأراضي الموريتانية إلى شمال مالي، حيث توجد معاقِـل ومُـعسكرات التنظيم المسلّـح الذي يتحرّك في مساحة جغرافية واسعة، فشلت الدول التابعة لها إداريا في بسْـط السيطرة عليها، وتشمل مناطق شاسعة من ولايتيْ تَـمنراست وآدرار في جنوب الجزائر، ومناطق شاسعة من شمال مالي وغرب وشمال النيجر.

وقد شكّـلت تلك المناطق خلال الأعوام الماضية، ملاذا آمنا لما يُـعرف بإمارة الصحراء التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، بقيادة الجزائري “يحيى جوادي”، الذي يأتمر بأوامر زعيم التنظيم “عبد الملك دوركدال”، الملقب بـ “أبو مصعب عبد الودود” والموجود في جبال الجزائر.

وقد نفّـذ التنظيم انطلاقا من تلك الصحراء، عدّة عمليات في عُـمق الأراضي الموريتانية، أسفرت عن مقتل عشرات الجنود الموريتانيين والاستيلاء على كميات كبيرة من الذخيرة والعتاد واختطاف وقتْـل عدد من الرّعايا الغربيين. وقد ظل الجيش الموريتاني في السابق، يكتفي بموقف الدِّفاع عن النفس، فيما تولّـت أجهزة الأمن ملاحقة عناصر التنظيم، الذين يتسلّـلون إلى الأراضي الموريتانية.

غير أن النظام الحاكم في نواكشوط حاليا، ارتأى اعتماد مقاربة جديدة، تقوم على توجيه الضربات العسكرية الاستباقية وسياسة المكايدة الفكرية والفقهية. فقد سبق لهذا النظام أن لدغ من جُـحْـر القاعدة مرّتيْـن، منذ توليه السلطة في نواكشوط إثر انقلاب عسكري في أغسطس عام 2008، حيث قتَـل التنظيم في سبتمبر من نفس العام 12 عسكريا موريتانيا في كمين نصَـبه لهُـم شمال البلاد، واختطف خمسة أجانب (ثلاثة إسبان وإيطاليان) سنة 2009 من داخل الأراضي الموريتانية، الأمر الذي دفع حكومة ولد عبد العزيز إلى بدء إستراتيجية جديدة في مواجهتها العسكرية مع التنظيم، تقوم على ضربه في معاقِـله خارج الأراضي الموريتانية، فشرعت في تنفيذ عمليات ضدّ معاقل التنظيم والمتعاونين معه في شمال مالي، وهي المعاقل الذي ظلّـت طيلة السنوات الماضية آمنة لا تصل إليها يَـد أي حكومة من حكومات المنطقة، بعد أن قرّرت مالي والنيجر أنهما عاجزتان عن مواجهة القاعدة، ورفضت الجزائر مطاردة عناصر التنظيم خارج أراضيها، واكتفت موريتانيا في السابق بسياسة ردّة الفعل داخل حدودها.

تبادُل الأدوار

وجاءت أول عملية أمنية وعسكرية تنفِّـذها القوات الموريتانية في عُـمق الشمال المالي، في شهر فبراير الماضي وأدّت إلى اعتقال “عمر الصحراوي”، العقل المدبِّـر لعميلة اختطاف ثلاثة عمّـال إغاثة إسبان في موريتانيا، أواخر شهر نوفمبر عام 2009، كما نفّـذ الجيش الموريتاني عملية ثانية بعد ذلك بأسبوعيْـن، قُـرب بلدة “المزرب”، في عمق الصحراء المالية، واستهدفت قافلة كبيرة من السيارات العابرة للصحاري والمسلّـحين، تبيَّـن لاحقا أنها تابعة لإحدى عِـصابات تهريب المخدِّرات، وقد تمكّـن الجيش الموريتاني من قتل ثلاثة من عناصر العصابة واعتقال عشرين آخرين ومصادرة كميات كبيرة من المخدِّرات والأسلحة.

أما العميلة العسكرية الثالثة للجيش الموريتاني داخل الأراضي المالية، فقد تمّـت بدعم فرنسي يوم 22 يوليو الماضي، واستهدفت مُـعسكرا تابعا لإحدى سرايا “إمارة الصحراء”، التي تشكِّـل العمود الفقري لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وقد أدّت العملية إلى مقتَـل سبعة من عناصر التنظيم، لكنها فشلت في تحرير الرّهينة الفرنسي “ميشيل جيرمانو”، الذي أعدمه التنظيم بعد ذلك بيومين، ردّا على الهجوم الموريتاني الفرنسي.

لماذا موريتانيا وحدها؟

وقد كشفت العمليات الموريتانية الأخيرة ضدّ تنظيم القاعدة في شمال مالي، عن عدم استعداد دول المنطقة، للتّـنسيق في مجال محاربة الإرهاب، حيث اكتفت جمهورية مالي باستضافة المعارِك على أراضها ووقفت موقِـف المتفرِّج وتوفِّـر من حين لآخر مصادر أخبار للصحفيين عن المعارك الدائرة في مناطقها الشمالية، بين خصميْـن غرببييْـن على أراضيها.

أما الجزائر، فقد وجدت في العمليات الموريتانية خروجا على زعامتها لمُـعسكر محاربة الإرهاب في الصحراء، وشنّـت وسائل الإعلام الجزائرية حربا نفسية وإعلامية على الموريتانيين عبْـر بث بيانات ومعلومات تتحدّث عن خسائر فادِحة في صفوف الجيش الموريتاني، وهزائم نَـكراء مُـنِـي بها على يَـد مقاتلي القاعدة.

أما النيجر، فقد اكتفت هي الأخرى بتتبُّـع أخبار مَـن اختُـطِـفوا على أراضيها من الفرنسيين، دون أن تُـحرِّك ساكِـنا لإنقاذهم، فيما بقِـي الجيش الموريتاني وحيدا في ساحة المعركة يُـلاحق “أشباح القاعد” في صحراء شاسِـعة خارج حدود بلده.

مُـقاربة جديدة

واليوم، وبعد خمس سنوات على بدء المواجهة المفتوحة بين القاعدة والحكومة الموريتانية، أدْركت هذه الأخيرة أن إستراتيجية القبْـضة الأمينة والعسكرية الدِّفاعية، لا تكفي وحدها لمواجهة عُـنف تغذيه الأفكار الأيديولوجية، ويؤمن أصحابه بأن الموت في سبيله شهادة والحياة لأجله جهاد، لذلك سارعت السلطات الموريتانية الجديدة إلى مراجعة المقاربة العسكرية، التي اعتادتها في السابق لمحاربة الجماعات الإسلامية المسلحة، وذلك من خلال تشديد وتعزيز قبْـضتها العسكرية والأمنية، وتبادل الأدوار مع القاعدة عبْـر الانتقال من موقِـع الدفاع إلى موقع الهجوم، كل ذلك بالتوازي مع مدّ يَـد للحوار وفتح باب التّـوبة والتّـراجع أمام الشباب الموريتانيين المُـنخرطين في التنظيم، والراغبين في التراجع عنه، فضلا عن القيام برُزمة إجراءات وتحسينات على مستوى المؤسسة الدِّينية في البلد، بهدف العمل على تجفيف المنابِـع الفكرية والموارد البشرية للمجموعات المتطرّفة، وذلك عبْـر فتح حوار مع السجناء المحسوبين على تنظيم القاعدة في سجون نواكشوط، والإفراج عن عشرات منهم بعد توقيعهم على بيانات أكّـدوا فيها تخلِّـيهم عن العنف ورفضهم للأسلوب الذي ينتهِـجه تنظيم القاعدة.

ولم تكتف الحكومة بإخلاء سبيل هؤلاء، بل تمّـت دعوَتهم لحفل عشاء رسمي، نظّـمه على شرفهم وزير الشؤون الإسلامية وحضره عدد من أعضاء اللجنة العِـلمية التي كلِّـفت بالحوار معهم في السجن، وأعلن وزير العدل أن الحكومة مستعدة لدعمهم ومساعدتهم، من أجل الاندماج في الحياة العامة.

مواجهة دِينية

وبالتّـوازي مع ذلك، أعلن الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز عن إنشاء إذاعة دينية تسمّـى “إذاعة القرآن الكريم”، متخصِّـصة في بث البرامج الدِّينية والتلاوات القرآنية، كما أمر الحكومة ببناء أكبر مسجد في تاريخ البلاد يتّـسع لأزيد من 15 ألف شخص، وطباعة مصحف شريف برواية الإمام ورش عن نافع، وهي القراءة الأكثر انتشارا في موريتانيا، ويحمل اسم “مصحف شنقيط”، نسبة إلى مدينة شنقيط التاريخية العِـلمية في موريتانيا، واكتتاب 500 إمام مسجد يتقاضَـون رواتبهم من ميزانية الدولة.

كما صادق البرلمان الموريتاني على قانون جديد لمحاربة الإرهاب تقدّمت به الحكومة، ينُـصّ على تشديد الإجراءات والعقوبات في حقّ المتَّـهمين بالإرهاب، مقابل فتح باب التّـوبة والتراجع أمام الرّاغبين في العدول عن نهْـج التطرف والغلو.

وتأمل السلطات الموريتانية أن تساهم هذه الإستراتيجية، المتعدّدة الجوانب، في التخفيف من وطْـأة مواجهتها مع المجموعات المتطرِّفة، التي ترابط في صحراء شمال مالي على تُـخوم حدودها الشرقية والشمالية، والتي استقطبت عشرات من الشباب الموريتانيين، باتوا يشكِّـلون نسبة مُـعتبرة بين مقاتلي التنظيم، ونفَّـذ بعضهم عمليات انتحارية في موريتانيا ومالي والنيجر والجزائر، ومات آخرون في مواجهات مع جيوش المنطقة، وما يزال آخرون ينتظرون مصيرهم ويتدرّبون على القتال والمواجهة في مُـعسكرات تنتشِـر في صحراء “سائبة”، لا سلطان لأي دولة عليها، يسمِّـيها أمراء التنظيم “صحراء الإسلام” و”طورا بورا المغرب الإسلامي”.

تأسّـست “إمارة الصحراء”، التابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، مطلع العقد المنصرم، وبدأت كمنطقة إمداد تابعة للجماعة السلفية للدّعوة والقتال الجزائرية، والتي تحوّلت سنة 2007 إلى “تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي”، وسُـمِـيت يومها بالمنطقة التاسعة.

وكان الهدف من إنشائها، هو توفير الدّعم اللّـوجيستي والبَـشري لمقاتلي التنظيم، الموجودين في العُـمق الجزائري، حيث كانت تكلّـف باكتتاب الشباب من دول الساحل وتدريبهم وإرسالهم للقتال في جبال الجزائر، فضلا عن توفير الدّعم المالي والسلاح والمتفجِّـرات، والقيام بعمليات اختطاف للرعايا الأجانب، بغية الحصول على أموال الفِـدية.

وشكّـلت عملية الاختطاف، التي قادها أحد أبرز أمراء التنظيم المعتقل حاليا في الجزائر “عبد الرزاق البارا” (تأجل موعد محاكمته عدة مرات) واستهدفت 32 سائحا أوروبيا، أغلبهم من الألمان، منتصف عام 2003، بداية مشوار هذه الجماعات مع عمليات الاختطاف التي تدر عليها أموالا طائِـلة تدفعها الحكومات الغربية، التي يقع مواطنوها في أيْـدي عناصر التنظيم.

وقد أسندت قيادة “إمارة الصحراء” عند تأسيسها، إلى الجزائري “مختار بلمختار” المُـكَـنَّـى “خالد أبو العباس”، الذي اعتمد سياسة التوسّـع نحو دول الساحل، وتوطيد العلاقات مع سكان الصحراء.

وبعد أن توسّـعت إمارة الصحراء وأصبحت قوة ضاربة يتبع لها مئات المقاتلين، قام “عبد الملك دوركدال”، بإسناد قيادتها إلى المسؤول العسكري السابق للتنظيم “يحيى جوادي”، الملقّـب بـ “يحيى أبو عمار”، وذلك في نهاية عام 2007، وأصبح يتولى المسؤولية عن مئات المقاتلين المنخرطين في كتيبتين وسريتين هما: كتيبة طارق بن زياد، ويقودها الجزائري “عبد الحميد أبو زيد”، وكتيبة الملثمين، التي أسندت قيادتها لمؤسس إمارة الصحراء “خالد أبو العباس” وسرية الفرقان التي يقودها الجزائري “يحيى أبو الهمام” وسرية الأنصار ويقودها “أبو عبد الكريم الطارقي”، المنحدر من شمال مالي، وهو القائد الوحيد في التنظيم من غير الجزائريين.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية