مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

نجاحات في البيولوجيا الجزيئية تُـنعش الآمـال في علاج مرض ألزهايمر

يعتبر البروفسور أدريانو أغوزي، من أشهر العلماء في مرض جنون البقر ومجال البريونات. Keystone

ما أن انتهت موجة الذّعر التي اجتاحت العالم في التسعينات بسبب مرض جنون البقر، الذي يعرف طبيا باسم اعتلال الدماغ الإسفنجي البقري، لم يعُـد أحد يتكلّـم عن حقيقة المرض ولا عن البريونات، أي جزيئات البروتين، التي اتهمت بأنها وراء إصابة البقر بالجنون وأنها السبب في انتقال هذا المرض. لكن، مِن الباحثين مَن بقي منشغلا بالأمر واستمر في الدراسة والبحث، ومنهم الأستاذ أغوزي.

لم يتوقّـف البروفسور أدريانو أغوزي، أستاذ ومدير معهد دراسات أمراض الأعصاب في جامعة زيورخ، عن الاهتمام بمرض جنون البقر، وقد وَجد بأن لتلك الجزيئات المعدية سلوكا، غير تقليدي، وأنه مماثل لتلك التي عُـثر عليها في الأمراض الأكثر انتشارا، مثل مرض ألزهايمر ومرض باركنسون.

swissinfo.ch: أستاذ أدريانو أغوزي، أنتم واحدٌ من كبار المتخصصين في مرض جنون البقر على مستوى العالم، ولخِـبرتكم في المجال، أطلـِق عليكم في سويسرا لقب “مِـستر بريون”، نسبة إلى البريونات المسؤولة عن الإصابة بالمرض. فهل لكم أن توضِّـحوا لنا ما هي البريونات وما هي طريقة عملها؟

أدريانو أغوزي: البريونات كائنات غريبة، تتسبَّـب بمرض مُـعدٍ، أي أنه ينتقِـل من إنسان إلى آخر أو من حيوان إلى آخر، وهي تختلف عن غيرها من مسبِّـبات الأمراض المُـعدية الأخرى، بعدم احتوائها على الحمض النَّـووي (DNA أو RNA)، أي لا توجد فيها المادة الجينية المتضمّـنة للشِّـفرة الوراثية المحدِّدة لبناء البروتينات داخل سلاسل الأحماض الأمينية، التي تحدِّد التركيب البنائي لنفس الجُسَيم، المسبّـب والناقل للمرض.

هذا الأمر كان معروفا منذ السبعينات وشكَّـل تناقضا محيِّـرا بالنسبة للتصوّرات التي آمنت بها البيولوجيا الجزيئية والتي تعتبِـر أن الأحماض النووية هي المسؤولة المباشرة عن تكوين البروتينات أو بمعنى آخر، هي التي لديْـها المخطّـط الذي بموجبه يتِـم إنتاج البروتينات.

في البداية، أصاب مرض جنون البقر وسائل الإعلام بحالة أشبَـه بالهِـستيريا ولعدّة سنوات، ولكننا لم نعُـد نسمع مَـن يتكلَّـم عن هذا المرض ولا عن مدى خطورته على البشر. فهل هذا سببه الإعلام أم أن المرض تراجَـع؟

أدريانو أغوزي: ما مِـن شك في أن حالات اعتلال الدّماغ الإسفنجي عند البقر، أصبح نادرا جدا، وذلك عائد – أيضا – إلى حقيقةٍ مفادُها أن العلماء فهِـموا بسرعة كوْن المرض من النَـوع البريوني وأن البريونات لا يمكِـن تعقيمها بالطُّـرق التقليدية، التي تعتمِـد في الأساس على مبدإ تفكيك الأحماض النووية للفَـيروسات أو للبَـكتيريا، فيما تخلو البريونات من هذه الأحماض، وبالتالي، لا يمكن معاملتها بنفس الأساليب.

ثم أمكن في وقت مبكّـر وفي سنوات قليلة، التعرف على طُـرق انتقال المرض والتي كان من أهمّـها اعتماد تغذية الأبقار على أعلاف بروتينية حيوانية مُنتَجة ممّـا يتبقى لدى الجزّارين من مخلّـفات اللحوم وخلافها. فبمجرّد أن تمّ حظْـر استخدام أعلاف التّـسمين، حيوانية المنشأ، أمكن القضاء على حمّـى جنون البقر. وأنا أعتبِـر أن السيْـطرة على مرض جنون البقر، هو نجاح كبير للبيولوجيا الجزيئية الحديثة. ويمكن القول بصورة أو بأخرى، بأن عِـلم البريونات “استهدَف نفسه” وقد كسب الجولة، وبفضل هذا الانتصار، انتهى القِـيل والقال.

متى كانت آخر حالة شهِـدتها سويسرا لمَـرض جنون البقر؟

أدريانو أغوزي: يجدُر التذكير بأن اعتلال الدماغ الإسفنجي البقري يوجد منه نوْعان. نوع مُـعد، وهو الذي فجّر الأزمة. ونوع فرادي. وعموما، من النادر أن تظهر الأمراض ذات الطبيعة البريونية عند المواشي وعند البشر.

ويسمّـى النمط البشري من المرض “كروتزفيلد جاكوب”، الذي يوصف بأنه فرادي ونسبة حدوثه بمعدّل حالة واحدة لكل مليون شخص سنويا، وهو موجود في سويسرا بمعدّل سنوي من 7 إلى 10 حالات أو 15 حالة على الأكثر، وقد أمكن لنا من خلال المركز الوطني السويسري للأمراض البريونية – الذي أضطـلع بإدارته – الإطلاع على جميع الحالات المؤكّـدة والمُـحتملة لمرض “كروتزفيلد جاكوب” في سويسرا.

وبالنسبة للماشية، لم يكن المرض معروفا، ولكن مع كسْـب الخِـبرة وإجراء التجارب، تمّ التعرّف على المرض بنمَـطه الحيواني، ثم بالرّغم من أنه تمّ القضاء على الوباء، إلا أننا ما زِلنا حتى اليوم نرصُـد حالات نادرة جدّا وفرادية متفرِّقة لأبقار تُـصاب بمرض جنون البقر.

ويرجع السّبب إلى وجود قابلية لدى البروتين البريوني للتحوّل بشكل تلقائي إلى بريون ممرض، وهو، وإن كان أمرا نادرا جدا بمعدّل واحد على مليون، إلا أنه ممكن الحدوث وبشكل عفوي أو عَـرَضي تماما، هذا يؤكِّـد لنا أنه ليس بالإمكان القضاء التام على مرض جنون البقر وعلى مرض “كروتزفيلد جاكوب”، وبالتالي، من المهِـم أن نسيْـطر على انتِـقال المرض وأن نحُـول دون اتِّـساع رُقعة انتِـشاره وأن نؤمِّـن الحماية للأفراد المُـستهدَفين.

ما مدى خطورة مرض “كروتزفيلد جاكوب”، وهل هناك خوْف من انتِـشاره؟

أدريانو أغوزي: هذا مرض مُـرعب، يُفقِـد المريض قُـدراته الذِّهنِـية في غضون أشهر قليلة. ولا يزال يُـعتبر حتى الوقت الرّاهن قاتلا وفتاكا، وهذا ما يجعله مرضا خطيرا جدا، فضلا عن كونه مُـعديا.

ونذكر، أن حالات عدوى حصلت هنا في زيورخ أعوام السبعينات، يوم لم تكن طريقة انتقال المرض معروفة بشكل واضح. حينها، أجريت عمليات جراحة أعصاب باستِـخدام أدَوات خَـضعت للتّـعقيم بالطُّـرق التقليدية أدّت إلى إصابة هؤلاء الأبرياء بهذا المرض.

وعليه، فإن خطَـر انتقال العدْوى عن طريق العمليات الجراحية، أمرُ وارِد جدا ومن الواجب أن يكون معروفا، كما يجب اتِّـخاذ الاحتياطات والتدابير اللاّزمة، مثل التحريز على الأدوات الجراحية.

هل توجد حاليا وسائل وأجهزة يُـمكن بواسطتها الكشْـف السريع عن وجود جزيْـئات مُـعدية؟

أدريانو أغوزي: يجدُر التنبيه إلى أنه خلال الـ 40 سنة الماضية، حصرت البيولوجيا الجزيئية اهتِـمامها في عِـلم الأحماض النووية، ولم تُـولي البروتينات اهتماما كافيا، في الوقت الذي اعتنت فيه بتَـتابعات أو نظام الجزيْـئات في الحِـمض النووي.

وبفضل التوصّـل إلى تقَـنية “تفاعُـل البلمرة المتسلسل”، وهي طريقة يُـمكن بواسطتها تكثير أو مضاعفة جزيئات الحِـمض النووي “DNA”، أصبح الآن في الإمكان تحديد التَّـسلسل الكامل للجينوم البشري في غضون أيام قليلة وبتكاليف معقولة إلى حدٍّ ما، إلا أن تحديد التركيب البنائي للبروتين لا يزال لُـغْـزا مُـحيِّـرا، بل مُـستعصِـيا في غالب الأحيان.

وفي حالة البريونات، يصبح هذا الأمر أكثر تعقيدا بسبب وجود نوعيْـن مختلفيْـن منها. أحدهما طبيعي موجود لدى جميع البشر ويُـعرف بـ “بروتين البريون الخلوي”. أما النوع الآخر، فهو مرضي ويطلق عليه تسمية “التطوي السيِّـئ” باعتبار أنه تكوُّن غيْـر سليم لتكتّـل بريوني خلوي.

وهنالك طريقة أخرى يُـمكن بواسطتها الكشف عن البروتين في الجِـسم، وذلك باستخدام الأجسام المضادّة المنتَجَة من الفِـئران أو الأرانب، وهي كواشف ذات قُـدرة عالية على تحديد وجود البروتين. ولكن المشكلة هنا، هي أن بروتيني البريون، سواء الطبيعي أم المرضي، لهما إلى حدٍّ بعيد نفس التركيب البنائي، ممّـا يُعسّـر كثيرا إمكانية تحضير أجسام مضادّة قادِرة على التمييز بينهما.

وبالرغم من وجود تلك العقبات، إلا أن تشخيص مرض جنون البقر أمْـر ممكن وفي وقت قصير، ولكن يبقى دون المستوى المطلوب، حتى مع استخدام تقنية “تفاعل البلمرة المتسلسل”. وبالنسبة لمسألة نقل الدم على سبيل المثال، نحن ما زلنا حتى هذه الساعة لم نصِـل إلى المستوى الكافي في التعرّف على الجراثيم المُـعدية المحتمل وجودها في وحدات الدّم، وهذا يعني أنه من الصّـعب علينا الجَـزْم بخلو هذه الوحدات من البريونات.

أستاذ أغوزي، أأنتم مهتمّـون فقط بالبريونات أم لديْـكم أبحاث في مجالات أخرى؟

أدريانو أغوزي: منذ سنوات وأنا مهتَـم بالبريونات، وبرأيي أن أسلوب النطنطة أو الانتقال من بحث – قبل استيفائه – إلى آخر، لا يمكن أن يأتي بالنتائج المرجُـوّة، وبرأيي أنه لابدّ من تحديد الموضوع ودراسته بتعمُّـق. ومن أجل ذلك، ظللتُ وفيا لأبحاث البريونات، رغم خروجها من دائرة الاهتمام الإعلامي وانتهاء حالة الطوارئ، التي أعقبت ظهور المرض.

وعليه، فإنني مستمرّ، أنا وفريقي، بدراسة البريونات، إلا أننا أدركْـنا، خلال سيْـر الأبحاث، وجود أمراض أخرى أكثر شيوعا تستنِـد إلى أسُـس مماثلة، كمرض ألزهايمر ومرض باركنسون وغيرهما من الأمراض، والتي من بينها أيضا مرض السكري من النوع (2)، وكلها أمراض تستنِـد إلى فكرة البناء غيْـر السليم للبروتين، كما في “التطوي السيئ” لبروتين بريون المَرضي، وبالتالي، نحن عاكِـفون حاليا على محاولة فهْـم ما إذا كان بالإمكان استخلاص المبادِئ التي تعلَّـمناها من خلال دراسة الأمراض البريونية وتطبيقها على هذه الأمراض، وهو ما يمكن اعتباره بشكل أو بآخر توسيع لنِـطاق عمل مؤسستنا.

ولِـد في مدينة بافيا (شمال إيطاليا) في عام 1960. وبعد أن أنهى مرحلة الدراسة الثانوية، سافر للدراسة في ألمانيا، حيث تخرَّج في عام 1986 من كلية الطب في جامعة فرايبورغ.

وخلال مسيرته الجامعية، أمضى عاما في قِـسم عِـلم الأمراض في جامعة كولومبيا في نيويورك، ثم تابع دراسة التخصّص أولا في معهد الاضطرابات العصبية التابع لمستشفى جامعة زيورخ، ثم في معهد عِـلم الأمراض في فيينا، حيث حصل في عام 1992 على دبلوم ما بعد الدكتوراه في عِـلم البيولوجيا الجزيئية.

ومنذ البداية، ركّز أبحاثه على دراسة البريونات وكيفية إتلافها لخلايا الدِّماغ، وأصبح في عام 1995 مديرا للمركز القومي السويسري لأمراض البريون ومستشارا للحكومة البريطانية والإيطالية والسويسرية بشأن الاعتلال الدماغي الإسفنجي.

وفي عام 1997، أصبح أستاذا ومديرا لمعهد الاضطرابات العصبية التابع لجامعة زيورخ، وهو يعمل في المعهد منذ عام 1993. ومنذ عام 2004 اضطلع أيضا برئاسة قسم عِـلم الأمراض في مستشفى الجامعة.

قام بتأليف العديد من المقالات، ويرأَس هيئة تحرير العديد من المجلاّت العِـلمية، ويشارك في مشاريع أمريكية ويابانية ودنمركية وسويدية. كما أنه عضو في اللجان العِـلمية والإدارية للعديد من المؤسسات، بما في ذلك المعهد الأوروبي لأبحاث الدِّماغ الذي أسَّـسته ريتا ليفي مونتالتشيني والمعهد الإيطالي للتكنولوجيا، الذي تأسس في مدينة جِـنوا، على غرار المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ، فضلا عن العديد من مؤسسات الطب الحيوي.

حازت أبحاثه في مجال الأمراض البريونية على العديد من الجوائز، منها جائزة روبرت كوخ في عام 2003 وجائزة مارسيل بينوا في عام 2004 وجائزة انطونيو فيلترينيلي في عام 2009.

هي جزيئات بروتينية مسبّـبة للعدوى، وهي على العكس من الفيْـروسات ليست لديها الشِّـفرة الجينية للتناسخ، وهي خالية من الأحماض النووية ولها القدرة على نقل العدوى والتنسخ داخل الكائن الحي.

هي أمراض قاتلة، وتتميز جميعها بقدرتها على الإتلاف البطيء والتدريجي لنسيج الدِّماغ. وقد عُـرفت لأول مرة، عندما تمّ اكتشاف مرض “سكرابي” أو “الحكاك”، الذي يصيب الأغنام والماعز. ويعتبر مرض اعتلال الدِّماغ الإسفنجي البقري، المعروف بجنون البقر، هو الأشهر بين هذا النوع من الأمراض.

ويُذكر من أنماط الاعتلال الدماغي الإسفنجي عند الإنسان، مرض كروتزفيلد جاكوب ومرض جيرستمان شتراوسلير شينكر ومرض الأرق الوراثي القاتل، الذي اكتُـشِـف في منتصف الثمانينات، وكذلك الشكل الجديد من مرض كروتزفيلد جاكوب.

ولا يوجد حتى الآن أيّ علاج من هذه الأمراض ولم ترِد أية أخبار عن حصول شِـفاء تِـلقائي أو عرضي.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية