مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل تدور السياسة الامريكية في حلقة مفرغة؟

هل سيعيد باول الى سياسة الولايات المتحدة حدا ادنى من المصداقية في الشارع العربي؟ swissinfo.ch

حين تحدث العاهل المغربي الملك محمد السادس الى وزير الخارجية الأمريكي كولن باول بقوله "ألم يكن من الأجدى الذهاب إلى الشرق الأوسط قبل القدوم إلى المغرب"، كان يحمل في جملته الاستنكارية اكثر من معنى سياسي، إضافة إلى اللوم الظاهر فيها.

يرى الملك المغربي، وإن لم يقل ذلك صراحة، أن مجيء باول الى المغرب أولا فيه تعمد لتضييع الوقت قبل الوصول الى إسرائيل، وهو تضييع مقصود وهدفه واضح وبسيط أيضا، حيث التغطية على مجزرة شارون وحيث منحه وقتا أطول لينجز فيه مشروعه الإجرامي ضد الفلسطينيين.

والمعنى الثاني أن محطة باول الرئيسية هي هناك في إسرائيل التي تشن حربا ضروسا ومجزرة حقيقية بكل ما لديها من أسلحة أمريكية الصنع ضد شعب اعزل إلا من صموده وإرادته على المقاومة، وبعدها أو بموازاتها محطة الأراضي الفلسطينية المحتلة حيث الرئيس المحاصر عرفات، الذي ما يزال هو العنوان الوحيد لمن يريد التعامل مع القضية الفلسطينية.

هاتان الرسالتان المتضمنتان في عبارة الملك المغربي، يمكن وصفهما بأنهما تمثلان الرؤية العربية وليست فقط المغربية. فالملك الأردني بدوره استبق وصول باول الى بلاده وقال في اجتماع لمجلس وزرائه، ان عرفات هو العنوان الوحيد ولا تعامل مع غيره، وأن الإسرائيليين إن كانوا يحرصون على علاقتهم مع الأردن، فعليهم ان يستمعوا له، وان ينسحبوا من الأراضي الفلسطينية.

وهنا يضاف بعد اخر يتعلق بالانسحاب الإسرائيلي الفوري كما يفهمه العرب، وليس كما يفهمه باول أو رئيسه بوش، حيث تتحول عبارة الانسحاب الفوري والتي استخدمتها الان كوندليزا رايس، الى مجرد تعبير أجوف، بلا إلزام و بلا مضمون سوى إعطاء شارون وآلته العسكرية مزيدا من الوقت للاستمتاع بأنهار الدم الفلسطينية.

تشكيك وتراجع

صحيح ان باول في محطة القاهرة، أعلن عن نيته لقاء عرفات، في وقت سمح فيه جيش الاحتلال الغازي بلقاء بين عرفات وعدد من مساعديه للإعداد للقاء باول، وذلك بعد أن كان قد تعمد التشكيك في هذا اللقاء قبل مجيئه الى المنطقة، وهو التشكيك الذي وجد تلميحا اكبر من الرئيس بوش، صب في أن تفضيله يذهب الى البحث عن زعيم فلسطيني آخر.

والواقع أن باول لم يكن صريحا وحسب في محطة القاهرة، بل كان فجا أيضا، إذ اعتبر أن هدف لقائه مع عرفات هو إبلاغه بما يجب عليه ان يفعله، وكأن عرفات يعمل موظفا لدى البيت الابيض وليس قائد شعب يسعى ويضحي من أجل حريته.

ووفقا للرؤية الامريكية المعروفة، فإن على عرفات ان يدين الارهاب بالمعنى الامريكي، والذي يعنى ان يدين كل أشكال النضال والمقاومة الفلسطينية، وان يقبل بالافكار التي بلورها زيني، أو بالاحرى التي كتبها شارون ونقلها زيني مرتين من قبل الى عرفات الذي رفضها بحسم.

مطالب امريكية إسرائيلية

المطالب الامريكية هي نفسها المطالب الاسرائيلية، وهي نفسها المرفوضة عربيا وفلسطينيا، ومع ذلك يكتب كتاب أمريكيون معروف عن صلاتهم الوثيقة بدوائر القرار والاستخبارات الامريكية عن ان باول يحمل معه مشروعا للسلام في المنطقة، يتلخص في ثلاثة عناصر، الاول ان يدين العرب العمليات “الانتحارية” الفلسطينية، لانها في العرف الأمريكي / الإسرائيلي إرهابا ممجوجا، والثاني أن يدين عرفات نفس هذا “الإرهاب” والمتضمن في العرف الأمريكي الاسرائيلي المقاومة المشروعة بكل أشكالها. والثالث ان يقنع شارون بخطة انسحاب من الأراضي الفلسطينية ووقف بناء بعض المستوطنات، ثم يتم تنسيق آمني عالي المستوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين بمشاركة أمريكية كجزء من إجراءات بناء الثقة بين الطرفين. وبعد التأكد من ذلك التعاون الأمني، يمكن البدء في عملية التفاوض.

وفي كل هذه المطالب والخطط، الرسمية وغير الرسمية، يظل هناك غموض متعمد حول ما يجري بالفعل في الأراضي المحتلة، وكأن العدوان الهمجي الإسرائيلي غير موجود أو لم يحدث بعد، او أنه خيال في خيال، أو أن إسرائيل هي التي تواجه “همجية فلسطينية”.

ويمتد الغموض المتعمد الى الأفق السياسي المتعلق بالمفاوضات وكيف ستجرى وما الهدف منها. وفى المقابل فإن الهدف الواضح لدى الأمريكيين هو جر العرب والفلسطينيين الى أرضية “مواجهة الإرهاب” بالمفهوم الأمريكي، بما يعنيه ذلك من التخلي عن القضية الفلسطينية بلا مقابل، وتسليمها لشارون وسياساته الهمجية التي فاقت وتفوقت على فظائع النازية وكل فظائع البرابرة، الأقدمين والمحدثين معا.

بهذه المعاني، يبدو الأمريكيون وكأنهم يدورون في حلقة مفرغة، او ربما لا يستطيعوا أن يقرءوا الإشارات والتلميحات ويستوعبوا ما فيها، أو لا يرون إلا ما يريدوا أن يروه بغض النظر عن الحقائق المؤلمة على الأرض، وهم بذلك يعيدون ما حدث في جولة نائب الرئيس ديك تشيني، التي جرت قبل حوالي شهر، وشملت عددا من دول المنطقة، وفيها استخدم الأمريكيون نفس التكتيكات التي استخدموها قبل جولة باول، من إطلاق تسريبات متعمدة حول جدول أعمال سيتم بحثه، او فرضه على القادة العرب، يتضمن موضوعين، الإرهاب وتغيير نظام الحكم في العراق بالقوة العسكرية، فهما أولويتان أمريكيتان، وعلى العرب ان ينفذوا رغبات السيد الامريكي، وان يشاركوا في تنفيذهما.

لكن القادة العرب، لم يشاركوا تشيني هواجسه عن مزاعم الإرهاب العراقي، ولم يقفوا طويلا أمام مطالبه التي سعت الى مشاركة عربية في ضربة عسكرية للعراق. وكان مضمون ما قاله القادة العرب لتشيني قبل شهر يصب أن العرب كما العالم المتحضر يقفون في مواجهة الإرهاب بمعناه الشامل، وليس بالمعنى الامريكي المبتسر والمجزأ، والذي في مقدمته ـ أي الإرهاب الشامل ـ إرهاب الدولة العنصرية الإسرائيلية وإرهاب الاحتلال والممارسات القهرية ضد الغير كما تشهد على ذلك الحالة المتردية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

كما يقفون في موقف جماعي واحد يدعمون ويأملون في حل سياسي وقانوني متحضر بعيدا عن التهديدات العسكرية لمشكلات العراق مع نفسه ومع الأمم المتحدة ومع جيرانه، وهم قبل ذلك يضعون نصب أعينهم حل القضية الفلسطينية حلا تاريخيا على قاعدة تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، وعبر الطرق السياسية الجادة وصولا الى الحقوق المشروعة للفلسطينيين والتي لا مساومة عليها، والى حالة سلام إقليمي تظلل الجميع، وتعطيهم الأمل في بناء المنطقة وتطوير مستويات الحياة فيها.

وكما سمع تشيني وجهة نظر أخرى لم تتفق لا جملة و لا تفصيلا مع الأولويات الأمريكية، سمع باول أفكارا وتقييمات ومطالب أخرى. والفارق ان ما سمعه باول من القيادات العربية، التي لامت الانحياز الامريكي الفج الذي لا يقدر مصالح أحد ولا المصالح الأمريكية نفسها، وأكدت على محورية دور عرفات، رافقه صخب الجماهير العربية، التي أعلنت بدورها إدانة واضحة للدور الأمريكي المشارك والمتواطئ في العدوان الهمجي الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني الصامد.

لكن المؤشرات الأولى تقول، ان باول لن يختلف كثيرا عن تشيني، فكلاهما مغلق العين وأصم الأذن، ينتظران إشارة شارون وليس العكس، وإلا لماذا عدل باول من جولته وذهب الى أسبانيا؟ الإجابة واضحة وضوح الشمس، تأخير متعمد آخر وفرصة زمنية أطول لشارون وجيشه الهمجي لمتابعة مذابحه ضد الفلسطينيين، ودليل آخر على التواطؤ الأمريكي الفج.

د. حسن ابوطالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية