مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل تشعر النخب الحديثة بأن “الغرب” قد خانها؟

متظاهرون مؤيدون للجماعة الإسلامية في باكستان يرفعون ملصقات كتب عليها اسم النبي محمد في مظاهرة احتجاجية على الرسوم المسيئة نظموها في مدينة كراتشي يوم 19 فبراير 2006 Keystone

لا زالت قضية نشر صور الكاريكاتير المسيئة للنبي محمد مثار جدل واحتجاج بين المسلمين والأوروبيين.

بعض الأوساط الغربية لم تستوعب أن تأتي ردود فعل النخب المحلية الحديثة رافضة أيضا ومحتجة على تحامل الكثير من الغربيين مع منطقتهم، خاصة فيما يتعلق برموزها الثقافية.

بلغت قضية نشر صور الكاريكاتير المسيئة للرسول ( ص ) إلى مرحلة حوار الطرشان بين المسلمين والأوربيين. فكل واحد من الطرفين يتمترس وراء خطابه ورؤيته لمعالجة هذا الموضوع، الذي بقدر ما يبدو بسيطا في شكله، إلا أن تطور الحدث كشف عن تعقيد شديد الصعوبة وأظهر حساسية بالغة. وقد أثار هذا التعقيد وهذه الحساسية دهشة الغربيين الذين لم يتوقعوا أن تثير صور ساذجة زوبعة ضخمة لا يعرف أحد متى تهدأ، ولا كيف يمكن محو آثارها.

ليست هذه المرة الأولى التي يثبت فيها جزء من الغربيين جهلهم بالمنطقة، وعجزهم عن اكتشاف الآليات الثقافية وحتى السياسية التي تتحكم في صياغة المواقف واتجاهات الرأي العام. لكن لعل الصدمة الأكبر التي تلقاها هؤلاء في أعماقهم، تتمثل في مواقف النخب الحديثة بالبلدان العربية والإسلامية، التي جاءت في غالبيتها الساحقة مستنكرة لهذا “الاستفزاز” المجاني، ومؤيدة للاحتجاج ضد القائمين به، وإن كان الكثير من مثقفي هذه النخب قد أدان مظاهر العنف، ودعا إلى التعبير عن الرفض بوسائل حضارية.

فالغربيون يتفهمون أن تتصدى القوى المحافظة في العالم العربي والإسلامي، وداخل أوروبا لأي مساس بالمقدسات الإسلامية، حتى لو جاء هدا المساس في شكل “دعابة سمجة”، لكن الذي لم تستوعبه بعض الأوساط الغربية هو أن تأتي ردود فعل النخب المحلية الحديثة – التي تعتبرها قريبة منها في التكوين الثقافي – رافضة أيضا ومحتجة على تحامل الكثير من الغربيين مع منطقتهم، خاصة فيما يتعلق برموزها الثقافية.

صدمة

في هذا السياق، تعتبر تونس مثالا جيدا لإبراز بعض خفايا هذه العلاقة الملغومة بالشك بين النخب العربية الحديثة وبين الغرب.

فقد اعتبر الدكتور فتحي التريكي (صاحب كرسي اليونسكو للفلسفة في كلية الآداب التونسية) أن الرسوم “لئن كانت لا تستهدف الدين مباشرة فهي قد نالت من كرامة كل مسلم في العالم”.

ولم يكتف هذا الباحث المستنير بالشجب والاستهجان، بل حاول أن يبحث عن الخلفية السياسية والفلسفية أو الأيديولوجية التي قد تكون وراء هذا الحدث، فاعتبر أن الرسوم إن دلت على شيء فإنها “تدل على أزمة المعقولية الغربية في صبغتها الليبرالية الجديدة”. هذه المعقولية حسب رأيه “لم تعد قادرة على وضع برنامج حواري مع الآخر، سواء كان هذا الحوار حضاريا أو دينيـا أو سيـاسيا”.

ولعل التريكي يشير من وراء ذلك إلى أن “الغرب” كما عرفه المثقفون الحداثيون في مراحل تاريخية سابقة، قد انقلب على معقوليته التي جعلت منه مصدر تأثر وإلهام لهم. لقد أصبح الكثير من أفراد هذه النخب غير مستعدين لتبرير ما لا يمكن أن يبرر.

فالتريكي وصف ما يجري بـ “الغباوة السياسية” التي جعلت أوربا “غير قادرة على أن تكون حليفة لما يناهز عن مليار ونصف من المسلمين”. وعلق على نقطة الارتكاز في خطاب التبرير الغربي بقوله “كلنا يعرف أن لحرية التعبير في الغرب حدودا وخطوطا حمراء لا تتجاوزها مطلقا”. ومشيرا في هذا السياق إلى الفنان المسرحي (ديودوني) الذي هاجمته وسائل الإعلام الفرنسية، وتم منعه من الظهور أو حتى عرض إحدى مسرحياته بسبب ما تضمنته من تهكم على رجل دين يهودي.

إذا كان الغربيون يشعرون بصعوبة وقوف قطاع عريض من الحداثيين العرب ضد مبدأ حرية التعبير المطلق كمنطلق مرجعي لتبرير استفزاز مشاعر المؤمنين، فإن هؤلاء الحداثيين قد حيرتهم الطريقة التي تعامل بها الغربيون عموما مع قضية الصور دون مراعاة الإطار العام الذي انفجرت فيها هذه الأزمة.

فقد تساءل الإعلامي التونسي عمر صحابو، المقيم في باريس: “ألم يكن من المنطقي أن يطرح الرسامون الدنماركيون قبل ممارسة حقهم المشروع نظريا في حرية الرسم أن يطرحوا السؤال التالي “هل ستساهم هذه الرسوم والوضع على ما هو عليه في تعميق الهوة بين العالمين الغربي والإسلامي من خلط خطير بين المفاهيم والمصطلحات في دفع التقارب والتصالح أم العكس “؟. وعمر صحابو لم ينتم في حياته لأية حركة إسلامية، وهو رجل ديمقراطي وليبرالي غير أنه وصف حالته النفسية بعد اطلاعه على الرسوم، وقبل أن يعود بعناء إلى هدوئه “كمسلم يغار على دينه اعترى وجداني فيض من المشاعر الرهيبة عند اكتشافي للرسوم المشخصة للذات المحمدية الشريفة في مواقف ومقامات تقطر بسوء النية وخبث الطوية”.

مأزق التحديثيين

لقد شعر التحديثيون في تونس وفي العالم العربي والإسلامي بأن الغربيين أو بعضهم يسحبون من تحت أرجلهم البساط، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا. فالمشكلة التي نتجت عما يسمى بأزمة صور الكاريكاتير، وحدت بين الجماهير الواسعة والنخب بمختلف اتجاهاتها من سياسيين ومثقفين وفنانين، إلى جانب انخراط الحكومات في الحملة كل حسب طريقته وأهدافه ومصالحه.

ففي تونس، تحركت معظم فعاليات المجتمع المدني، حيث أصدرت غالبية الأحزاب السياسية بيانات أدانت فيها مسألة الرسوم، وهو ما فعلته أيضا الجمعيات الحقوقية مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمجلس الوطني للحريات. حتى أوساط اليسار شغلتها القضية، وإن فضلت بعض مجموعاته ملازمة الصمت، لكن مكونات أخرى لهذا اليسار الأيديولوجي والسياسي قد انخرط بوعي في هذه المسألة التي شغلت الرأي العام من أقصى شمال البلاد إلى جنوبها. كذلك الشأن بالنسبة للاتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد النقابات الرئيسي)، حيث أصدر المكتب التنفيذي بيانا صريحا في الموضوع.

لقد أوقعت أزمة الرسوم التحديثيين في مأزق، وحشرتهم في زاوية حادة. فالأطراف الغاضبة ليست فقط الأطراف التي توصف عادة بالتطرف والتعصب، وإنما مجتمعات بكاملها أحست بالإهانة ومست في كرمكتها. هذه المجتمعات ليست كائنات غريبة، حتى تعطيها النخب ظهرها، وإنما هي مجتمعاتها التي تربت فيها، والتي يفترض أن تقودها وأن تحميها من أي عدوان، سواء أكان عسكريا أو سياسيا أو ثقافيا.

كيفية إدارة الأزمة

لقد اختار معظم التحديثيين إدارة هذه الأزمة وفق المنطلقات التالية:

– إدانة هذه الرسوم من حيث المبدأ، واعتبارها استفزازا في غير محله، وإن كان هناك نسبة كبيرة من المثقفين تستبعد أن يكون الأمر حدث بشكل عفوي. فالدكتور الطيب البكوش، مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان، يعتقد بأن الصور التي نشرت “ليست اجتهادا عفويا من صحافي بل المقصود منها الاستفزاز”، مؤكدا على ضرورة وضع أزمة الصور ضمن السياق الدولي الراهن. وهو ما فعله د. عبد السلام المسدي، وزير التعليم العالي الأسبق، حينما نزل هذه الحادثة ضمن مشهد بانورامي أوسع، يبدأ من قرار الولايات المتحد الأمريكية الانسحاب من اليونسكو احتجاجا على خطة التنوع الثقافي، وصولا إلى تداعيات الحادي عشر من سبتمبر، وخاصة عودة المعتقد في الغرب للتأثير على السياسة بدون الحاجة هذه المرة للمؤسسة الدينية.

– استهجان العنف الذي صاحب بعض التحركات الاحتجاجية، خاصة فيما يتعلق بحرق السفارات أو تهديد الدبلوماسيين والأجانب. غير أن السفير السابق أحمد ونيس اعتبر من جهته أن “التظاهرات الاحتجاجية كانت طبيعية ومنتظرة، ولعلها أحيانا دون حجم الجرم الذي ارتكب في حق المسلمين”، على حد قوله.

– محاولة التصدي لتوظيف هذه الأزمة من قبل المتشددين الإسلاميين، الذين تصب حادثة الصور المسيئة للرسول محمد في خانة ما يطرحون من خطاب يضع الغرب والعالم الإسلامي في حالة صدام وخصام مستمر. فالتحديثيون يخشون من أن يجدوا أنفسهم “رهائن” الخطاب الراديكالي بسبب قصر نظر من سماهم البعض بـ “الأصوليين الغربيين”.

تداعيات مرتقبة

عند استعراض جملة الأحداث والأزمات التي عاشتها المنطقة العربية والإسلامية خلال الخمسة والعشرين سنة الأخيرة، “يُكتشف” أن المأزق الذي الذي يعيشه حاليا التحديثيون العرب، لم يكن الأول من نوعه.

لقد سبق أن مروا بهذا الاختبار القاسي أكثر من مرة. حدث ذلك مع حرب الخليج الثانية عندما غزا صدام حسين الكويت، ثم تكررت “المحنة” مع احتلال العراق، وتجددت الرجة مع مرحلة حكم شارون، وها هي الرجات تتوالى بسرعة وفي فترات متقاربة، حيث التقت مشكلة الرسوم مع تشديد الحملة ضد إيران، والتهديد بمنع المساعدات المالية عن الشعب الفلسطيني بسبب انتخابه لحركة حماس، وظهور تقارير عن احتمال مراجعة الإدارة الأمريكية لسياستها الخاصة بـ “دمقرطة” العالم العربي خوفا من أن تكون النتيجة صعود الإسلاميين.

هذا المأزق المتجدد والسريع في وتيرته، هو الذي جعل بعض المثقفين التحديثيين يتهمون الغرب “بالخيانة”. خيانة مبادئه ومشروعه التحرري، وخيانته لهم، لأنهم لا يستطيعون أن يتخلوا عن شعوبهم، مهما كانت مواقفهم الفكرية والسياسية تجاه هذه الشعوب. كما أن هذا المأزق دفع بمثقف ودبلوماسي ووزير سابق مثل د. عبد السلام المسدي ليعيد بعد نصف قرن طرح السؤال التالي: “هل استقلت بلداننا حقا؟”.

لكن بالرغم من أن تداعيات الحدث مرشحة للإتساع، غير أنه لا يستبعد أن تطفو خلال الأسابيع القادمة قضية (أو قضايا) أخرى قد تحجب قصة الصور، وتشغل الرأي العام العربي والإسلامي. فالمنطقة لا تخلو من ألغام مدفونة تحت الأرض. وغدا قد ينسى الناس الإساءة لرسول الإسلام وينغمسوا في “عدوان عسكري على إيران” أو “حرب قد تشنها إسرائيل على السلطة الوطنية الفلسطينية” أو احتمال اندلاع “حرب أهلية” في لبنان تغذيها أطراف إقليمية أو دولية. المؤكد هو أن الوجع سيبقى وإن تغيرت الأسباب.

صلاح الدين الجورشي – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية