مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل تمتد شرارة حريق مدرسة البنات؟

رجال الأسعاف ينقلون جثة تلميذة كانت ضحية للحريق الذي نشب في مدرسة للبنات في مكة المكرمة يوم 11 مارس الجاري Keystone

دفعت التداعيات الإعلامية الداخلية غير المسبوقة لكارثة حريق مدرسة للبنات في مكة المكرمة البعض إلى التساؤل مجددا عن مستقبل العلاقة بين العائلة الحاكمة في المملكة العربية السعودية وبين المؤسسة الدينية..

يحتل عام 1929 مكانة خاصة في التاريخ السياسي للمملكة العربية السعودية. ففيه أنقلب الأخوان على زعيمهم الملك عبد العزيز بن سعود في تمردٍ دفعه إلى طلب المساعدة من بريطانيا لمواجهة من كانوا عماد تأسيس حكمه. أما اليوم فإن تداعيات حريق مدرسة البنات في مكة المكرمة دفع البعض إلى تساؤل يذّكر بتلك المواجهة: هل تمثل الحادثة بداية مواجهة جديدة بين العائلة السعودية والمؤسسة الدينية؟

الكثير من كتب التاريخ تمر مرور الكرام على تمرد الأخوان عند الحديث عن تاريخ المملكة السياسي. وهو أمر ملفت بالفعل، خاصة وأن العديد من الباحثين يعتبر ذلك التمرد المنعطف الأساسي الذي شكّل الهوية السياسية والدينية للمملكة العربية السعودية عند تأسيسها بعد ذلك عام 1932.

أسباب انقلاب الأخوان على زعيمهم الذي كان يحمل آنذاك لقب السلطان كانت سياسية ودينية معا. فمن جانب، رفض الأخوان، الذين جندهم الأمير عبد العزيز من قبائل نجد لنشر الدعوة الوهابية واسترجاع أراضى أسلافه منذ عام 1902 ، رفضوا سعي زعيمهم المتزايد إلى كسب ود بريطانيا وتأمين علاقات ثنائية معها.

كما رفضوا أمره بوضع سلاحهم وعدم مهاجمة العراق وأراض ما سميت بعد ذلك باسم الأردن في إطار حملتهم الدينية لنشر دعوتهم. ومن جانب أخر، أعتبر الأخوان أن زعيمهم بدأ يتراجع عن التزامه بالمذهب الوهابي بعد أن أستخدم وسائل النقل الحديثة (السيارة آنذاك) وأتخذ لنفسه لقب السلطان ثم بعد ذلك الملك.

حدثت المواجهة لذلك. ونجح الملك عبد العزيز بدعم القوات البريطانية من هزيمة الأخوان. وخرجت المملكة العربية السعودية إلى الوجود وفقا لرؤية مؤسسها الملك عبد العزيز: مملكة عمادها الأسرة الحاكمة والمؤسسة الدينية. فالملفت أنه رغم انتصاره لم يسع إلى القضاء على زعماء الأخوان الدينيين. هم أولا وأخيرا مصدر شرعية حكمه. بل عمد بدلا من ذلك إلى إدماجهم في هيكل الدولة وتطويعهم. غير أن المواجهة كانت حاسمة، ولعلها ضرورية أيضا، في تحديد من له السلطة العليا في البلاد والكلمة الأخيرة.

حريق مدرسة البنات… ودور المطاوعين

تعود هذه المواجهة إلى الذاكرة مع تفاعلات حادثة حريق مدرسة البنات المتوسطة في مكة المكرمة التي جرت يوم الإثنين 11 مارس. فما حدث ذلك اليوم لم يكن عاديا بكل المقاييس. خمس عشرة تلميذة تتراوح أعمارهن بين الثانية عشرة والسابعة عشرة لقين حتفهن دهسا أو اختناقا أو بسبب رميهن لأنفسهن من نوافذ المدرسة التي أشتعل سقفها بسبب تماس كهربائي.

وَقْعُ هذا المصاب تضاعف بعد أن بدأت الصحف السعودية الرسمية أو صحفٌ تمويلُها سعودي في الحديث علانية عن أن أفرادا من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(الشرطة الدينية أو المطاوعين)، منعوا الأهالي ورجال المطافئ من الدخول إلى المدرسة لأنهم ليسوا من ذويهن، ومنعوا الفتيات من الخروج لأنهن “لا يرتدين زي الحجاب الرسمي” مثلما ورد في تحقيقات الصحف السعودية في الأيام الأولى التي تلت الحادث.

فقد أفادت صحيفة “الاقتصادية” السعودية يوم الأربعاء 13 مارس الجاري، أن أحد رجال المطافئ ذكر لها بأن رجال الهيئة:”أجبروا البنات على البقاء داخل المدرسة ولم يسمحوا لهن بالمغادرة لأنهن لا يرتدين الحجاب أو العباءة”. كما شهد رجال المطافئ بأن أفراد الهيئة منعوهم هم ورجال الشرطة والإسعاف من الدخول إلى المدرسة لأنه لا يجوز للفتيات أن ينكشفوا أمام أغراب:”حاولنا إقناعهم بأن الوضع خطير للغاية لكنهم صرخوا في وجوهنا ورفضوا أن يتزحزحوا من أمام البوابة”.

أما صحيفة “الوطن” السعودية فقد نشرت يوم الجمعة 15 مارس شهادة أحد المواطنين، الذي أعلن استعداده للإدلاء بها رسميا، قال فيها:”إن رجال الهيئة طردوا أولياء الأمور والحريق مشتعل في المدرسة… وأنهم أغلقوا الباب بعد أن خرجت بعض الطالبات وهن غير متحجبات.. وأن الباب ُفتح بعد ربع ساعة (خمس عشرة دقيقة) بعد مطالبات المواطنين بفتحه”.

وأكد الخبر تصريح رئيس شرطة مكة العقيد محمد الحارثي لوكالة اسوشيتد برس الأخبارية يوم الأحد 17 مارس أنه عند وصوله إلى موقع الحادث وجد عضوا من الشرطة الدينية يحاول التدخل:”كان الرجل يتعارك مع ضابط شرطة ويحاول منعه من دخول المدرسة. لكنني أمرته فورا بالمغادرة ففعل ذلك”.

تكهنات وتوقعات…

ما لم يكن عاديا أيضا هو أن ذلك النقد جاء من صحف سعودية رسمية أو شبه رسمية. صحيح أن حجم الحدث كان بالتأكيد مخيفا. ومقتل فتيات في عمر الربيع وترك أخواتهن محتجزات في المدرسة لأسباب أقل ما يقال عنها إنها غير معقولة أثار غضبا شعبيا كبيرا. لكن إطلاق العنان للصحافة والشهود كي يدلوا بدلوهم عن دور المطاوعين في عرقلة عمليات الإنقاذ ليس بالأمر العادي في المملكة.

ولأنها سابقة غير معهودة بدأ البعض في التكهن بأن الصحافة الرسمية ما كانت لتتحدث بهذه النبرة لولا ضوء أخضر من الحكومة السعودية. وأن الهجوم إنما جاء على خلفية أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول إثر الضغوط التي تعرضت لها المملكة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية باعتبار أن الفكر الديني الممارس فيها هيأ لتطرف دفعت واشنطن ثمنه بعد ذلك. وأنه لذلك هناك حاجة لإعادة النظر في الأساليب الفكرية الممارسة في السعودية.

وهي تكهنات ليست فقط سابقة لأوانها بل تتجاهل حقيقة أساسية يؤكدوها المراقبون: أن مصدر شرعية النظام الحاكم السعودي مستمد من المؤسسة الدينية. فبقاء الأول مرهون بالثانية والعكس أيضا صحيح. وعلاقة زواجهما لا تعود إلى القرن الماضي فقط. عُقدت عام 1744 عندما تحالف الأمير محمد بن سعود أمير الدرعية ( مدينة تقع بالقرب من الرياض) مع الداعية محمد عبد الوهاب على نشر مذهب الأخير.

نفي حكومي .. أعقبه صمت صحفي

ولذا فإن ما نشر في الصحف من نقد لرجال الهيئة قد لا يخرج عن إطار التنفيس الضروري في ظل حادثة مروعة وبشعة بمثل هذا الحجم. كما أنه قد يتماشى مع سعي داخلي إلى إظهار قدر من الجرأة في الدعوة إلى إصلاح ما، لاسيما وأن لقاء ولي العهد السعودي الأمير عبد الله مع الرئيس الأمريكي بوش يقترب مع مشارف الربيع.

يؤكد هذا الرأي أن النقد الذي تسمح به السلطات السعودية تجاه المؤسسة الدينية محدد بخطوط حمراء لا تقبل بتجاوزها. برز ذلك بوضوح عندما سكب وزير الداخلية الأمير نايف الماء البارد على اتهامات الصحافة يوم الإثنين 18 مارس حينما صرح أن الصحف اندفعت إلى نشر “أخبار اتضح أنها غير صحيحة”، وأن رجلين من الهيئة وصلوا إلى موقع الحريق:”لضمان أن الفتيات لن يتعرضن إلى أي سوء معاملة خارج المبني… (وأنهما) لم يتدخلا في أي شأن أخر” على حد قوله.

بعد هذا التصريح أطبق الصمت على الصحف السعودية. لم تشر بعده من بعيد أو قريب إلى دور رجال الهيئة في إعاقة إنقاذ الفتيات. وركزت بدلا منه على تهرئ البنية التحتية التعليمية الذي انتقدته منذ وقوع الحادث. والأكثر من ذلك، عمد بعضها إلى ممارسة نوع من النقد الذاتي غير المباشر.

حدث هذا عندما نشرت صحيفة الوطن تصريحا جديدا للأمير نايف يوم الأربعاء 20 مارس تقول فيه إنه قلل “من أهمية ما تناقلته بعض وسائل الأعلام مرئيها ومسموعها ومقروئها أو عبر وسائل الاتصالات الحديثة من مواد تستهدف بلادنا لتعطيل أحكام الله (وأنه شدد) على تمسك قيادة المملكة.. بالشريعة الإسلامية الغراء” حسب تعبيره.

ورغم أن الأمير لم يفسر ما قصده بـ “المواد” التي تستهدف “تعطيل أحكام الله”، إلا أن المؤكد أن الرسالة وصلت.

إلهام مانع

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية