مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هيمنـــة المحافظيــــن الجــــدد!

فرحة دونالد رامسفيلد بالانتصار العسكري في العراق تجسد عنفوان المحافظين الجدد النافذين في صنع السياسة الأمريكية Keystone

ينطبق مصطلح "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة على مجموعة من الشخصيات السياسية والتيارات الفكرية، التي تُـنظّـر للهيمنة الأمريكية في "العالم الجديد".

وقد ترسّـخ دور المحافظين الجدد في صنع السياسة الأمريكية غداة أحداث 11 سبتمبر 2001.

من الذي حـوّل السياسة الأمريكية في الخارج إلى حرب لا تنتهي ضد الإرهاب في كل مكان من العالم؟ ومن الذي قاد حملة التحريض لشن الحرب على العراق؟ ومن هم الذين أقنعوا الرئيس بوش بتغيير استراتيجية الأمن القومي بالتوجه نحو الحروب الاستباقية؟ ومن الذي تسبب في تسلل كلمة الشر إلى قاموس الخطابات الرسمية الرئاسية؟ ومن الذي يدفع البيت الأبيض باتجاه تغيير الشرق الأوسط؟

إنها مجموعة صغيرة من المثقفين تتألف من مسؤولين سابقين، وكتاب، وصحفيين، ونشطين سياسيين، وأساتذة جامعيين، وباحثين في خزانات الفكر، المعروفة باسم “Think Tanks”، ويجمعهم تيار فكري واحد اسمه “المحافظون الجدد” أو « Neo Cons »، وهم مجموعة قليلة العدد، لكنها تتسم بنفوذ ضخم لا يتناسب إطلاقا مع حجمها في حلبة السياسة الأمريكية.

ولعل تأثيرهم ينبع من حقيقة سيطرتهم على افتتاحيات الصحف الأمريكية، والتعليقات والتحليلات، التي تنشرها كما أنهم متغلغلون في كل برامج الحوار في شبكات التليفزيون الأمريكية.

ولعل من أكبر المفارقات في تشكيل حركة المحافظين الجدد في أمريكا أنها نشأت على أيدي مجموعة من أعضاء الحزب الديمقراطي الرافضين لسياسة اعتبروها لينة مع الاتحاد السوفيتي في السبعينيات. وكان الدافع المحرك للحركة آنذاك هو معاداة الشيوعية، خاصة فيما يتعلق بمعاملة اليهود السوفييت، وانشقوا عن الحزب الديمقراطي، والتحقوا بالحزب الجمهوري ورحبت بهم حكومة رونالد ريغن في أواخر السبعينات، والتحق بعضهم بمناصب في تلك الحكومة، مثل ريتشارد بيرل الذي شغل منصب مساعد وزير الدفاع وكان يلقب باسم “أمير الظلام” للتعبير عن خطه السياسي الممعن في التشدد والتطرف نحو اليمين، وبول وولفوفيتز الذي شغل منصب وكيل وزارة الدفاع ولا يزال.

لكن حظ المحافظين الجدد لم يكن طيبا خلال فترة حكم جورج بوش الأب وحتى عام 1993. فقد كان بوش محافظا تقليديا واتسم بكثير من الاعتدال في سياسته الخارجية والمحلية، وتجمد نشاطهم خلال تلك الفترة، وخلال الثمانية أعوام التي قضاها بيل كلينتن في البيت الأبيض.

لكن الحياة دبت من جديد وبعنفوان ونشاط مضاعف مع انتخاب الرئيس جورج بوش الابن في عام 2000، حيث وصل عدد منهم إلى مناصب بارزة، خاصة في وزارة الدفاع مثل بول وولفوفيتز نائب وزير الدفاع، ودوغلاس فايث وكيل وزارة الدفاع، وريتشارد بيرل عضو المجلس الاستشاري لوزير الدفاع رامسفلد، الذي كان مستشارا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في حملته الانتخابية.

وكانت المفارقة في عام 1996، عندما وجه بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، الدعوة إلى العديد من هؤلاء النشطين ذوي النفوذ لحضور مؤتمر نظمه في القدس لمناقشة سبل إنهاء اهتمام الحزب الديمقراطي في سياسته الخارجية بموضوع حقوق الإنسان، والتركيز بدلا من ذلك على شن حملة تتصدرها الولايات المتحدة ضد الإرهاب في العالم.

وفي ذلك المؤتمر، قدمت مجموعة من المحافظين الجدد برئاسة ريتشارد بيرل، الذي كان آنذاك كبيرا للباحثين في معهد أمريكان إنتربرايز للسياسات العامة في واشنطن، وعضوية دوغلاس فايث وكيل وزارة الدفاع الأمريكية حاليا، وديفيد وورمسر من معهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة، وآخرين من أنصار إسرائيل، خطة استراتيجية جديدة بعنوان “A Clean Break”، تدعو نتانياهو إلى التخلي عن اتفاقات أوسلو، والتحول من مبدأ الأرض مقابل السلام إلى “السلام مقابل السلام”، المستند إلى توازن القوى، واعتماد علاقة استراتيجية جديدة مع الولايات المتحدة تستند إلى الفلسفة التي تجمعهما معا، وهي فلسفة السلام من خلال القوة، وإعادة تشكيل الوضع في المنطقة بما يخدم أمن إسرائيل.

وجاء في تلك الخطة، “أن بوسع إسرائيل أن تعيد تشكيل البيئة الاستراتيجية المحيطة بها من خلال التعاون مع الأردن وتركيا، وإضعاف سوريا وإسقاط نظام صدام حسين في العراق”.

أيديولوجية واستراتيجية المحافظين الجدد

لعل أوضح مثال لشرح أيديولوجية المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، مشروعهم الشهير باسم “مشروع القرن الأمريكي الجديد”، الذي يهدف إلى فرض الهيمنة الأمريكية على العالم بعد أن انفردت الولايات المتحدة بزعامة العالم إثر تفكك الاتحاد السوفييتي، وقد وقع على المشروع في يونيو عام 1997 دونالد رامسفلد، وديك تشيني، وبول وولفوفيتز، وجيب بوش، وزالماي خليل زاد، المبعوث الرئاسي الحالي في العراق والسابق في أفغانستان وغيرهم، ووجهوا رسالة إلى الرئيس بيل كلينتن تطالبه بضرورة:

أولا، زيادة ميزانية الدفاع بشكل “دراماتيكي” لتحديث القوات الأمريكية وتحمل مسؤولياتها العالمية.

ثانيا، تعزيز العلاقات مع الدول الديمقراطية الحليفة وتحدي أمريكا لنظم الحكم المعادية للمصالح والقيم الأمريكية.

ثالثا، تعزيز ودعم عملية الإصلاح السياسي والحرية الاقتصادية في الخارج.

رابعا، قبول أمريكا بدورها الفريد في الحفاظ على نظام عالمي موات للأمن والرخاء الأمريكي وصديق للمبادئ الأمريكية.

وتعددت بعد ذلك خطاباتهم المفتوحة لأعضاء الكونغرس وللرئيس كلينتن، طالبوا فيها باتباع سياسة أكثر حسما في الشرق الأوسط تشمل استخدام القوة للإطاحة بالنظام العراقي. لكن الرئيس كلينتن لم يعرهم اهتماما كبيرا، فانتظروا حتى قبل الانتخابات التي جاءت بجورج بوش إلى البيت الأبيض، واصدروا تقريرا تنبّـأوا فيه بأن التغيير الذي طالبوا به في السياسة الخارجية والدفاعية الأمريكية سيتحقق رويدا رويدا، إلا إذا ما وقع حادث مروع مثل الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور.

وسرعان ما جاء ت هجمات 11 سبتمبر الإرهابية عام 2001، وسارع دونالد رامسفلد صباح اليوم التالي، وقبل أن يتضح لأحد من المسؤول عن الهجوم، ليُصِـر في اجتماع لمجلس الوزراء على أن صدام حسين يجب أن يكون الهدف الأول في الحرب الأمريكية على الإرهاب.

ويقول الدكتور جيمس زغبي، رئيس المعهد العربي الأمريكي، إن أحداث سبتمبر مكنت المحافظين الجدد من استغلال ما وقع لتعبئة الرأي العام الأمريكي لصالح شن حملة أمريكية واسعة على الإرهاب في العالم. وأضاف :”إن المحافظين الجدد ينظرون إلى العالم من خلال مفاهيم واصطلاحات مطلقة مثل الخير مقابل الشر، دون أن تكون هناك أية حلول وسط. ففي أيديولوجيتهم، التوصل إلى اتفاق مع الشر، سيضعف في النهاية قوى الخير. ولذلك، يجب محاربة الشر على الدوام حتى تتم هزيمته”.

وهكذا دخلت الطنطنة بكلمة الشر إلى قاموس المصطلحات الرئاسية بدءً بوصف بوش للإرهابيين بأنهم “منفذو العمل الشرير”، ثم وضعه كلا من العراق وإيران وكوريا الشمالية ضمن ما أسماه “محور الشر”.

وسرعان ما انزلق الرئيس بوش إلى فخ المواقف المطلقة للمحافظين الجدد بمقولته الشهيرة “إما أن تكون معنا أو تكون ضدنا”، رغم أن أي مراقب للأطياف السياسية في العالم يدرك تماما أن العالم ليس مكونا من لونين فقط إما أبيض أو أسود، وأن النظرة المتعقلة للعالم وتعقيدات السياسة الدولية هي التي أوجدت الدبلوماسية عوضا عن اللجوء للحرب دفاعا عن الأمن أو المصالح.

لكن سياسة الحروب الاستباقية التي غير بها الرئيس بوش سياسة الأمن القومي الأمريكي في 17 سبتمبر 2002 تعد نتاجا هاما لتأثيرات المحافظين الجدد. وبهذا، لم تعد الولايات المتحدة بحاجة إلى التعرض لهجوم لكي تشن الحرب، بل إنها تستطيع شن الهجوم بعمل استباقي بمجرد الشعور بخطر محدق، ويمكنها الانفراد بالاستباق أو الاستباق المتعدد الأطراف والاختياري، كما حدث في الحرب على العراق.

وثمة ظاهرة أخرى أخذها الرئيس بوش عن المحافظين الجدد، وهي النزوع إلى المواجهة، استنادا إلى أن مبادئهم تنبع من الخير. فسحب الولايات المتحدة من اتفاقيات ومعاهدات دولية، ورفض التوقيع أو المشاركة في اتفاقات أخرى مثل بروتوكول كيوتو والمحكمة الجنائية الدولية، بحيث لا يتبقى للدبلوماسية الأمريكية إلا التفاوض، فيما يناسب تلك الأيديولوجية.

وسرعان ما أصبح عميد الدبلوماسية الأمريكية كولن باول هدفا منتقى بعناية لانتقادات المحافظين الجدد من أمثال نيوت جينجريتش، الرئيس السابق لمجلس النواب الأمريكي والباحث حاليا بمعهد أمريكان إنتربرايز، الذي أصبح وكرا حصينا لغلاة المحافظين الذين يطالبون بدور متزايد لوزارة الدفاع في السياسة الخارجية الأمريكية، وترشيد السياسة الخارجية، وإصلاح جذري في وزارة الخارجية، بل لم يسلم الرئيس بوش نفسه من انتقاداتهم مثل الهجوم الذي تعرض له العام الماضي، عندما طالب أرييل شارون بوقف عمليات التوغل العسكري في مدن السلطة الفلسطينية، فضلا على الانتقادات التي يوجهها المحافظون الجدد إلى خارطة الطريق التي يأمل الرئيس بوش في أن تكون الوسيلة العملية لتنفيذ رؤيته للسلام من خلال إقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005.

كيف غير المحافظون الجدد أمريكا؟

لجأ المحافظون الجدد إلى تفادي ما وقع فيه الليبراليون من أخطاء في طرح أجندة واسعة من القضايا، لا تتيح لأحد التركيز لتأييدها. فركزوا طرحهم على عدد من القضايا الرئيسية، والإلحاح في ترديد المواقف منها بالشكل الذي يستميل الرأي العام الأمريكي من خلال التركيز على أهميتها للمصالح القومية لأمريكا أو للأمن الأمريكي، مع ربط الأهداف دائما بما يحبه الأمريكيون من ماضيهم، فيكون من الأسهل تذكر أمجاد الماضي، بدلا من هواجس المستقبل التي تنطوي عليها وعود الليبراليين.

كما أن المحافظين الجدد أكثر ثراء من الليبراليين، وأكثر قدرة منهم على جمع التبرعات من المتعاطفين معهم في الشركات الأمريكية الكبرى. وبعد تدبير الأموال، يتم استخدامها بذكاء لاجتذاب العقول في الجامعات والخبرات من كل مكان في أمريكا.

وكمثال على ذلك، تمكنوا من تحييد وتغيير انتماءات الكثير من خبراء العلوم الاجتماعية الليبراليين بتخصيص اعتمادات ومنح ضخمة للأساتذة الراغبين في توجيه بحوثهم نحو دراسات تخدم أجندة المحافظين السياسية، واستهدفوا شباب الجامعات بتمويل دراسة طلاب القانون والإعلام والاقتصاد، لضمان أن الجيل القادم من قادة المجتمع الأكاديمي الأمريكي سيكون أكثر محافظة من المحافظين الجدد.

كما لم يسلم أعضاء الكونغرس من تأثير المحافظين الجدد الذين يستطيعون من خلال إغراق مكاتب المشرعين الأمريكيين برسائل الفاكس من نشطائهم خلق تصورات مبالغ فيها للتأييد الشعبي في دوائرهم الانتخابية لقضايا تهم المحافظين. فيصوت هؤلاء المشرعون لصالح تلك القضايا، ظنا منهم بأنهم يلبون رغبة الناخبين، بينما في الحقيقة يستغل المحافظون الجدد سلبية هؤلاء الناخبين وعدم اتصالهم المستمر بممثليهم في الكونغرس، فتظهر رسائلهم بالفاكس نسبة مضاعفة ترجح كفة آرائهم.

ولا يخفى على أحد المدى الذي وصل إليه تغلغل المحللين والمعلقين من المحافظين الجدد في شتى وسائل الإعلام الأمريكية، للتأثير على الرأي العام الأمريكي وكسب المزيد من التأييد للتوجه المحافظ.

ورغبة من المحافظين الجدد في التأثير المضاعف، سخروا عددا كبيرا من مراكز الأبحاث المعروفة بخزانات الفكر للترويج لأجندتهم السياسية ومعتقداتهم الأيديولوجية، وأغدقوا عليها المنح بعشرات الملايين من الدولارات. وسرعان ما أصبحت تلك المراكز تصدر الأبحاث والتوصيات لصناع القرار والمشرعين الأمريكيين في كيفية التعامل مع القضايا الداخلية، والتحديات والمشاكل الخارجية مع بذل جهود مكثفة لشرح تلك الاجتهادات المحافظة من خلال وسائل الإعلام حتى تصبح بالتكرار والإلحاح، وكأنها باتت الخيارات الوحيدة للسياسة الأمريكية.

ومع ذلك، فإن الرئيس بوش لا يتبع باستمرار ما تروج له دوائر المحافظين الجدد، سواء في وزارة الدفاع أو في خزانات الفكر المحافظة. فقد يستخدم ما يروق له مما يطرحونه، ولكنه لا زال يستعين بالجنرال الدبلوماسي كولن باول في تنفيذ سياسته الخارجية.

وبدأ باول يشعر بالارتياح بعد فشل الصقور في إدارة العراق ما بعد الحرب واستبدال الجنرال جي غارنر بالدبلوماسي الأمريكي السابق بول بريمر، ولكن المراقبين السياسيين يشعرون بأنه بوسع المحافظين الجدد أن يحتفلوا بانتصارهم على التعقل الدبلوماسي، إذا استسلم بوش لضغوطهم وأخذ يطارد بالعصا الاستباقية كل من عصى أوامره الجديدة بالتحول الديموقراطي في الشرق الأوسط، والاستجابة لكل الإملاءات الأمريكية الجديدة.

محمد ماضي – واشنطن

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية