مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أي صيغة لحكم العراق؟

حظي الجنرال غارنر بترحيب كبير، لاسيما في المناطق الكردية Keystone

أصبحت الأمور واضحة إلى حد كبير، إذ لا يبدو أن هناك تحديات جسيمة تقف في وجه ما قررته الإدارة الأمريكية قبل الحرب.

استقر الحاكم العسكري الأمريكي في العراق إلى حين يتم نقل السلطة إلى حكومة عراقية.

سوف تتم إقامة علاقات دفاعية طويلة المدى بين العراق والولايات المتحدة تتواجد بمقتضاها القوات الأمريكية داخل العراق وفق نموذج لن يختلف كثيرا عما حدث في اليابان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل، كما يقول المثل الصيني.

فقد مُـنيت اليابان بهزيمة ساحقة عام 1945، واستسلم ما بقي من قياداتها للقوات الأمريكية في ظل أجواء صدمة وترويع حقيقية بفعل استخدام الأسلحة النووية ضدها، ليتم بعد ذلك إعادة بناء دولة جديدة تولى خلالها الجنرال الشهير ماك آرثر مهمة “الحاكم العسكري” لليابان، واستمرت حالة الاحتلال لمدة 7 سنوات تقريبا (حتى عام 1952). فهل سيعيد التاريخ في العراق بعض ما حدث في اليابان؟

النموذج الياباني

قام التصميم الأمريكي للنظام السياسي الياباني على بناء ديمقراطية برلمانية تستند على أسس لا مركزية أشبه بالفدرالية وفقا لدستور صاغه الضباط الأمريكيون بالتعاون مع ضباط يابانيين، وتم إقراره من البرلمان الياباني، الذي كان تشكل عام 1947 بعد إجراء ما لا يقل عن 45 تعديلا جذريا عليه في ظل مرونة أمريكية، فيما يتصل بأشياء كثيرة، باستثناء الجانب العسكري المتعلق “بالدفاع”.

كانت المادة 9 من دستور ما بعد الحرب في اليابان تتسم بالصرامة، وكان واضحا من كل ما جاء فيها، أنها تقيم “دولة مجردة من الطابع العسكري” Demilitarized State، تنبذ التهديد باستخدام القوة العسكرية في ظل قيود على قرار الحرب أو نشر القوات في الخارج، وعلى امتلاك القوة العسكرية. فما تم تشكيله عام 1950 هو “قوة للدفاع الذاتي، يسيطر عليها المدنيون أشبه بحرس وطني، لكنها كانت مع ذلك أقوى جيوش شرق آسيا.

الجانب الآخر من الترتيبات الدفاعية، ارتبط بتمركز قوات أمريكية كبيرة العدد في قواعد عسكرية أمريكية باليابان في إطار ترتيبات عسكرية طويلة المدى لا تزال مستمرة حتى الآن رغم مرور 58 سنة على نهاية الحرب. فهناك قواعد أمريكية في اليابان تتمركز فيها قوة بحجم 50 ألف جندي أمريكي.

وقد اتضح هذا الإصرار الدفاعي في حالة ألمانيا أيضا. فعلى الرغم من اختلاف النموذج السياسي الذي تم إرساؤه على مدى 10 سنوات بعد عام 1945 في “ألمانيا الغربية عما تم في اليابان، إلا أنه كانت هناك مشكلات ربما قد توحي بما يمكن أن يحدث في العراق. فقد كانت هناك مشكلة كسر النزعة العسكرية الألمانية وحظر امتلاكها أسلحة تدمير شامل، وأسفرت ترتيبات أوضاعها عن عدم تشكيل جيش ألماني مستقل تحت قيادة ألمانية، وإنما وحدات عسكرية (ضخمة أيضا) خاضعة لقيادة عمليات الناتو، واستمر هذا الوضع كذلك في ظل وجود قواعد عسكرية أمريكية على الأراضي الألمانية.

تقرير جيرجيان- ويزنز

كان التفكير الأمريكي بشأن اليوم التالي للحرب في العراق قد تبلور قبل عدة شهور من الحرب وعبرت عنه وثائق عديدة أشهرها على سبيل المثال، تقرير أعدته مجموعة عمل تم تشكيلها بالتعاون بين مجلس العلاقات الخارجية ومعهد بيكر للسياسة العامة، وأشرفت على صياغته شخصيتان عملتا لفترة طويلة داخل المؤسسات الأمريكية في إدارات تتصل بشؤون الشرق الأوسط، هما إدوارد جيرجيان وفرانك ويزنر، وتم تقديمه للإدارة الأمريكية تحت عنوان “مبادئ عامة لسياسة الولايات المتحدة في العراق بعد الحرب”.

اعتمد التقرير في تصوراته لكيفية التعامل مع عراق ما بعد الحرب على اقتراح الاقتراب من المشكلة عبر ثلاث مراحل. ترتبط الأولى بالخطوات الضرورية التي يجب القيام بها في المدى القصير، والثانية باستراتيجية انتقالية للتصرف في المدى المتوسط، والثالثة بأهداف نهائية يتم العمل على أساسها للمدى الطويل، وتتمثل أهم ملامح كل منها فيما يلي:

1. المدى القصير، يمتد لفترة تصل إلى شهرين بعد توقف العمليات العدائية، وتسيطر خلاله حكومة طوارئ انتقالية تحت قيادة أمريكية يدعمها مستشارون عراقيون في ظل وجود القوات المشاركة في الحرب، ويتم خلالها القيام بمهام أمنية واقتصادية وسياسية إدارية (حكومية) عاجلة. ويرصد التقرير 18 مهمة رئيسية من بينها نزع أسلحة التدمير الشامل، ووقف أعمال العنف، وحماية حدود ومرافق العراق، ونشر القوات في المدن، وفتح خطوات الاتصالات والنقل، والتعامل مع مسألة إنتاج النفط، وتفكيك نظام صدام حسين، وإرساء الإدارة المدنية، وتوزيع المساعدات الإنسانية، وتأهيل الخدمات العامة، وإيواء اللاجئين، وإجراء المشاورات مع القيادات العراقية لترتيب المرحلة التالية.

2. المدى المتوسط، يمتد لفترة تتراوح بين 3 – 24 شهراً، تسيطر خلالها حكومة عراقية تحت إشراف مزدوج دولي، ترتبط مهامها بإقامة ترتيبات أمنية طويلة المدى، وتدريب القوات العراقية وقوات الأمن، مع تحديد احتياجات صناعة النفط، وخطة إعادة بناء وتأهيل المشروعات، وإعادة جدولة الديون الخارجية مع التعامل مع مشكلة بقايا حزب البعث ومسألة مجرمي الحرب، وإقامة مجلس تشريعي عراقي، والحفاظ على الاستقرار الداخلي، وإجراء انتخابات محلية وبرلمانية، وخطوات مماثلة في هذا الاتجاه.

3. المدى الطويل، ويمتد لفترة عامين تقريباً في ظل حكومة عراقية كاملة السيادة تقوم بمهام جعل العراق خال من أسلحة التدمير الشامل، وإرساء سياسات غير تهديدية للدول المجاورة، والتقدم في اتجاه إدماج العراق في المجتمع الدولي، وبناء اقتصاد السوق، وتطوير قطاع النفط، مع تطوير الهيكل السياسي على أساس مبادئ الديموقراطية، وتمثيل كل فئات السكان، وحقوق الإنسان، وحكم القانون والمؤسسات، مع صدور قرار من مجلس الأمن بنهاية تلك العملية، وعودة العراق بشكل كامل إلى المجتمع الدولي.

داخل بغداد

إن هذا التقرير يقدم، على ضوء ما أسفرت عنه التجارب التاريخية عمليا، فكرة عامة عما قد يحدث في العراق. فالخطوط العامة للتقرير تجد تعبيرات واضحة لها على الأرض، لكن في ظل إطار مختلف كثيرا عما شهدته اليابان أو ألمانيا. فالتركيبة العرقية والدينية في العراق تلقي بتأثيراتها العنيفة التي تجعل من العراق حالة خاصة، وهناك فصائل المعارضة العراقية التي لم “تهزم في حرب” وتعتقد أنها شريكة في غنائمها، وضغوط إقليمية ودولية، قد لا تحدد للولايات المتحدة خطواتها، لكنها تضع سقوفا عليا لما يمكن أن يتم مستقبلا. فالعراق حالة مربكة.

في هذا الإطار، فإن ما يجري عمليا بشأن الحكم العسكري في العراق يشير إلى واقع محدد يرتبط بنقطتين على الأقل، هما:

1. أنه تم تعيين حاكم أمريكي للعراق هو الجنرال غارنر، على رأس طاقم أمريكي يتألف من حوالي 400 شخص معظمهم من العسكريين، مع استمرار وجود القوات العسكرية على أراضيه، في ظل ملامح عسكرية، مدنية مزدوجة لوضعه. فهو عسكري عمل في شمال العراق من قبل، لكنه عسكري سابق جاء من الحياة المدنية وليس من الجيش. فلم يتم تعيين الجنرال تومي فرانكس، الذي كان سيعتبر بالضرورة حاكما عسكريا مثل ماك آرثر، لكن لم يتم أيضا اختيار شخصية مدنية. ويعمل غارنر بصفة أنه الحاكم الإداري المكلف بإدارة شؤون العراق لفترة انتقالية، بالتعاون مع إدارات عراقية في مختلف المدن، لتثبيت الأمن وإعادة الخدمات والمساعدات الإنسانية، فيما يبدو وكأنه إشراف (أو وصاية) على العراق، وليس حكما أو احتلالا للدولة في ظل تعهد بسحب القوات وتسليم الأمور إلى حكومة عراقية بمجرد انتهاء الإدارة الانتقالية من مهامها، فقد تم إرساء صيغة معدلة ظاهريا عن صيغة الحاكم العسكري.

2. أنه تم الحديث مبكرا عن النوايا الخاصة بإقامة علاقات عسكرية طويلة المدى مع الحكومة العراقية (التي ستوقع على معاهدة بهذا الشأن)، والتي ستتواجد القوات الأمريكية في إطارها في أربع قواعد عسكرية بوسط وجنوب وغرب وشمال العراق، مع حرية الوصول إلى تلك القواعد من جانب وزارة الدفاع الأمريكية، وبالطبع التحرك خارجها داخل العراق أو عبر حدوده، مع ترتيبات خاصة للجنود، كما هو قائم في الدول الأخرى مثل اليابان أو كوريا الجنوبية أو ألمانيا أو قطر. ويعنى ذلك أن القوات الأمريكية سوف تنسحب من المدن العراقية إلى القواعد العسكرية مع وجود تحركات لتشكيل قوة حفظ سلام متعددة الأطراف تحت قيادة أمريكية تشارك فيها دول عديدة كتركيا وعدد من الدول الغربية، دون أن يتحدد وضع الدول العربية حتى الآن بهذا الشأن، ودون أن يتم التطرق بجدية إلى التشكيل المحتمل للجيش العراقي، والذي بدأت لجنة من العسكريين العراقيين والأمريكيين في التداول بشأن تشكيله.

وتشير المراحل المشار إليها في التقرير السابق إلى مشكلات حادة تتصل بالجدول الزمني. فالمهام المذكورة قد لا تكتمل حتى على مدى عامين. والسيناتور ريتشارد لوجار، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ على سبيل المثال، لا يتوقع قيام حكومة عراقية قبل 5 سنوات، ولا تحاول الإدارة الأمريكية تحديد جداول زمنية، في حين لا يوجد اتفاق بين فصائل المعارضة العراقية حول أي جدول زمني.

وبينما تتظاهر بعض تيارات الشيعة في ساحة الفردوس مطالبة بخروج القوات المحتلة على الفور، يتحدث أحمد الجلبي عن ضرورة بقائها لمدة عامين على الأقل، ولم تظهر في الواقع بعد تلك المؤشرات المتماسكة التي يمكن الاعتماد عليها لتحديد ماديات زمنية، لكن المؤكد أنها لن تخرج (من المدن)، إلا إذا قررت الولايات المتحدة أن مهمتها قد انتهت.

في هذا الإطار، يبدو أن النموذج العراقي سوف يكون حالة معدلة من النموذج الياباني فيما يتصل بأبعاده العسكرية، فليس هناك شكلا حكم عسكري جامد واضح “مريح”، بالنسبة للولايات المتحدة، في مظاهره واستقراره الزمني، لكنه سيقوم بنفس المهام تقريبا، كما سيستمر التواجد العسكري الأمريكي في القواعد العراقية إلى أجل غير مسمى، وهنا تكتسب بعض الأعراض الألمانية أهمية خاصة. فعندما سقط نظام ألمانيا الشرقية واتجهت الألمانيتان نحو الوحدة، كانت شروط الولايات المتحدة للاعتراف بالدولة الموحدة عام 1990 واضحة، وهي: إما بقاء القوات تحت قيادة الناتو، وإما أن تكون ألمانيا دولة محايدة، فسوف يُـتـرَك العراق ليدير شؤونه سياسيا في مدى زمني ما، لكنه لن يُـتـرَك لنفسه عسكريا في المستقبل المنظور.

د. محمد عبد السلام – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية