مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

إيران: سقط الإصلاح، عاشت البراغماتية؟

بعد الإطاحة بالإصلاحيين، ماذا سيفعل المحافظون في إيران بانتصارهم الإنتخابي؟ Keystone Archive

"هذه أول مؤامرة سرّية تجري في العلن". هكذا وصف رجل دين شيعي لبناني محايد نتائج الانتخابات التشريعية الإيرانية الأخيرة التي فاز فيها المحافظون بغالبية مقاعد البرلمان.

لكن هذا الوصف، رغم ما فيه من سخرية، يتضمن الكثير من الحقيقة…

المحافظون الإيرانيون بدؤوا في التخطيط لإزاحة الإصلاحيين عن مفاصل السلطة التنفيذية منذ النصر الكاسح الذي حققوه في الانتخابات البلدية في فبراير 2003.

كيف؟ عبر التعمّق في دراسة نتائج الاقتراع البلدي، الذي أوصل المحافظين إلى استنتاج مدهش: امتناع الإيرانيين عن التصويت (15% فقط اقترعوا آنذاك) نعمة وليس نقمة، لأنه ببساطة يعني امتناع جماهير الإصلاحيين عن التصويت، مما يترك الصناديق حكرا على “جماهيرهم” هم.

هذه الحصيلة طبقها المحافظون بحذافيرها في الانتخابات التشريعية. فقد مسحوا، عبر مجلس الوصاية على الدستور الذي يسيطرون عليه، أسماء نصف المرشحين الإصلاحيين، بمن فيهم 83 نائبا في المجلس الحالي. وأغلقوا صحيفتين إصلاحيتين رئيسيتين، ووضعوا الرئيس خاتمي أمام خيار مرير: إما مقاطعة الانتخابات وبالتالي الاستقالة من الرئاسة، أو المشاركة فيها وبالتالي الاستقالة من زعامة الحركة الإصلاحية.

وبعد هذه الخطوات، باتت الطريق مفروشة أمام “الانقلاب السري” بورود النصر الذي تكلل هو نفسه بنصر آخر: ارتفاع نسبة المشاركين في الانتخابات إلى ما بين 40 إلى 50% (المحافظون يقولون إن النسبة تصل إلى 60%).

لكن ماذا بعد هذه الخطوة؟ وهل سيتمكّن المحافظون من المحافظة على النصر، أم أنهم سيدشنون مرحلة من الإستقرار الخطر في إيران؟ وأي مصير ينتظر إيران الآن؟

إلى أين؟

ربما ليس ضروريا القول إن الإصلاحية الخاتمية قد أحيلت إلى رفوف التاريخ. فهي، على أي حال، سقطت في الامتحان الشعبي بسبب عجزها طيلة السنوات الست الماضية عن تحقيق برامجها، قبل أن يسقطها انقلاب المحافظين.

فبرغم مرور أكثر من سبع سنوات على سيطرة الإصلاحيين على الحكومة والبرلمان، لم تشهد إيران أية خطط تنمية ونمو اقتصادي قادرة على تلبية الطلب المتزايد على فرص العمل لشعب فتي يبلغ عدد الشبان فيه (ما دون سن الخامسة والعشرين) أكثر من 65 في المائة. كما لم ينجح الإصلاحيون في وقف مسلسل هجرة الشباب إلى الغرب (200 ألف شاب العام الماضي)، وفي الحد من التضخم (17%)، وفي مكافحة المخدرات (مليونا مدمن)، ناهيك بالطبع عن التصدي للفساد المستشري.

لكن أفول الخاتمية لا يعني أن إيران ستكون من الآن فصاعدا خلوا من الصراعات السياسية. فالإصلاحيون سيعودون الآن إلى نقطة انطلاقهم الأولى: المجتمع المدني. ومن هناك سيحاولون بناء أحزابهم وتطوير منظمات غير حكومية.

ويشرح النائب السابق محمد رضا خاتمي، شقيق الرئيس خاتمي ورئيس أكبر حزب إصلاحي، هذا التوّجه الجديد بقوله: “الخروج من البرلمان وحتى من الحكومة، فرصة بالنسبة لنا لإعادة تنظيم حزبنا. هذه كانت إحدى المشاكل الكبرى في الحركة الإصلاحية، أي نقص التنظيم”.

ويوافق رضا يوسوفيان، أحد النواب الإصلاحيين، على تحليل خاتمي مضيفا إليه: “إذا ما تم الإطلال على الحركة الإصلاحية كحركة داخل الحكومة، فأنا سأقول نعم، هذه هي نهاية هذه الحركة. أما إذا ما تم اعتبارها ظاهرة اجتماعية، فسنكتشف أنها لا تزال حية للغاية.

الإصلاحيون، إذا، سينسحبون إلى المجتمع. فهل يعني ذلك أن الساحة الإيرانية ستخلو للمحافظين وستخلو من الصراعات؟ حتما لا.

التيار .. الثالث

فالمحافظون أنفسم، وبرغم إتفاقهم على الثوابت التي أشرنا إليها، ينقسمون إلى تيارين كبيرين إثنين: المحافظون المتشّددون، والمحافظون الإصلاحيون (أو بالأحرى البراغماتيون).

وهذا يعني، بكلمات أخرى، أن عقارب ساعة الصراع السياسي في إيران ستعود القهقرى إلى النمط الذي كانت عليه خلال عهد الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني (1989-1997)، حين كان التنافس على أشده بين المحافظين البراغماتيين برئاسة رفنسجاني وبين المحافظين المتطرفين.

لكن هنا مع فارق مهم: إيران الجديدة ستكون هذه المرة أرضا بلا فضاء يفصل بين قوة الدولة وحق المجتمع المدني. وهو فضاء وفرّه الإصلاحيون طيلة العقد الماضي لـ80% من الإيرانيين، عبر مزج علقم حكم الاستبداد بقليل من سكّر الحريات.

ثم إن إيران الجديدة ستدّشن رسميا نهاية حقبة “ثورة الجماهير” الملايينية، وبداية حقبة “ثورة الأقلية” التي لن تتعدى نسبتها الـ10% من الأمة الإيرانية. والحصيلة: جمهورية إسلامية لا تعترف لا بجمهوريتها ولا بإسلاميتها الأغلبية الساحقة من الإيرانيين.

بالطبع، المحافظون الإيرانيون يدركون تماما هذه الحقائق. فهم أثبتوا مرارا وتكرارا أنهم رجال سياسة قبل أن يكونوا رجال دين. لا بل أثبتوا أيضا أنهم أكثر دهاء وحكمة بكثير من العديد من جهابذة السياسة المتقدمين منهم والمتأخرين.

ولذلك لا يتوقع أن يترك هؤلاء الأمور على عواهنها على هذا النحو الخطر. وهنا بالتحديد سيطل الشيخ هاشمي رفسنجاني، أو تياره، برأسه.

فالملالي سيقدمونه، وهو سيقدم نفسه، على أنه التيار الثالث الأكثر عقلانية من تياري المحافظين المتطرفين والإصلاحيين المتطرفين. والملالي سيطرحونه، وهو سيطرح نفسه، على أنه الأمل الجديد-القديم الأكثر واقعية لتحقيق طموحات الإيرانيين في الإصلاحات.

كما أن الملالي سيوحون، وهم سيوحي أيضا، بأنه ليس مجرد ألعوبة في يد المحافظين، وبأنه قادر على إنجاز العديد من البرامج التي فشل الإصلاحيون في تحقيقها، برغم سيطرتهم على موقعي الرئاسة والبرلمان.

الورقة الدولية

والى ورقة رفسنجاني، هناك الورقة الدولية. إذ لا يستبعد الآن أن يقدم المحافظون على تنازلات كبرى جديدة للولايات المتحدة عبر الاتحاد الأوروبي، أو حتى مباشرة، لمحاولة الحصول على شرعية دولية. وهذا يمكن أن يتم في مجالات التسلح النووي، كما في العراق والقضية الفلسطينية والإرهاب، وصولا ربما إلى ورقة حزب الله في لبنان.

والحال أن المحافظين بدأوا بتقديم هذه التنازلات للغرب حتى قبل الانقلاب الانتخابي. فهم أبرموا شهر عسل جديد مع مصر برغم علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل. وهم محضوا مجلس الحكم العراقي الدعم برغم أنه معّين أمريكيا. وهم أخيرا قبلوا للمرة الأولى منذ اندلاع الثورة بمساعدات أميركية لضحايا زلزال بم.

الرهان هنا واضح: الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لا يستطيع أن يمنع سيلان لعابه وهو يرى أحد أبرز أركان “محور الشر” يقدم التنازل إثر الآخر في مجالات تمس جوهر مصالحه في الشرق الأوسط : أسلحة الدمار الشامل، العراق، الصراع العربي- الإسرائيلي.

ثم إن هذا الغرب، وعلى رأسه أوروبا هذه المرة، لا يستطيع إلا التعامل مع الحكومة “المنتخبة ديموقراطيا” التي ستنشأ بعد انتخابات فبراير، بغض النظر عن عدالة أو لا عدالة هذه الانتخابات.

أزمة الشرعية

المحافظون يعتقدون أنهم قادرين على تحويل انقلابهم الانتخابي إلى انقلاب شرعي. وهذا في الداخل كما في الخارج. لكن هل هذا الاعتقاد في محله؟ هل ينجو الملالي المحافظون بفعلتهم؟

الأرجح أن الأمر سيكون كذلك على المدى القصير، بفعل تشظي المعارضة الإصلاحية، وعدم تبلور معارضات أخرى أكثر راديكالية.

لكن على المديين المتوسط والطويل لن تكون الصورة زاهية كثيرا بالنسبة لهم . لماذا؟ لسبب بسيط: الشرعية لا تباع ولا تشترى. لا تؤخذ ولا تعطى. إنها عقد بين الحاكمين والمحكومين. وبرغم أن هذا العقد قد يكون روحيا لبعض الوقت (كما حدث بين الإيرانيين والإمام الخميني عشية ثورة 1979 ثم لفترة بينهم وبين محمد خاتمي، أو بين العرب وجمال عبد الناصر)، إلا أنه في كل الوقت عقد مادي تتحدد فيه أساسا الحقوق والواجبات بين الطرفين.

العقد بشكليه ليس موجودا الآن في إيران ما بعد 20 فبراير 2004. ولا يتوقع أن ينجح الشيخ رفسنجاني، مهما فعل، في إجتراح معجزة التوّصل إلى عقد جديد. لا هو قادر على ذلك، ولا المحافظون بالطبع سيسمحون له بالوصول إلى هذا الحد.

وهذا ما قد يعيد الأوضاع في إيران إلى نقطة الصفر مجددا. وهذا أيضا ما قد يجعل المحافظين يندمون بعد قليل على إنقلابهم السري ضد الإصلاحيين، لأنهم سيدركون حينها أنه لم يعد هناك من سيمنع نشر غسيلهم العلني أمام أعين كل الإيرانيين.

وهنا، ربما كانت “نيويورك تايمز” على حق حين علّقت عل الانقلاب السري للمحافظين بقولها: “يتعّين على إدارة بوش وحلفاءها الأوروبيين أن يسيروا الآن فوق حبل دقيق: إجبار النظام في طهران على الاختيار بين التسليم بخطوة التفتيش على أسلحته النووية وبين الرقابة والعزلة الدوليين، لكن في الوقت نفسه الامتناع عن إطلاق أية تهديدات باستخدام القوة”.

لماذا الامتناع عن التلويح بالقوة؟ لأنه (تضيف الصحيفة الأمريكية) “إذا ما ترك الملالي الحاكمين لمصيرهم، فسيقومون بعمل جيد. إذ أن سياساتهم ستلّقح الايرانيين ضد مرض ديكتاتورية رجال الدين”.

سعد محيو- بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية