مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

احتلال العراق.. وكشف المستور

هل ستنجح العشائر العراقية في بناء دولة ديموقراطية حديثة تكون نواة لنظام عربي جديد؟ Keystone

مع كل يوم يمر على احتلال العراق تتكشف ظواهر وحقائق طالما غابت عن أعين المحللين العرب أو أنهم تجاهلوها.

ولم تكن هذه الظواهر محل الاهتمام الكافي والمناسب بالقدر الذي يتناسب مع أهميتها ودورها في الحياة العربية، سياسيا واجتماعيا وثقافيا.

لئن كانت الأيام الأولى لاحتلال العراق قد كشفت بعض المستور الذي قهرته الدولة العراقية في العهد “الصدامي”، فإن الأيام التالية أخذت تُـزيح الكثير من الحُجب عن ظواهر أخرى، من شأنها أن تهز الكثير من القناعات التي سادت في العقل الجماعي العربي، خاصة فيما يتعلق بمسألة الدولة العربية، وإلى أي مدى تعكس بالفعل مقولات وافتراضات الدولة الوطنية الحديثة، بما فيها المواطنة المتساوية والمؤسساتية ودور القانون، والحكومة الصالحة والفرص المتكافئة، والفصل بين السلطات وغير ذلك، مما بات يُـشكّـل أساسا لا غنى عنه للدولة المعاصرة.

رغم “الحداثة”.. القبيلة هي الأساس

ولئن كان البُـعد الطائفي قد فرض نفسه على جزء كبير من الصورة العراقية، فإن القبيلة والعشيرة لم تكن غائبة قط. لكن الجديد أن تظهر القبيلة كأساس للعلاقات التحتية بين مجتمعات تمتد عبر أكثر من دولة “عربية حديثة”، وهو ما كشفته محاولات قيادات كبيرة من ثلاث دول خليجية، وهي السعودية والبحرين والكويت، للإفراج عن شيخ قبيلة عنزة في العراق، الشيخ متعب محروت الهذال ذي السبعين عاما، الذي اعتقلته القوات الأمريكية بتهمة إيوائه عناصر عربية غير عراقية بصورة غير شرعية، (لم يتم الإفراج عنه إلا يوم 25 سبتمبر 2003)، ويُفهم أنها سببت المتاعب لقوات الاحتلال.

والتهمة هذه في العُـرف القبلي شرف كبير، يبدأ من إيواء المستجير وينتهي بالذود عن شرف أحد فروع القبيلة في أي مكان كان، وأيا كانت التبعات.

الواقعة في ذاتها تفسر الكثير مما هو غائب، أو لنقل مما لا يُسلط عليه ضوء كثير. فهناك امتدادات قبلية وعشائرية بين بلدان الخليج والجزيرة العربية، وبعضها خارج تلك المنطقة ويمتد إلى المغرب العربي، وإنه أيا ما كانت جنسيتها الحديثة التي تحملها في هذا البلد أو ذاك، فهي في النهاية جزء من كل كبير.

وقبيلة عنزة هذه نموذج لقبيلة “أم”، لديها امتدادات في أكثر من بلد خليجي بحكم الهجرة والانتقال والتزاوج مع القبائل الأخرى، وتعود في أصولها إلى ما يُـعرف بالعرب العدنانية.

وحسب ما أورده البغدادي في مخطوطته الشهيرة “سبائك الذهب في معرفة أنساب العرب”، فعنزة أخ وائل، وكلاهما يعودان إلى ربيعة بن ربيعة، والذي كانت إخوته أياد وإنمار ومضر، وكلهم أبناء نزار بن معد بن عدنان، وهو الجد الأكبر التي تفرعت منه القبائل العدنانية كلها، كقبائل مضر وإنمار وأياد.

والأولى، أي مضر، خرجت منها قبائل قيس مضر أو قيس عيلان، وإلياس التي خرجت منها قريش، أشرف قبائل العرب، بعد ستة أجيال.

تجذر قبلي عبر التاريخ

ويذكر التاريخ للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه حث القبائل العربية في الجزيرة على الانتقال والترحال إلى بلاد جديدة لتحمل معها الإسلام، ولتكون بمثابة قواعد أمامية أو ثغور ومرابط للدفاع عن الدولة الإسلامية الفتية، ووعدها آنذاك بأن تحصل على نصيب من مدخول بيت المال.

وكان ذلك بداية هجرات لقبائل عربية بكاملها من الجزيرة العربية إلى بلاد الرافدين ومصر وبلاد الشام، ومنها قبيلة عنزة. ويذكر التاريخ أيضا أن بعض هذه القبائل العربية قد تشيعت قبل حوالي قرنين، وهو الأمر الذي يجعل الشيعة في العراق مقسمين بين شيعة عرب خالصة، وشيعة من أصول فارسية. وتلك بدورها واحدة من أسس الانقسام الموجودة تحت السطح بين شيعة العراق وبعضهم البعض.

والتأمل في خريطة توزع كل تلك القبائل وبطونها وأفخاذها وعشائرها المختلفة، يدرك أن القبيلة ما زالت تعيش في الوجدان الاجتماعي والحضاري للمجتمع العربي ككل، وما زالت لها سطوتها، وما زال لها دورها الذي لا تسلط عليه الأضواء كثيرا إلا في حالات محدودة جدا، لعل أبرزها اليمن السعيد.

فوجود القبيلة وما يتفرع عنها من عمائر الدم وصلاتها، والبطون والأفخاذ، والعشائر والفصائل والرهط، لا يعنى سوءا كله، ففيه قيم التجمع والتكاتف والمعاونة على الغريب العدو، ولكنه يُعد معاكسا لحركة التاريخ إذا ما ظل الأمر مرهونا بسيادة تقاليد الدم، وسطوة الشيخ الكبير على كل كبيرة وصغيرة، والتي تعوق التقدم الإنساني والنضج الحضاري، وتحول المؤسسات إلى مجرد واجهات ديكور فارغ المضمون.

النموذج “الصدامي”.. عشائري وطائفي أيضا

لعل ما جرى ويجري في العراق يوضح الصورة بعض الشيء، حيث تأخذ الأمور منحى يمكن وصفه بالعكسي. فبدلا من تأكيد مفهوم المواطنة العراقية، يتم إعادة البناء السياسي وفقا للحصص الطائفية والعرقية، (مفهوم المحاصصة السائد في لبنان وأصبح سائدا في العراق)، وبدلا من بناء المؤسسات العراقية وفقا لمفهوم الفرص المتكافئة، يتم توزيع الحقائب بناء على العلاقات القرابية والعشائرية.

فوزير النفط العراقي هو الابن للعلامة الشيعي محمد بحر العلوم عضو مجلس الحكم الانتقالي، ووزير الخارجية هوشيار زيباري هو الخال للزعيم الكردي مسعود برزاني، وهكذا دواليك في نسبة معتبرة من أعضاء الوزارة العراقية، مع الأخذ في الاعتبار مدى القرب والتعاون مع سلطة الاحتلال التي تمثل المرجعية الفعلية في إدارة العراق.

وبالطبع، يمكن إيراد الكثير من الأسباب التي تبرر فعلا كهذا. فالنموذج “الصدامي” الذي حكم العراق حوالي أربعة عقود، وبُـنِـي على تجربة سابقة للدولة الوطنية المعاصرة منذ الاستقلال، واستند إلى صيغة مؤسسية ذات طابع حديث، ثبت أنها لم تكن سوى شكل فاقد للمضمون.

فقد كان هناك الرئاسة والوزارة والسلطة القضائية والحزب ومؤسسات سياسية واجتماعية وثقافية أخرى لا حصر لها بما فيها غير الحكومية. في الوقت ذاته، كانت الطريقة التي تدار بها كل هذه الأطر المؤسسية المعاصرة شكلا، طريقة عشائرية وقبلية بالأساس، بل وطائفية وعرقية أيضا، حيث استبعدت فئات اجتماعية من العملية السياسية لأسباب عرقية كالأكراد، أو لأسباب طائفية كالشيعة.

بعبارة أخرى، إن العراق “الصدامي” لم يكن سوى نموذج طائفي عرقي يستند إلى مفاهيم إقصائية بالأساس. وما يحدث في العراق الآن هو إعادة إنتاج النموذج ذاته. والإقصاء هنا، وإن بدا أقل نسبيا، لكنه ما زال موجودا.

فهناك فئات اجتماعية وطائفية تم استبعادها، إما لأنها كانت متورطة مع النظام السابق، أو لأنها ليست متعاونة مع الاحتلال بالقدر الذي يسمح لها الدخول في صلب عملية إعادة البناء، كما هو حال الحركة الدستورية، وكلا الأمرين يتم تبريره سياسيا.

الدولة العربية الحديثة شكل بلا مضمون

هذه العملية التي تجري في العراق وتجسد القيم العشائرية والقبلية والعرقية، ليست بعيدة في الواقع عن تراث الدولة العربية الحديثة في باقي المنطقة العربية، سواء أخذت الشكل الملكي أو الشكل الجمهوري، وسواء كانت ثورية أو محافظة، وسواء ادعت الانفتاح على العولمة أو تحفظت على بعض مضمونها.

فاليمن الجمهوري الذي ثار على الطائفية منذ عام 1962، تتحكم فيه القبيلة والعشيرة بكل مسارات الحياة السياسية والاقتصادية. والحياة الحزبية اليمنية الحديثة، بل والسياسية برمتها، ليست سوى انعكاس لحالة القبيلة وطريقة إدارتها لشؤونها اليومية، ولكنها تفعل ذلك على الإطار اليمني الوطني ككل.

وحتى الشطر الجنوبي الذي استقل عام 1967 وسادت لديه الاتجاهات الماركسية الكلاسيكية، وبرز كنموذج ثوري عربي، وتحكم فيه الحزب الاشتراكي اليمني واعتبر نفسه نموذجا للدولة الحديثة التي تتجاوز الانقسامات الأولية في المجتمعات البدائية حين تعرض لانقسام وحرب أهلية طاحنة في الأول من يناير 1986، ذهب كل فريق للاحتماء إما بقبيلته أو بعشيرته أو بأهل منطقته التي ينحدر منها، ووقتها كان التندر، ماذا فعل الحزب التقدمي، إذا كانت صراعاته تحسم بالسلاح ووفقا للتقاليد والتراث اليمنى الشهير؟

التندر المحزن عربيا

غير أن هذا التندر المحزن قبل 17 عاما، والذي كشف تجربة حزبية تعالت على واقعها وتصورت أن إطلاق الشعارات الثورية كفيل بأن يغير الواقع وينقله من حال إلى آخر دون جهد حقيقي للتغيير والتطوير، يكاد هو نفسه ينطبق حرفيا، ليس فقط على العراق قبل وبعد صدام، وإنما على عموم الدولة العربية.

فمن لم يكن لديه انقسامات طائفية وعرقية واضحة كالحالة العراقية واللبنانية والسورية، يجد انقسامات من نوع آخر تستند إلى المناطق، أو ما يعرف بالجهوية في بلدان المغرب العربي، والمحافظات والولايات، كما في مصر والسودان، والعشيرة كما في ليبيا وبلدان الخليج العربية. وفي العديد من الحالات، تمتزج كل هذه العناصر على نحو فريد، بل وتتقاطع فيما بينها عبر أكثر من دولة “عربية حديثة”.

وفي حال كهذا، يبدو المنطق مؤيدا لافتراض أن الأصول القبلية الواحدة أو القريبة تدفع للتعاون والتكاتف، غير أن التجربة العربية أثبتت عكس المنطق دائما، وتلك بدورها غرابة اجتماعية وثقافية أخرى يختص بها العرب دون غيرهم من الأمم.

د. حسن أبو طالب – القاهرة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية