مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الحلقة الأخيرة من سياسة “تعدّد البُـعد” التركية..

الزعيم الكردي مسعود البرزاني مستقبلا وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو في أربيل يوم 30 أكتوبر 2009 Keystone

كسرت تركيا الحلقة الأصعَـب والأكثر حساسية في سياستها الخارجية، من خلال الزيارة التاريخية غيرِ المسبوقة، التي قام بها وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو ومعه وزير التِّـجارة ظفر تشاغليان إلى اربيل، عاصمة إقليم كردستان في نهاية شهر أكتوبر الماضي.

وقد شكِّـل العراق أحد أهم الدوائر في العلاقات التركية خلال الحرب الباردة. فنصف التجارة الخارجية التركية مع العالم العربي قبل عام 1990، كانت مع العراق. والتعاون النّـفطي الأهم لتركيا، كان مع العراق، ولاسيما عبْـر خطِّ كركوك – يومورطاليق، على البحر البيض المتوسط.

والعراق كان ساحة التحرّك التُّـركي الأكثر حرية، بالنسبة لمطاردة مُـقاتلي حزب العمال الكردستاني، بالتعاون مع نظام الرئيس السابق صدّام حسين. وحين هُـزم صدّام بعدَ حرب تحرير الكويت، كان لتركيا نفوذ كبير في شمال العراق وكانت “آغا” تلك المنطقة، لجهة القُـدرة على التحرّك وامتِـلاك أوراق اللّـعبة والتأثير على القِـوى الكُـردية هناك.

غير أن الغَـزْو الأمريكي للعراق واحتلاله في عام 2003، كان القِـشّـة التي قصَـمت ظهْـر تركيا وجرَفت في طريقها العلاقات التركية – الأمريكية، إذ أن عدم مشاركة تركيا في احتلال العراق، وضعها خارج حِـسابات الإدارة الأمريكية، التي مضت بمُـفردها في رسْـم الخريطة السياسية والعسكرية وحتى الجغرافية للعراق.

وبمُـوجِـب السياسة الأمريكية هذه، لم تخرُج تركيا من المُـعادلة العراقية فحسب، بل تعرّضت إحدى أهم خطوطها الحُـمر إلى التصدّع، بل الانهيار، وهو قيام الكِـيان الكردي في شمال العراق، الذي وإن لا يزال في إطار الفدرالية، إلا أنه يُـلامِـس واقِـع الدولة المستقلّـة في كثير من القضايا.

بعد سبع سنوات من الانتظار

انتظرت تركيا سبْـع سنوات كامِـلة قبل أن تقرِّر العوْدة إلى المعادلة الداخلية العراقية، بسبب عاملين محفّـزيْـن: الأول، تمركُـز عناصِـر حزب العمّـال الكردستاني في منطقة جبال قِـنديل في إقليم كردستان، وتحميل أنقرة لسُـلطات إقليم كردستان كما حكومة بغداد، بإيواء إرهابيين.

والعامل الثاني، هو أن عودة تركيا إلى العراق، تتزامن مع بدءِ العدِّ العكْـسي لانحِـسار الوجود الأمريكي العسكري على الأقل، تمهيدا للانسِـحاب الأمريكي الكامل.

تأتي سياسة الانفتاح التركي الجديدة على العراق في إطار عِـدّة عوامل: الأول، هو أن سياسة تعدّد البُـعد التركية قد شهِـدت زخما غير مسبوق في الأشهر الأخيرة عبْـر اتِّـفاقيات مع سوريا وأرمينيا وإيران. ومن غير المُـمكن أن تبقى “جبهة” أساسية مثل العراق خارج نِـطاق هذه السياسة. فجاء الانفتاح على العراق امتِـدادا طبيعيا لهذه السياسة، ومن غير المُـمكن أن تفتح تركيا قَـنوات اتِّـصالها وحدودها مع الجميع وتستثني العراق من هذه السياسة.

العامل الثاني، أن انقرة قد وقَّـعت خلال الصيف الماضي اتِّـفاقا لتأسيس مجلس تعاوُن إستراتيجي غير مسبوق مع بغداد. وتلا ذلك في منتصف شهر أكتوبر 2009، زيارة لرئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان إلى بغداد، حيث وقّـع أكثر من 46 اتِّـفاقا مُـتنوِّعا مع الحكومة العراقية. واستطرادا لهذا العامل، فإن تركيا باتت أشبه بشبكة عنكَـبوت نفْـطية، بسبب خطوط النّـفط والغاز الطبيعي التي أقامتها، وتلك التي تُـخطِّـط لإقامتها وتُـحوّلها في النهاية إلى بلد مهِـمّ موزّع للنفط والغاز الطبيعي إلى أوروبا من حقول الدول المحيطة بها، ومن بينها العراق.

والعامل الثالث، أن تركيا تنظُـر إلى العراق على أنه الضّـلع الثالث في مثلّـث دول الجِـوار، الذي يضُـمّ سوريا وإيران، ومن غيْـر المُـمكن نجاح السياسات التركية مع إيران وسوريا، من دون استِـكمال تعميم العلاقات الجيِّـدة أيضا على العراق.

العامل الرابع، هو أن تركيا قد بدأت خطّـة للانفتاح على الأكراد في الدّاخل التركي، غير أن لهذه القضية أبعادا خارجية، إذ يتواجَـد قِـسم كبير من هؤلاء المسلّـحين في جبال قِـنديل في شمال العراق. وتركيا تحتاج لنجاح خطتها إلى تعاوُن العراقيين، ولاسيما حكومة إقليم كردستان، لحلِّ مشكلة “جِـبال قنديل”.

الواقع الجغرافي التركي وحدوده

هذه العوامل الرئيسية مُـجتمعة، فرضت على تركيا الانتِـقال إلى خُـطوة نوعية في طريقة تعاطِـيها مع كُـردستان العراق، إذ كانت تركيا تُـحاذر في السابق إقامة أي اتِّـصال رسمي وعلى أرض كردستان بينها وبين حكومة إقليم كردستان، أولاً، كي لا تُـعطي انطِـباعا بأنها تعترِف بحكومة الإقليم، وبالتالي، بالحالة التقسيمية القائمة هناك، خصوصا أنها تعتبر قِـيام كيان كُـردي مستقِـلّ في شمال العراق، خطرا وُجودِيا على وِحدة الأراضي التركية، خِـشية انتِـقال العَـدْوى الاستقلالية إلى أكراد تركيا.

ثانيا، أن تركيا كانت تتَّـهم رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني بتشجيع ودعم “إرهاب” حزب العمّـال الكردستاني، وبالتالي، عدم الاتِّـصال بداعمي الإرهاب، لكن العوامل أعلاه التي ذكرنا، فرضت على أنقرة تكتِـيكا جديدا يكسر الجليد مع حكومة اربيل الكُـردية ويُـحمّلها تاليا مسؤوليات لم تكُـن من قبل.

لذا، كانت زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إلى اربيل، عاصمة كردستان، نوعية، لأنها الأولى لمسؤول تُـركي إلى إقليم كردستان. ولم يكن صعبا على داود أوغلو أن يُـبرِّر زيارته، بأنها ليست اعترافا بحكومة كردستان، إذ أن الاعتراف يكون بيْـن الدول فقط، وتركيا تعترِف بحكومة بغداد المركزية، كما قال بنفسه. وقد شبّه داود أوغلو كردستان العراق بولاية تِـكساس الأمريكية، إذ أن زيارة تِـكساس، لا يعني الاعتِـراف بها كولاية مستقلّـة عن الولايات المتحدة الأمريكية.

يعكِـس هذا الكلام جزءً من الحقيقة، لكن “الأمر الواقع” يغلب هنا، حيث لم يكُـن لتركيا تجاوُز الواقِـع الجُـغرافي المتمثل في أن حدود تركيا الجُـغرافية كلها مع العراق، هي مع الكِـيان الكُـردي ولابدّ من المرور عبْـر هذا الكيان للوصول إلى بغداد، وبالتالي، فإن الاتِّـفاقيات التركية مع العراق، لن تُـبصِـر النور بمُـعظمها، إن لم تكن المِـنطقة الكُـردية جزءً منها، لذا، جاء داود أوغلو، كما اعترف بنفسه، لكي يبحَـث في آفاق تطبيق الاتِّـفاقات الموقّـعة مع بغداد.

كسر الجليد مع أكراد العراق

ولا شكّ أن الجانب التركي كان مِـقداما، عندما طرح بوضوح مُـعادلة أنه، كما تحتاج تركيا إلى أكراد العراق، يحتاج هؤلاء إليها، اقتصاديا وأمنيا. وقد قالها داود أوغلو واضِـحة لمسعود البرزاني: إذا ساعد أكراد العراق في حلّ قضية حزب العمّـال الكردستاني في جبال قنديل، فإن أياما جميلة تنتظِـر العلاقات التركية مع الأكراد، أما إذا استمرّ الأخ بطعْـن أخيه في الظهر، فإن المُـستقبَـل لن يكون جميلا.

لقد وعَـد البرزاني، جواباً على داود أوغلو، بفِـعل ما بوُسْـعه لحلّ هذه المسألة، لكن الأمور ليست بهذه السُّـهولة، فأكراد العِـراق، كما صرّحوا مِـرارا، لن يُـهاجموا مقاتِـلي حزب العمّـال الكردستاني، ودعَـوْا تركيا إلى إيجاد حلٍّ سياسي للقضية عبْـر الاستِـمرار في انفِـتاحها عليهم في الدّاخل.

زيارة داود أوغلو كسرت الجليد مع أكراد العراق وأسست لأرضية صَـلبة بين أنقرة واربيل. ولا شك أن زيارة الوزير التركي قد وضعت الكُـرة في ملعَـب الأكراد في شأن عددٍ كبيرٍ من القضايا، حيث أن “الاعتراف الضّـمني” أو “الواقعي” بإقليم كُـردستان، يُـعتبَـر انتِـصارا كبيرا لأكراد العراق، لكنه يرتّـب عليهم مُـقابلة الخُـطوة بخُـطوة أكبر منها، بحجْـم قضية حزب العمّـال الكردستاني على الأقل، وهو ما تنتظرِه تركيا في المستقبل القريب.

غير أن الزيارة “الداود أوغلوية” لم تقتصِـر على الشمال الكردي، بل سبقتها بيوم زيارة إلى الجنوب الشيعي، وبالتحديد إلى العاصمة الاقتصادية للعراق، أي البصرة، كما وصفها وزير التجارة التركي.

رسالة تركية إلى كل العراقيين وعرب الخليج

وزيارة البصرة مُـزدوجة في أهدافها. فهي رسالة إلى كل العراقيين، بأن تركيا على مسافة واحدة من الجميع، سُـنّـة وشيعة وعَـربا وأكرادا، ورسالة إلى عَـرَب الخليج، بأن تركيا آتية وبقُـوّة إلى مياه الخليج وعبْـر البوابة العراقية، وهو ما يُـضفي على الدّور التركي ثِـقلا إضافيا من خلال مراعاته في تقدّمه المثير، لكل العناصِـر المُـكوِّنة لمنطقة الخليج.

تكتمِـل صورة الانفتاح التركي على العالم العربي والإسلامي، بالانفتاح على العراق وبوّابته الحَـتمية إقليم كردستان. وما بين البصرة واربيل خطّ ممتَـد إلى إسطنبول، يريد أحمد داود أوغلو مِـن خلاله أن يتجاوَز حُـدود الشرق الأوسط المُـصطنعة، في اتِّـجاه فرْض حدودٍ جديدةٍ، أساسها التعاون والتفاعل، تفضي إلى الاستقرار والسّـلام، وهو أساس السياسة الخارجية التركية الجديدة منذ عام 2002 ولا تزال، محقّـقة لتركيا نفوذا ودورا غير مسبوقيْـن.

د. محمد نور الدين – بيروت – swissinfo.ch

اربيل (العراق) (رويترز) – أثنى مسعود برزاني، زعيم أكراد العراق يوم الجمعة 30 أكتوبر الماضي، على الخطوات التركية للتعامل مع الصراع الكردي المتواصل منذ عقود، وطالب بوضع حدٍّ للعُـنف العرقي، وذلك خلال زيارة يقوم بها وزير الخارجية التركي إلى المنطقة.

وأطلق حزب العدالة والتنمية، ذو الجذور الاسلامية والذي يتزعمه رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، مبادرة من المتوقع أن تمنح الاقلية الكردية التي يبلغ تِـعدادها 12 مليونا في جنوب شرق تركيا المزيد من الحرية.

وتتضمن هذه الإصلاحات تخفيف القيود المفروضة على اللغة والثقافة الكردية وتحظى بأهمية من أجل تحقيق تقدم في طلب تركيا الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، والذي يريد من أنقرة أن تحقق معايير الاتحاد فيما يتعلق بحقوق الانسان.

وأحمد داود أوغلو، هو أول وزير خارجية تركي يُـسافر الى اقليم كردستان شِـبه المستقل في شمال العراق، والذي تقطنه أغلبية كردية.

وساءت العلاقات بين أنقرة وحكومة كردستان العراق لسنوات، بسبب وجود متمرِّدين أكراد بطول الحدود بينهما، لكن العلاقات تحسّـنت في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، حيث زاد الجانبان من تعاونهما الامني وتوسعا في اتفاقات التجارة والطاقة.

وقال برزاني في مؤتمر صحفي عقده مع داود أوغلو “أريد أن أهنئ رئيس الوزراء على سياساته والخطوات المتّـخذة نحو فتح ديمقراطي. نحن نؤيد كل الخطوات المتخذة”.

وكان الاعتراف بالحكومة المحلية لاقليم كردستان، الذي يتمتع بما يشبه الاستقلال عن بغداد منذ عام 1991، من المحرمات بين السياسيين الاتراك الذين يملأ أذهانهم الآمال الكردية بإقامة دولتهم المستقلة على الاراضي التركية.

وقال برزاني “إن شاءالله، سينتهي العُـنف بأسرع ما يمكن ولن يريق الشبان الاتراك ولا الاكراد المزيد من الدماء”.

واتهمت تركيا برزاني بعدم وقف هجمات المتمردين، حتى مع مطالبة قادة أكراد العراق علنا للانفصاليين من حزب العمال الكِّردستاني بإلقاء السلاح. وحظي تحسين العلاقات مع تركيا بأهمية، حيث قد يؤدي انسحاب القوات الامريكية من العراق إلى فراغ أمني.

ودعا داود أوغلو الى التعاون في الحرب ضد الارهاب، في الوقت الذي تعتبر فيه تركيا والاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية.

وقال “العرب والاكراد والشيعة والسُـنّـة سيُـعيدون معا بناء الشرق الاوسط. يجب على الجميع أن يتّـخذ خطوات جَـرئية، لكن الارهاب هو التهديد الاكثر خطورة أمام هذه الرؤية”. وقال داود أوغلو أيضا، ان تركيا ستفتح قنصليتها التالية في اربيل بعد الموصل والبصرة. كما يسعى الجانبان الى العمل معا في مجال الطاقة.

ووضعت تركيا نفسها معبَـرا أساسيا لمرور الغاز الطبيعي، الذي ينتجه الشرق الاوسط، الى أوروبا. وتحظى مدينة كركوك، التي يطالب بها كل من الاكراد والعرب العراقيين بحساسية خاصة.

وتخشى تركيا حال فوز الاكراد في النزاع على كركوك، أن تمكنهم عائدات الطاقة من إقامة دولتهم المستقلة، وهو ما من شأنه أن يلهب الطموحات الانفصالية لدى الاكراد في تركيا.

وتقصف تركيا بشكل منتظم أهدافا تابعة لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق وتلقي باللائمة عليه في مقتل 40 ألف شخص منذ عام 1984، عندما حمل الحزب السلاح سعيا وراء اقامة دولة في جنوب شرق تركيا.

وبين تركيا والعراق شراكة تجارية واسعة، ويمر ما يقرب من 500 ألف برميل من النفط العراقي يوميا، أي ما يقرب من نصف صادرات العراق، عبْـر خط أنابيب جيهان التركي.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 30 أكتوبر 2009)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية