مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الدب الروسي والحرب.. والفرص التاريخية

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقتنع بأن الحرب الإسرائيلية في لبنان لها أهداف إستراتيجية لا علاقة لها بالأسيرين المختطفين Keystone

أين روسيا والصين وبقية الدول الكبرى من الحرب الشرق أوسطية الجديدة المندلعة حالياً على أرض لبنان؟

إذا ما استخدمنا قمة الثمان الكبار، التي عقدت الأسبوع الماضي في روسيا كخريطة طريق للاستدلال على مواقف هذه الدول، قد نصل إلى متاهة، لا إلى المعرفة.

صحيح أن البيان المشترك، الذي صدر في أعقاب هذه القمة، أبرز نقاط الاتفاق بينها (وقف العداوات، لا وقف إطلاق النار، وإدانة منظمتي “حماس” و”حزب الله”)، إلا أن الصحيح أيضاً، أن الخلافات كانت متضمنة في كل بنود الاتفاق.

ففي جهة، وقف الرئيس الأمريكي بوش ومعه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ليدافعوا عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وفي الجهة المقابلة، انتصب الرئيس الروسي بوتين ومعه الرئيس الفرنسي شيراك ورؤساء وزراء اليابان وإيطاليا وكندا، ليطالبوا بموقف أكثر اتِّـزانا من الصراع الجديد.

نقاط القوة

من بين كل هذه المواقف، كان الموقف الروسي هو الأبرز والأهم، لماذا؟ لأسباب عدة:

فروسيا (ومعها الصين) هي الدولة الكبرى الوحيدة التي لا تزال تقيم علاقات وطيدة مع كل من إيران وسوريا، اللتين تدعما “حزب الله” اللبناني في الحرب الراهنة مع إسرائيل، فهي تُـعتبر الحليف الإستراتيجي الرئيسي لإيران، إضافة إلى كونها المتاجر الأول معها على كل الأصعدة، العسكرية والنووية المدنية والصناعية. كما أنها تُـعتبر الصديق الأول لسوريا في الساحة الدولية، وهي تزودها بين الفينة والأخرى ببعض الأسلحة الحديثة، لا بل تسرّبت أنباء مؤخراً عن أن روسيا تنوي إقامة قاعدة عسكرية على الأراضي السورية.

وبرغم أن دمشق نفت هذه الأنباء، إلا أنها كانت مؤشراً على مدى النفوذ الكبير الذي تتمتع به موسكو في بلاد الأمويين.
وروسيا (ومعها الصين) طوّرتا إلى حد بعيد “معاهدة شنغهاي”، التي تضم إليهما أربع دول إسلامية في آسيا الوسطى، والتي تهدف إلى مقاومة النفوذ الأمريكي في تلك المنطقة النفطية – الإستراتيجية الحساسة.

إيران عضو “غير رسمي” في هذه المعاهدة، وفي حال انضمت إليها رسمياً في وقت لاحق، سيُـسفر هذا عن تمدّد نفوذ موسكو وبكين إلى منطقة الخليج العربي وبقية أنحاء “الشرق الأوسط الكبير”.

أخيراً، روسيا مهمة، لأنها بدأت تستخدم سلاح النفط والغاز مع الغرب لحمله على الاعتراف بها كقوة يعتـد بها على الساحة الدولية، ولوقف التدخل في شؤونها الداخلية. وبالطبع، إذا ما حظيت موسكو بدور بارز ما في الصراع الشرق أوسطي الجديد، فإن حظوظها للحصول على هذا الاعتراف ستزداد أضعافاً مضاعفة.

الحظوظ

روسيا إذن، تبدو النجم الصاعد الجديد أو على الأقل النجم المحتمل في سماء الشرق الأوسط. لكن، ما طبيعة حظوظها وما هي الظروف المحيطة بهذه الحظوظ؟

كل شيء تقريباً سيعتمد على مُـحصّـلات المعارك العسكرية الراهنة في لبنان:

· فإذا ما نجحت الآلة العسكرية الإسرائيلية في تدمير “حزب الله”، وإذا ما تمكنت الآلة الدبلوماسية الأمريكية من نشر قوات أطلسية في جنوب لبنان تحت مظلة الأمم المتحدة، فإن فرص روسيا ستتقلص حينها إلى درجة التلاشي.

· وإذا ما غرقت إسرائيل ومعها أمريكا في الوحول اللبنانية، وعجزتا عن توظيف الحرب العسكرية في إنجازات سياسية، فسيبلغ النفوذ الشرق أوسطي لروسيا ومعها الصين ودول معاهدة شنغهاي، شأواً كبيراً.

· أما إذا ما انتهى الصراع في لبنان إلى صيغة من صيغ “التعادل” بين إسرائيل – أمريكا وبين إيران – سوريا، فقد تقطف موسكو حينذاك بعض ثمار وساطتها المحتملة بين الطرفين، لأنها الوحيدة (كما أشرنا) التي تملك مداخل لهما معاً.

ثعلب يواجه أسدين

بالطبع، موسكو تصلي لأن يفشل الاحتمال الأول، وتصلي أكثر لأن ينجح الاحتمال الثاني. لكنها، على الأرجح، لن تفعل أي شيء عملي لجعل ذلك يحدث، كمثل شحن الأسلحة إلى أصدقائها الإيرانيين والسوريين، كما تفعل أمريكا مع أصدقائها الإسرائيليين. كما أنها لن تتخذ مواقف شديدة التصلب ضد إسرائيل، خوفاً من إغضاب الولايات المتحدة. فهي في النهاية، تريد أكل العنب لا قتل الناطور الأمريكي.

وبرغم أن هذا الأخير أعاق دخولها قبل أيام إلى منظمة التجارة العالمية، ويواصل محاولات خنقها في دور الجوار في أوكرانيا وروسيا البيضاء وفي الداخل الروسي عبر الدعم السري للشيشان ولشركات النفط الامريكية، الساعية أبداً للسيطرة على بترولها، إلا أنها لن تغامر مرة أخرى بالدخول في حرب باردة جديدة ستؤدي إلى إفلاسها.

ما ستفعله موسكو هو بالتحديد ما يقوم به الثعلب الذي يواجه أسدين يتصارعان على فريسة: انتظار حصيلة المعركة قبل الإقدام على أية خطوة، وهو انتظار يستأهل ممارسة الكثير من الصبر والحذاقة.

فما هو في الميزان هذه الأيام في الشرق الأوسط، لا يقل عن كونه محاولة جديدة لتقرير مصير الشرق الأوسط، وعبره مصير قارة أوراسيا برمّـتها، والتي تحتل روسيا موقع القلب الجيو – إستراتيجي منها.

كان الرئيس الروسي بوتين ألمح إلى هذه المسألة حين قال إن “للحرب الإسرائيلية في لبنان أهدافاً إستراتيجية لا علاقة لها بالأسيرين”.

بناء شرق أوسط جديد!

وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس لم تخف بدورها هذه الأهداف، حين أعلنت أن هدف الحرب الجديدة هو: إعادة إستيلاد “الشرق الأوسط الجديد”، وهذا كان تحديداً مثيراً للغاية.

فرايس لم تتحدث عن “الشرق الأوسط الكبير”، الذي أطلق فكرته الرئيس بوش عام 2002، ولا عن “الشرق الأوسط الموسّـع”، الذي اضطرت واشنطن لتبنيه عام 2004 بفعل الضغوط الأوروبية، بل ذهبت فوراً إلى التعبير نفسه الذي صكّـته إسرائيل (خاصة في آخر كتاب شيمون بيريز الذي يحمل العنوان نفسه): الشرق الأوسط الجديد.

إعلان رايس لم يكن صدفة بالطبع، فهو جاء كحصيلة دبلوماسية أولى للحرب العسكرية التي تشنّـها إسرائيل في لبنان وفلسطين، والتي تستهدف أمرين: استعادة هيبة الردع الإسرائيلية، وتغيير موازين القوى(وربما الخرائط) في الهلال الخصيب.

لكن، إذا ما كان شعار “الشرق الأوسط الجديد” يلبّـي تطلعات الدولة العبرية الجديدة، فماذا عن تطلعات الدولة العظمى الأمريكية؟ الأرجح، أن لواشنطن استهدافات مشابهة لتلك التي تضعها تل أبيب، ولكن على نطاق أوسع بكثير:

1- استعادة هيبة الردع الأمريكية التي تآكلت بسبب حرب المقاومة في العراق، والتي شجعت كلاً من سوريا وإيران وحزب الله وحماس على عقد تحالف ضد واشنطن.

2- وقف تدهور المشروع الأمريكي الشرق أوسطي، الذي وضعه المحافظون الجدد، كجزء رئيسي من الإستراتيجية الأمريكية العامة لتأبيد السيطرة على قارة أوراسيا، وبالتالي، على العالم.

3- وأخيراً، استئناف ما انقطع من جهود لدمج الشرق العربي والإيراني بالقوة في منظومة “إمبراطورية العولمة”.

نجم صاعد في سماء الشرق الأوسط

كل من هذه الأهداف تكفي وحدها لشن غير حرب في غير منطقة في الشرق الأوسط الكبير أو الموسّـع أو الجديد، لا فرق. وكل هذه الأهداف مجتمعة، والتي تريدها الولايات المتحدة أن تكون مجتمعة، تؤكّـد شمولية الأهداف التي تقف وراء الحرب الراهنة، وهذا أمر لا ينفيه حتى الأمريكيون أنفسهم.

فهم يقولون الآن، خاصة في مراكز الأبحاث الإستراتيجية المحافظة، إن ما يحدث الآن في لبنان وفلسطين (وقريباً، على الأرجح، في سوريا)، بات امتدادا لما يجري في العراق. وبالتالي، ما يحدث ليس اشتباكات منعزلة ومتفرقة في دول الهلال الخصيب العربي، بل هي حرب واحدة موحّـدة.

بكلمات أوضح: أمريكا صدّرت أزمتها في العراق إلى باقي دول المنطقة، وهي بدلاً من أن تتعرض للابتزاز من جانب إيران وسوريا في بلاد ما بين النهرين، شنّـت هجوماً معاكساً عليهما في لبنان وفلسطين ووضعتهما ليس في موقع الابتزاز فحسب، بل أيضاً في موقع التهديد.

وبالطبع، روسيا معنية بكل هذه التطورات، وهي تقف الآن على أهبة الاستعداد للإفادة منها حتى الثمالة، إما عبر ابتزاز التنازلات من أمريكا، أو من خلال تحسين مواقعها الإستراتيجية في الشرق الأوسط وقارة أوراسيا، إذا ما تعثر المشروع الأمريكي مجدداً، كما حدث في العراق، وهذا ما يجعلها بحق المرشح الأبرز في قادم الأيام لتكون النجم الصاعد في سماء الشرق الأوسط.

الدب الروسي في حال سُـبات شتوي حالياً. لكنه سيكون على الأرجح أقصر فصل شتاء في تاريخ العلاقات الدولية بسبب شدة الحرارة المنطلقة من الشرق الأوسط.

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية