مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل تتحقق نبوءة ميترنيخ حول لبنان كنموذج لسلام المنطقة؟

صورة من الأرشيف لإحدى الجلسات التي عقدها البرلمان اللبناني برئاسة نبيه بري يوم 23 أبريل 2014 لانتخاب رئيس جديد للبلاد، وهو الأمر الذي لم يُحسم حتى الآن. Keystone
كان الأمير كليمانس فون ميترنيخ، الذي غالباً ما يُعتبر أستاذ هنري كيسنجر، رجل دولة نمساوياً قوياً في القرن التاسع عشر، ومن أبرع السياسيين في حقبته. عمل كوزير لخارجية الإمبراطورية الرومانية المقدّسة ولخليفتها الإمبراطورية النمساوية من عام 1809 وحتى ثورات التحرّر التي اندلعت سنة 1848 وأجبرته على الإستقالة.

قبل إرسال سفيره إلى إسطنبول في ذروة أزمة “المسألة الشرقية”، وهي حِقبة من التدخّل الأوروبي الكثيف في شؤون “رجُل أوروبا المريض” (الدولة العثمانية)، قال له ميترنيخ: “أبلغ السلطان: إذا ما كانت هناك حرب في لبنان، فستكون هناك حرب في المشرق. أبلغ السلطان أيضا: إذا ما كان هناك سلام في لبنان، سيكون هناك سلام في المشرق”.

حسنا. لبنان يعيش الآن في حالة سلام نِسبي، فيما المشرق برمّته يحترِق في أتون حروب طائفية ومذهبية وإثنية، تُشبه إلى حدٍّ كبير حرب الثلاثين عاماً التي دمّرت معظم أوروبا في القرن السابع عشر. فهل يستطيع لبنان أن يحقِّق نبوءة ميترنيخ ويقدّم للمنطقة الحلول والمخارِج من ورطتها الدموية الراهنة؟

صِيغة الطائف

البعض هذه الأيام، في الغرب كما في الشرق، يردُّ سريعاً بالإيجاب بل يذهب إلى القول بأن صيغة اتفاق الطائف رابط خارجيعام 1989، التي تستنِد إلى تقاسُم السلطة بين الطوائف اللبنانية في إطار ما يُـسمى بالديمقراطية “التوافقية” أو التشاركية ( Consociational democracy)، والتي أنهت حرب الـ 16 عاما (1975-1989) في لبنان، يُمكن أن تكون بالفعل نموذجاً تحتذِيه دول تعدّدية متصدِّعة في المنطقة، مثل سوريا والعراق واليمن وغيرها.

لكن البعض الآخر له تحفّظات تبدو مقنِعة. فأصحابها يقولون إنه على رغم أن اتفاق الطائف (الذي تحوّلت مُعظم بنوده لاحقاً إلى دستور للبلد) أنهى الحرب بين الميلشيات الطائفية اللبنانية المتطاحِنة، إلا أنه في خاتِمة المطاف فشل في خلق دولة مستقرّة وفي دمج الطوائف المختلفة في كِيان وطني واحد، لا بل يقولون أكثر، إن ترتيبات تقاسم السلطة على هذا النحو بين الطوائف، كانت هي السبب أصلاً في نشوب الحرب الأهلية عام 1975، إذ هي (أي الترتيبات) لا تستنِد إلى ديمقراطية المواطنة والإنتماء الوطني، بل إلى موازين القوى الديموغرافية والإقتصادية بين الطوائف، وبين القوى الإقليمية والدولية المؤثِّرة. وحين تختلّ هذه الموازين، تنشب الحرب الأهلية مجدّدا.

المزيد

المزيد

شروط تطبيق الديمقراطية المباشرة “غير متوفرة” عربيا

تم نشر هذا المحتوى على أوضح خبراء ومحلِّلون سياسيون مصريون مهتمون بدراسة الأنظمة الديمقراطية، أن النموذج الديمقراطي المباشر في سويسرا له بُعدٌ تاريخي.

طالع المزيدشروط تطبيق الديمقراطية المباشرة “غير متوفرة” عربيا

أيّ الطرفيْن على حق؟

كلٌّ منهما يُمسِك في الواقع بنِصف الحقيقة. فالطرف الأول مُحِق حين يقول إن الديمقراطية التوافقية هي الصيغة الأنسَب في دولٍ تعدّدية كلبنان ودول المشرق الأخرى، لأنها تضمن حماية ومشاركة الأقليات الدِّينية والعِرقية وكل فئات المجتمع في السلطة والثروة.

لكن الطرَف الآخر على حق أيضاً، حين يُـشدّد على أن توقّـف هذه المشاركة عند تقاسُم السلطة بين الطوائف وعدم انتقالها إلى مرحلة الدولة الديمقراطية الحديثة والمواطنة التي تتجاوز “الهويات الطائفية القاتلة” (على حدّ تعبير الكاتب أمين معلوف)، سيعني أن سلام هذه الصيغة سيكون مجرّد هُـدنة بين حربيْن أهليتيْن.

لكن للإنصاف، يجب القول أن العلّة لم تكن في صيغة الطائف اللبنانية بحدِّ ذاتها، بل في الطبقة السياسية التي أنيط بها أمْر تنفيذها. فقد نصّ الإتفاق على وجوب العمل على إلغاء الطائفية السياسية “بوصفه هدفاً وطنياً أساسياً، يجب العمل على تحقيقه وِفق خطّة مرحلية”، وأيضاً على “إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة، وفقاً لمقتضيات الوِفاق الوطني”.

بيْد أن النُّخبة الحاكِمة، والتي انبثق معظمها من قادة الميليشيات، منعت (جنباً إلى جنب مع التدخلات الأجنبية) تطبيق بُنود الإصلاح الوطني الهادفة إلى التغلُّب على الإنقِسامات الطائفية، وعمِلت على العكس على تعزيز البُنى الطائفية وعلى “تناتش” (أي توزيع وتقاسم) مؤسسات الدولة ومواردها بين أقطابها. وهذا ما أعاد إنتاج الهويات البدائية، بدلاً من توفير المواطنة الحديثة المستنِدة إلى الحقوق المتساوية بين المواطنين.

.. والتجربة السويسرية

المشكلة إذن ليست في النظرية، بل في التطبيق، خاصة وأن صيَغاً توافُقية مُماثِلة نجحت في دول عدّة سبقت لبنان في هذا المِضمار، بما في ذلك بلجيكا وهولندا، لكن خاصة سويسرا التي يعتبرها العديد من الباحثين اللبنانيين، النموذج الأول لهم في كلٍّ من عملية تقاسم السلطة بين الأقليات وفئات المجتمع (في إطار كنفدرالية تتطوّر لاحقا إلى فدرالية) ومن نظرية الديمقراطية المباشرة.

نجاح هذه التجربة السويسرية المُزدوجة، هو ما يشجّع الآن على طرح “حفيدتها” الصيغة اللبنانية كنموذج يُحتذى في سوريا والعراق واليمن، بشرط تجنُّـب الثغرات التطبيقية السَّلبية فيها. لكن، وحتى مع هذه الثغرات وبسبب التحوّل السريع للحروب الأهلية في دول المشرق، من صراعات سياسية أو تنافُسية على السلطة والثروة، إلى “حروب وجودية”، تستند إلى صيغة “قاتل أو مقتول”، تبدو صيغة الطائف اللبنانية الآن هي المَخرَج الوحيد، على الأقل لتحقيق وقْف القتال وتعويد القِوى المُتصارعة على ثقافة الحوار والتسويات والحلول الوسط.

وإذا ما تمّ في يوم ما تبنّي النموذج اللبناني (السويسري) هذا، فإن الثَّعلب النمساوي ميترنيخ سيتململ في قبره فرحاً لتحقيق نبوءته.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية