مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

السعودية وحتمية التغيير!

على عكس الخمسين السنة الماضية فإن إختيار شخص ولي العهد اصبح منفذاً للخلاف بين فصائل العائلة المالكة Keystone

تمر المملكة العربية السعودية حاليا بمرحلة بالغة الدقة من تاريخها. وقد جاءت تفجيرات الرياض لتثير من جديد تساؤلاتٍ تدور منذ فترة في ردهات الكواليس.

قد تكون التفجيرات جزءاً من حملة إرهاب دولية، لكن أهميتها تتمثل تحديدا في أنها ركزت الأنظار على الأساس الهش الذي تقوم عليه المملكة.

في شهر مايو عام 1991، أي بعد شهرين على نهاية حرب تحرير الكويت التي رابط خلالها أكثر من نصف مليون جندي أمريكي وأجنبي على أراضي المملكة بطلب من قيادتها، رفع مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز بن الباز عريضةً إلى الملك فهد ابن عبد العزيز، وقع عليها أكثر من 400 عالم دين وأستاذ جامعي.

تضمنت هذه الوثيقة التي سُميت “رسالة المطالب” الدعوة إلى جملة من الإصلاحات، كان على رأسها تأسيسُ مجلس شورى من العلماء يكون لهم الحق في تحديد سياسات الدولة الداخلية والخارجية، تنويع مصادر شراء الأسلحة، وتأسيس نظام شامل للعدالة الاجتماعية، وعقاب كل من جمع ثروات بطرق غير قانونية “مهما كانوا، وأينما كانوا”.

كان ردُ القيادة السعودية على تلك العريضة غيرَ مسبوق في قسوته. فقد عمدت السلطات الأمنية إلى مصادرة جوازات الكثير من الموقعين، ومنعهم من إلقاء المحاضرات في الجامعات أو استخدام منابر المساجد، فيما سجنت الشخصيات البارزة منهم.

الماضي يكرر نفسه؟

حدث هذا قبل 12 عاماً، الأمر الذي قد يدفع إلى التساؤل عن مبرر فتح ملفات قديمة، خاصة وأن الملك فهد عمد بعد عام من ذلك التاريخ، أي عام 1992، إلى إصدار القانون الأساسي الذي نص ضمن بنوده على تأسيس مجلس شورى، (وإن كان بدون صلاحيات فعلية).

السبب في ذلك بسيط. كانت المرحلة التي تمر بها البلاد آنذاك، كما اليوم، حرجة؛ طابعُها العام هو الغليان والسخط الداخلي. وتماماً كما هو الحال اليوم، أثيرت التساؤلات حينها عن مستقبل العائلة الحاكمة في المملكة وإمكانيات بقائها في سدة الحكم.

وكما فعل ولي العهد السعودي الأمير عبد الله قبل اشهر عديدة، وعد الملك فهد آنذاك القوى الليبرالية والمحافظة معاً باتخاذ خطوات جادة على طريق الإصلاح، وهو الوعد الذي لم يترجم حقيقة على أرض الواقع إلى يومنا هذا.

وفي مقابل علامات التقاطع هذه، تكمن علامات مفارقة مضادة تدفع إلى القلق بصورة جدية. فعند التساؤل عن آفاق المستقبل السعودية في هذه اللحظة التاريخية بالتحديد، تبدو تلك الآفاق مشحونة بالتوتر وعدم الاستقرار.

يعتمد هذا التقييم على قناعة بأن الأسس التي تقوم عليها الدولة السعودية (على الأقل اثنتان منها) بدأ يعتريها الإهتراء، وأن التنافر القائم بينها إذا لم يتم السيطرة عليه قد يؤدي إلى زعزعة أركانها.

ثلاثة أسس للحكم في ثلاث علاقات تحالف!

هناك أسس ثلاثة تقوم عليها الدولة السعودية لا تزيد في جوهرها عن علاقات تحالف لتثبيت النظام، وضع الملك عبد العزيز بن سعود لبنات اثنتين منها مع هياكل مملكته الناشئة، أما الثالثة فقد برزت إلى الواقع الفعلي في عهد الملك فيصل.

تجمع علاقة التحالف الأولى بين العائلة السعودية والمؤسسة الدينية. وقد يفضل بعض المحللين السعوديين النظر إلى تلك العلاقة على أنها تصل بين العائلة والإسلام ككل، إلا أن المعطيات تشير إلى أنها تقتصر على حركة دينية نجدية المنبع.

تعود جذور تلك العلاقة إلى العهد الذي أقسمه عام 1744 كل من أمير منطقة الدرعية محمد بن سعود، والداعية محمد بن عبد الوهاب، وقضى بإنشاء دولة تقوم على المبادئ الوهابية أو (التوحيدية).

وجدد هذا العهد بعد قرن ونصف الأمير عبد العزيز بن سعود، ومن خلاله تمكن من تجنيد القبائل النجدية في شن حملة توسعية امتدت إلى الحجاز وعسير والمنطقة الشرقية، وأدت في تداعياتها إلى انبثاق المملكة العربية السعودية عام 1932 وكما نعرفها اليوم.

الأساس الثاني الذي يعتمد عليه بنيان المملكة هو علاقة تحالف إستراتيجية وأمنية مع الولايات المتحدة. وكما في الحالة التي سبقتها، كان الملك عبد العزيز هو الساعي إلى إبرام الحلف مع واشنطن، بعد أن أدرك بحس رجل الدولة الكامن فيه الوهن الذي اعترى القوة العظمى البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية.

ونتيجة لجهوده الحثيثة، أصبح الالتزام الأمريكي بالدفاع عن المملكة وحمايتها من أي اعتداء خارجي حجر الأساس في ترتيبات الأمن الوطني للبلاد.

كان ذلك الالتزام، من وجهة النظر السعودية حتميا ولا يمكن الاستغناء عنه بسبب اقتناع العائلة الحاكمة بأن حماية المملكة أمر يخرج عن مقدرة البلاد وتعجز عنه أية ترتيبات أمنية إقليمية خليجية.

أما تعهد واشنطن بضمان أمن المملكة، فقد كان ضروريا من المنظور الأمريكي لأن استقرارها أساسي لأمن منطقة الخليج الحيوية وتدفق نفطها بأسعار معقولة.

أخيرا، فإن علاقة التحالف الثالثة التي يقوم عليها النظام السعودي هي تلك التي تجمع بين الدولة والمواطن اعتمادا على مفهوم دولة الرفاه.

فهناك عقد اجتماعي غير مكتوب جمع بين الطرفين في عهد الملك فيصل منذ بداية السبعينات، (أي منذ تعزيز البنية التحتية لدولة الرفاه الاجتماعي في الخطة الخمسية للتطوير 1970 – 1975).

ووفقا لذلك العقد، يقبل المواطن السعودي بشرعية العائلة الحاكمة مقابل الحصول على منافع وامتيازات دولة الرفاه، (الصحة والتعليم والسكن والتوظيف)، ولعله سيغض النظر عن تجاوزات وتبذير بعض أعضائها.

ما الذي تغير في اللحظة التاريخية الراهنة؟

إن شرعية النظام في داخل المملكة العربية السعودية تعتمد على الركيزتين الأولى والثالثة، أما بقاءه وأمنه، فيعتمد على علاقة التحالف الثانية الخارجية. والمشكلة التي تواجهها االأسرة الحاكمة السعودية حاليا تتمحور حول عنصرين معقدين أصبح اجتماعهما مؤشرا على أن الوضع القائم في صورته الحالية لا يحمل بذور الاستمرار.

يتلخص العنصر الأول ببساطة في التنافر بين علاقتي التحالف الأولى والثانية. كان بالإمكان السيطرة على ذلك التنافر في الماضي في ظل قيادات دينية تقليدية تمكن أولياء الأمر على مر السنين من ترويضها وتطويعها ودمجها في إطار اللعبة السياسية القائمة في المملكة، ودفعها دفعاً إلى القبول بالتحالف مع الولايات المتحدة كأمرٍ واقع أو شر لابد من تحمله.

أما اليوم، ومع تخريج الجامعات الإسلامية عشرات الآلاف من “علماء الدين” سنويا، وانضمام هؤلاء إلى طوابير العاطلين عن العمل، فقد أصبح التطرف في المواقف والتفسيرات جزءا لا يتجزأ من رؤية الجيل الجديد من علماء الدين للعالم الخارجي. ولذلك، اصبح القبول بالطبيعة الإستراتيجية لتلك المعادلة صعب الابتلاع.

كانت حرب الخليج الثانية مفصلاً هاماً في زعزعة ولاء رجال الدين التقليدي للعائلة الحاكمة، لاسيما وأن الأخيرة (وهي الحامية للمقدسات الأسلامية) إضطرت إلى دعوة الأجنبي “الكافر” إلى الحلول للمرابطة على أراضيها.

ثم جاءت حرب الخليج الثالثة لتغرس سكيناً أخراًَ في جسد ذلك الولاء. فالرياض التي رفضت علناً المساهمة في الهجوم الأمريكي على العراق، قدمت عملياً مساعدات وتسهيلات عسكرية هامة لقوات التحالف الأمريكية البريطانية. وفي ظل انتشار وسائل الاتصال والقنوات الفضائية، لم يكن ذلك “السر” خافياً على أحد.

وقد بدت حدود هذا الولاء واضحة للعيان حديثاً، عندما اجتمع ولي العهد الأمير عبد الله بالعلماء وطلب منهم الكف عن الدعوة إلى “الجهاد”، ليخرج هؤلاء ويدعون إليه رغم ذلك من على منابر المساجد.

وداعاً يا دولة الرفاه..

العنصر الثاني الذي تغير في اللحظة التاريخية الراهنة، يتمثل في أن دولة الرفاه السعودية لفظت أنفاسها. صحيح أنه يصعب قراءة الوضع الاقتصادي الحالي في ظل غياب إحصاءات ومؤشرات رسمية موثوق بها، إلا أن المؤكد أن سنوات الرخاء قد انتهت، وأن معدلات البطالة في تصاعد، وأن مستويات المعيشة في تدني، حيث تراجع حجم الناتج المحلي ومستوى الدخل الفردي إلى نسب لم تكن معهودة في السعودية، وأن الزيادة السكانية المرتفعة (يصل معدلها إلى 3.27%) تزيد من حدة الأزمة.

ومع فقدان المواطن السعودي لامتيازات دولة الرفاه، فإن شرعية النظام الحاكم بأسره أصبحت على المحك. فغياب تلك الامتيازات بدأ يدفع إلى السطح من جديد الكثير من عوامل “الفرقة والتباعد” التي كانت مطمورة أو “كامنة”، والتي يقف على رأسها الانقسام الإقليمي والمذهبي.

وقد وثقت دراسة الباحثة السعودية مي يماني “هويات متغيرة” بإتقان هذا التغيير الحادث في رؤى ونفسيات الجيل الجديد، الذي فقد الثقة في صلاحية العائلة الحاكمة وسخر ولاءه للعائلة أولاً ثم الأقليم ثانياً.

وتبدو خطورة هذا التوثيق (التي أدت إلى محاولة منع نشر الكتاب) في أن نحو 42% من إجمالي السكان في المملكة لا تزيد أعمارهم اليوم عن 14 عاما. والمستقبل كما هو معروف مرهونً بتوجهات وتطلعات جيل الغد.

المستقبل في رحم المجهول!

هذه التغييرات التي كانت بوادرها قد لاحت خلال حرب الخليج الثانية، أصبحت راسخة مع انتهاء الحرب على العراق، وهي بالتحديد التي دفعت الولايات المتحدة، ضمن عوامل أخرى استراتيجية وعسكرية، إلى الاستعجال في وضع أسس ترتيبات إقليمية جديدة، ليس لأن واشنطن ترغب في الخروج من علاقة تحالفها مع الرياض، كما قد ترى بعض التفسيرات. فما يجمع بين الطرفين هو زواج مصلحة، قد يكره فيه أحدهما الأخر، لكنهما مدركان لأهمية العوائد المترتبة على بقاءهما معاً، بل لأن واشنطن تخشى من أن لا تتمكن الرياض مع مرور الوقت من الإيفاء بالتزاماتها الإستراتيجية، تماماً كما حدث ذلك في السابق مع حليف الماضي شاه إيران.

إلهام مانع – سويس إنفو

صدر القانون الأساسي السعودي عام 1992.
ينص القانون على أن العائلة المالكة السعودية هي نواة المجتمع.
يحق للملك وفقا للقانون تعيين ولي عهده أو تنحيته.
كما يعين الملك أعضاء المجلس الاستشاري الوارد نص تشكيله في القانون.

يصل عدد أعضاء كل فروع العائلة السعودية الحاكمة الممتدة عن محمد بن سعود إلى نحو 20 ألف شخص.
أهم فروع العائلة هي الممتدة عن فيصل بن تركي، جد الملك عبد العزيز.
في عام 1992 قدر عدد الذكور الذين تعود أصولهم إلى فيصل إلى 4 آلاف شخص.
فقط هؤلاء هم الذين يعتبرون من العائلة المالكة ويطلق عليهم لقب أمير.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية