مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الصور الخادعة تحت مجهر النّقاد

بين الصورة الحقيقية الكاملة .. والصورة المجتزأة المنشورة في وسائل الإعلام

ينظم متحف الاتصالات ببرن من الآن وحتى شهر يوليو 2008 معرضا حول "خداع الصور"، وذلك بالتعاون مع مؤسسة الدراسات التاريخية بجمهورية ألمانيا الاتحادية والمركز الفدرالي للثقافة السياسية بألمانيا.

ويثير هذا المعرض التساؤل حول الإشكالية المتمثلة في المِـصداقية التي ظلّـت تنعم بها الصورة لدى النقّـاد وعامة الجمهور، في الوقت الذي كانت فيه النصوص موضِـع نقد وتدقيق منذ آلاف السنين.

يأتي هذا المعرض في مرحلة تتدفّـق فيها الصور والبرامج المَـرئية بشكل لا يعرف الانقطاع، وأصبح الجميع يعيش بالصور ومن خلالها، حيث لم يعد بإمكان أحد أن يتخيل وجود وسائل إعلام وحملات انتخابية ومصحات ومستشفيات ومختبرات علمية من دون صور.

ومع هذه الإمكانات الهائلة، التي تتيحها التكنولوجيا الحديثة لالتقاط الصور وتركيبها والتحكّـم فيها، تزداد مخاطر الخِـداع والتلاعب بها، وتتّـخذ أبعادا جديدة غاية في الخطورة والتأثير.

ويقدّم هذا المعرض تغطِـية شاملة لأشكال التلاعب والمغالطة، التي يتعرض لها الجمهور، وفي كل مرة يعرض أمثلة ونماذج من التاريخ والسياسة والإعلام وفي أزمنة الحرب والسِّـلم، وكلها تُـبيِّـن المدى الذي اتّـخذته هذه الظاهرة والانتشار الواسع الذي تحظى به.

التلاعب من أجل السّـبق الصحفي

أوّل الأسباب التي يتوقّـف عندها المعرض لفهم ظاهرة فبْـركة الصور، المنافسة الشديدة بين وسائل الإعلام المختلفة وسعي المحررين، الذين يبحثون عن موضوعات غاية في الإثارة، إلى استخدام حِـيل التركيب الرّقمي للمشاهد وتقديمها كوقائع حقيقية، إذا لم يجدوا صُـوّرا أصلية وواقعية.

والمثال الصارخ لهذه الحالة، ما قامت به الصحيفة السويسرية الناطقة بالألمانية “Blick” وقناة النلفزيون الألماني الناطقة بالألمانية DRS في نوفمبر 1997 خلال تغطيتهما لحادثة الأقصُـر المصرية، التي قُـتل فيها عشرات السياح السويسريين.

لقد حوّل هذان المنبران الإعلاميان بـركة من الماء في عين المكان، إلى ما يُـشبه بـركة من الدم بعد أن أضفوا عليها لونا أحمرا.

وقد يحصل التّـلاعب من خلال إضافة نصوص أو تعليقات مختلفة لنفس الصورة، ونجد في المعرض صورة لرجل دِين مُـسلم يرفع يداه عاليا وفي خلفية المشهد نار ودخّـان، وفي حين يقول تعليق وكالة الأنباء الفرنسية: “رجل دين يدعو المواطنين إلى الهدوء والتعقّـل”، يقول تعليق صدر بمجلة ” Stern ” الألمانية لنفس الصورة، “رجل دين مسلم يهيِّـج مشاعر الناس الملتفّـين من حوله”.

الصورة أداة فعّـالة للدعاية السياسية

بإمكان المُـصوِّر، الذي لا يحترم أخلاقيات المِـهنة، أن يلعب دورا فاعِـلا في خدمة الأنظمة الشمولية، وبإمكان واضِـعي الدعايات الانتخابية أن يُـوظفوا الصُـوَّر بشكل قد يثمِـر على المدى القريب، لكن ضرره على وِحدة المجتمع وتماسُـكه أكبر، وليست قصة “الخرفان البيض والخروف الأسود”، تلك الصورة التي هزّت مؤخرا الرأي العام في سويسرا وخارجها، عنّا ببعيدة.

فعلى المستوى السياسي، يقول صحفي عربي يعمل في سويسرا: “كان تأثير تلك الصورة في الرأي العام كبيرا، باعتبار أنها وضعت جزءًا من السكان في زاوية الاتِّـهام، لأنهم مجرمون ويخالفون القوانين، وبالتالي، يجب استبعادهم من البلد، وترسّـخ هذا المعنى فعلا، وساهم في تعزيز التأييد لحزب الشعب”.

ونفس الشيء أيضا كان ناجحا على المستوى الإعلامي، حيث يضيف نفس المصدر: “لقد وفّّرت الصورة على اليمين سنوات من العمل، وكانت تروّج لمعنى بسيط مفادُه: البيض طيِّـبون وغيرهم مجرمون، ورغم بساطة المضمون، أدّت تلك الصورة إلى تعميق الكراهية وأصبح الرأي العام مهيّـئا لتقبّـل قرارات غير عادلة”.

هذا التوظيف للصُـور والتلاعب بها، أدّى إلى تقديم قادة مثل هتلر وموسوليني وكثيرين من بعدهم، كنماذج لقادة عُـظماء حريصين على مصالح بلدانهم وقريبين من مواطنيهم.

فمرة في هيئة اللّـطف وكمال الكرم، وأخرى في لبوس الحرب ورباطة الجأش والرسالة واحدة: إنهم قادة في الحرب وفي السلم، ومثال في الشهامة والعنفوان، أما المصوّر الفوتوغرافي الذي ارتضى لنفسه هذا الدور، فقد تحوّل إلى أداة فعالة في تمتين أواصر أنظمة شمولية وديكتاتورية، ضاقت الإنسانية ذِرعا من جرائمها.

حرب الخليج الأولى والثانية

يخصّص المعرض جناحا كاملا لحرب الخليج، ويقدم للزائر صورا وتعاليق، فضلا عن برامج سمعية بصرية تعود بذاكِـرة المشاهد إلى بداية التسعينات وتقدّم أمثلة صارخة للخداع والتلاعب الذي حصل خلال تلك المرحلة.

ففي أغسطس 1990، قامت فِـرق من الجيش العراقي بغزو الكويت في تحدٍّ صارخ للقانون الدولي، وبعد 6 أشهر، اندلعت حرب “عاصفة الصحراء”، وأعلنت القيادة العسكرية الأمريكية عزمها على تحقيق ما أسمته “الحرب النظيفة”.

لتحقيق ذلك، يقول تعليق مُـصاحب لصور بالمعرض، “منع الصحفيون من الاقتراب من ساحة العمليات، وتعرّضت تقاريرهم إلى المراقبة وإلى إتلاف ما خالف الهوى الأمريكي، وبدلا عن ترك الصحفيين يقومون بدورهم، تكفّـل الجيش الأمريكي بتوفير صور مُـنتقاةٍ من مسرح العمليات”.

ومعنى هذا، أن المشاهِـد المرعبة لتلك الحرب قد استبعدت، وليس هذا محضَ ظنٍّ وتخمينٍ، إذ يوفـّر المعرض للزائر وثيقة هامّـة سبق أن نشرتها المجلة الشهرية الأمريكية “journalist”، وفيها تكشف الدليل التوجيهي الرسمي الذي وجّهته وزارة الدفاع الأمريكية لوسائل الإعلام، تحدد لها فيه ما هو مسموح نشره وما هو ممنوع.

وإلى جانب تلك الوثيقة الرسمية، نشرت المجلة إحدى الصُـور التي مَـنعت وزارة الدفاع نشرها وقد التقطها المصور العالمي بيتر تورنلي، وفي المشهد، جثة جندي عراقي نصفه مدفون تحت التراب ويطأ جندي أمريكي بحذائه نصفه الثاني.

ومثلما يُـقال “أوّل ضحايا الحرب الحقيقة”، فلا مجال للشك في أن أبناء هذا الجيل سينسون فضيحة وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول في الجلسة التي عقدها مجلس الأمن عشية حرب الخليج الثانية، وعندما أراد إقناع من استعصى عليهم إقناعه بمشروعية تلك الحرب.

فقد لجأ وزير الخارجية الأمريكي إلى الاعتماد على صور مُـفبركة، قِـيل أن الأقمار الصناعية قد التقطتها لأسلحة دمار شامل متنقِّـلة، وتبيّن بعد حين أن العراق لا يملك أسلحة دمار شامل، لا متنقلة ولا ثابتة، بل هي كما يُـقال الحرب والخديعة، ولمن شاء تذكّـر تلك الحادثة، يجِـد في المعرض تسجيلا كاملا لما دار في تلك الجلسة.

مصدر دائم للنزاعات القانونية

لم يغفل منظمو هذا المعرض التّـبعات القانونية التي يثيرها التلاعب بالصور والمسؤوليات المُـلقاة على الأطراف المتورطة فيها.

ففي مجال العمل الفنّـي والصحفي، تَـحمي الدساتير في نفس الوقت خصوصيات الأفراد وحياتهم الشخصية، وكذلك الحق في المعرفة والإعلام وحرية التعبير.

ونظرا للخيط الرفيع الفاصل بين هذين المجالين، كثيرا ما تكون تقارير الصحفيين مصدَر نزاعات قضائية، والمثال الذي يقدّمه المعرض لهذه الحالات، الفضائح التي لاحقت العائلة المالكة في بريطانيا طيلة عقود، ونِـزاعها مع الصحف الشعبية واسعة الانتشار، وكذلك الصور المُـفبركة التي نشرتها بعض الصحف السويسرية الناطقة بالألمانية مثل “سونتاغس بليك” و”بليك” لما زعمت أنها علاقات غير شرعية لسفير سويسرا السابق ببرلين توماس بورر.

إن هذا المعرض يُـثبت إلى أي حد نجحت وسائل الإعلام الحديثة في رسم حدود العولمة السياسية والاقتصادية، لكنّـه دعوة لمجتمع المعلومات أن يلتزم أخلاقيات النزاهة والحقيقة، وحتى تجد تلك الدعوة آذان صاغية، على المُـشاهد والمستمع التسلّـح بعقل نقدي، فهو أعدل الأشياء قِـسمة بين الناس.

برن – عبد الحفيظ العبدلي

يستمر معرض “الصور المُـفبركة”، الذي يحتضنه حاليا متحف الاتصالات ببرن من 19 أكتوبر 2007 إلى 6 يوليو 2008، وأشرفت على إنتاج مادّته مؤسسة الدراسات التاريخية بجمهورية ألمانيا الاتحادية، وبتمويل المركز الفدرالي الألماني للثقافة السياسية.

والزائر للمعرض يجِـد مادة متكاملة، مُـبَـوّبة إلى أجنِـحة بحسب الميادين التي توظف فيها الصور، إعلاميا وسياسيا، وفي أزمان وسياقات مختلفة، وبإمكان الزائر مشاهدة برامج سمعية بصرية تعرض نماذج “للصور والمشاهد المركّـبة”.

وبموازاة للمعرض، يعتزم المنظمون إقامة ورشتيْ عمل خلال شهريْ فبراير ومارس القادمين، بحضور مختصّـين ونقاد كِـبار في المجال السمعي البصري.

وفي نفس الوقت أيضا، تعرض دار السينما ببرن Cinématte de Berne مجموعة من الأفلام مخصّـصة لقضية التلاعب بالصور: أفلام خيالية، مثل “Forrest Gump” لروبرت زمكيس (1994) و”Zelig ” لوودي ألـن (1993) وفيلم “Matrix” لأندي ولارّي (1999)، وكذلك أفلام وثائقية، كفيلم “War photographer” لكريستيان فراي (1996).

وختاما لهذا البرنامج الثري، يقدم جورغن كوتّنر، المنشط الإذاعي ورجل الثقافة المعروف بحثا مصورا في شكل شريط فيديو خلال سهرة ختامية مشتركة بمساهمة التلفزيون المدرسي ومركز تثقيف الشعوب، ولن تغيب عنه الفكاهة، ومن المنتظر أن يكون الجمهور حاضِـرا بقوة.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية