مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

العلاقات التركية – السورية: مرتكز”نظام إقليمي” جديد؟

AFP

تشهَـد منطقة الشرق الأوسط منذ فترة، ما يُـمكن أن يُـسمى أياما أو أسابيع تركية. فكيفما تلفّـتت عين المراقب من القوقاز إلى الشرق الأوسط إلى البلقان، وجد حِـراكا تركيا لافِـتا لا يهدأ، بحيث بدت الدبلوماسية التركية، كما لو أنها تقطُـن في طائرة مُـقيمة في الفضاء، وليس في أحد أحياء العاصمة أنقرة.

وفي الواقع، كان هذا هو دأب الحركة الدبلوماسية التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002. فالنهج الذي رسمه وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو منذ كان مستشارا لرئيس الحكومة، كان يتطلّـب “عدّة أشغال” مُـختلفة عن السابق.

لقد وضع داود أوغلو منذ سنوات رُؤيته لمكانة تركيا ودورها في التحوّل من بلد – جِـسر يمرّ عليه الآخرون، إلى بلد مركز يقصِـده الآخرون، وهذه إستراتيجية تتطلّـب فريق عملٍ كبير ونشِـط في أربع رياح الجِـوار الإقليمي لتركيا وما يليها من جِـوارات أبعد فأبعد.

وعنما أصبح داود أوغلو وزيرا للخارجية، تكثّـفت الحركة التركية بصورة غير مسبوقة. ولا شكّ أن التحرّك التركي في القوقاز لفتح أبواب الحلّ أمام المشكلة الأرمنية المُـستعصية، ومن ثَـمّ الوساطة التركية المفاجئة بين سوريا والعراق في أعقاب التوتّـر الذي طرأ بين دمشق وبغداد بسبب التفجيرات التي حصلت يوم 19 أغسطس في بغداد، كانا من مظاهِـر الحركة الدبلوماسية التركية النشِـطة.

حدث غير مسبوق

لكن ما جرى في الأسبوع الأخير من شهر رمضان بين سوريا وتركيا، كان حدَثا غير مسبُـوق، ويُـمكن وصفه خارج أي مبالغة، بأنه غير مسبوق في علاقة بلد عربي بآخر، فكيف بين بلد عربي وآخر غير عربي؟

كانت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى إسطنبول يومَـيْ الأربعاء والخميس 16 و17 سبتمبر 2009، محطّـة بارزة وذروة خيَـالية في علاقات بين بلدٍ عربي وتركيا، وبين بلديْـن كانت سِـمتهما الأساسية على امتداد عقود القرن العشرين وإلى ما قبل سنوات خلَـت، توتُّـرات وصلت إلى حافة الحرب أكثر من مرّة.

لقد كان من أبرز نتائج هذه الزيارة، تأسيس مجلسٍ للتعاون الإستراتيجي بين البلديْـن، يتألّـف من رئيسَـيْ حكومتَـيْ البلديْـن والوزراء الأساسيين في الحكومتيْـن، ويجتمع مرّتين في العام.

لكن خطوة إلغاء تأشيرات الدّخول أمام مواطِـني البلديْـن، كانت ذِروة في رمزِية نادِرة وتاريخية، في وقتٍ لم تصِـل العلاقات بين العراق وسوريا مثلا وفي عهْـد حُـكم حزب البعث فيهما، إلى هذا المستوى من العلاقات والانفتاح.

ويُـمكن القول أن مثل هذه الخُـطوة، ليست فقط مجرّد خُـطوة عادِية أو رمزية، بل ستترك آثارا عملية ملموسة على الواقِـعيْـن، التركي والسوري.

قرار سيكون له مابعده

فحتى اليوم، كانت بيروت ولبنان عُـموما، يشكِّـلان بوابة سوريا على الغرب وعلى الأسواق الاقتصادية المفتوحة ومراكِـز التّـرفيه والثقافة المختلفة. ومع أن لبنان لن يفقِـد هذه المكانة، نظرا لوِحدة اللّـغة مع سوريا وللقُـرب الجغرافي بين دمشق وبيروت، غير أنه لن يستمر باحتِـكار دورِ النّـافذة الوحيدة على الغرب.

فتركيا تمتاز بأسواقها الأكثر رخصا وجَـودة من السوق اللبنانية، كما بوجود روابِـط عائلية واسعة بين سكّـانها الحدوديين وأولئك على الجانب الآخر من الحدود مع سوريا، فضلا عن وجود أكثر من مليون سوري من أصل كُـردي، وجميعهم يعيشون على امتداد الشريط الحدودي مع تركيا.

كل ذلك، يجعل من فتْـح الحدود بين مُـواطني البلدين، ليس أمرا عابرا، بل ستكون له نتائج عميقة بعيدة المدى وسيُـعيد تشكيل المشهَـد التجاري والاجتماعي لسوريا في اتِّـجاهات لم تكُـن معروفة من قبل وسيرفع من حجْـم التجارة بين البلديْـن وسيضع المناطِـق المُـحاذِية للحدود في البلديْـن، أمام حال طوارئ جديدة، مع توقّـع الإقبال على استكشاف آفاق هذه العلاقة الجديدة، وهو ما عبّر عنه مُـعظم المسؤولين المحليِّـين في مُـدن غازي عينتاب والإسكندرون وانطاكية، على الجانب التركي.

حاجة متبادلة

وفي الجانب السياسي، وقعت زيارة الأسد إلى تركيا في الإطار الطبيعي، لتحسّـن العلاقات منذ عدّة سنوات. وقد كان الرئيس السوري واضحا في القول بأن الثقة هي العُـنصر الأساسي لتطوير هذه العلاقات، وهو ما تيقّـنت منه سوريا من خلال موقِـف تركيا من القضايا العربية، ولاسيما القضية الفلسطينية، فضلا عن السيادية الكامِـلة لاتخاذ قراراتها الإستراتيجية، خارج أي تأثير أمريكي أو غربي، ما جعله يصِـف القرارات التركية بأنها “صنع في تركيا”.

وما كان مُـمكنا أن تنجح تركيا أيضا في مسْـعاها التوسّـط بين سوريا وإسرائيل، لو لم تكن دمشق تثِـق بالجانب التركي وبنزاهته، وهو الأمر الذي يفتقِـده الجانب الأمريكي، على الأقل في المرحلة غير المُـباشرة من المفاوضات بين سوريا وإسرائيل.

يحتاج البلدان الواحد للآخر في الكثير من الملفّـات الثُّـنائِـية المباشرة، سواء الأمنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. لكن ملفا جديدا طرأ على جدْول أعمال البلديْـن الثُّـنائي، وهو ما يتعلّـق بما يُـوصف في تركيا بخطّـة “الإنفتاح على الأكراد” أو خطة الانفتاح الديمقراطي.

مساهمة دمشق في حل الأزمة الكردية

ومن عناصِـر هذه الخطّـة، كيفية إيجاد حلٍّ لمسألة تواجُـد أكثر من خمسة آلاف مُـقاتل من حزب العمّـال الكردستاني المُـعادي لتركيا، في منطقة جبال قنديل في شمال العراق.

ومع أن خطّـة الحكومة التركية تُـجاه الأكراد، غير واضحة المعالِـم بعدُ ويسودها الغُـموض، لكن ما يتداوَل في وسائِـل الاعلام التركية، يُشير إلى أن حكومة أردوغان في صَـدَد ما يُـطلق عليه في تركيا “إنزال” المُـقاتلين من الجبال، أي تسليم عناصِـر الكردستاني أسلحتهم والاندماج في المجتمع، وهذا يتطلّـب عفوا عامّـا أو شِـبه عامٍّ، يَـطال أولئك الذين يوجدون في الدّاخل التركي والذين يتحصنون في جبال قنديل.

وبما أنه يوجد بين هؤلاء أكثر من 1500 مقاتِـل من أصل سوري، فإن أنقرة تريد لسوريا أن تكون شريكا مساعِـدا في الحلّ. فهؤلاء في حال صُـدور عفْـو عامٍّ، لن يعودوا إلى تركيا، بل إلى موطنهم الأصلي، سوريا.

ولقد كان واضحا أن سوريا مستعدّة لاستقبال هؤلاء في حال أعلنوا تخلِّـيهم عن “الإرهاب”، لأن الدولة لا تنتقِـم من مواطنيها، بل تحتضِـنهم، كما صرّح الرئيس بشّـار الأسد إلى الإعلام التركي في رسالة واضحة وتشجيعية إلى الرأي العام التركي، تفيد بأن سوريا تريد استقرار تُـركيا من خلال مساهمتها (سوريا) في حلِّ المشكلة الكُـردية.

لقد كانت هذ القضية مركزية في محادثات الأسد مع رئيس الحكومة التركية رجب طيِّـب أردوغان، وستكون لها – حسب المراقبين – تأثيراتها الإيجابية، خصوصا أن خطّـة الإنفتاح على الأكراد، هي الشغل الشاغِـل لأنقرة منذ عدّة أشهر.

الرقم الأصعب؟

ويبقى بُعدٌ آخر لتطوير العلاقات بين دِمشق وأنقرة إلى مستويات غير مسبوقة، وهو المشهَـد الإقليمي وخِـشية أنقرة من احتمال دخول المنطقة في مرحلة جديدة سلبِـية، في حال فشل الجُـهود الحالية لحلّ المشكلات.

فالتهديدات الإسرائيلية لإيران والتّـسريبات عن مُـواجهة في الملف النووي الإيراني مع الغرب وفرض عقوبات جديدة على طهران، تثير هواجِـس تركيا من انفِـجار الوضع في المنطقة. لكن انفجار الأزمة بين دمشق وبغداد، كان الأكثر إثارة لاهتمام أنقرة، نظرا لأنه حصل في جِـوارها الجغرافي المباشِـر، ولأن زعزعة خُـطط استقرار العراق وبين جاريْـن مجاوريْـن لتركيا، يعرّض الخُـطط التركية لحلِّ مشكلتها الكُـردية بأبعادها العراقية، للخطر.

كما أن تركيا تريد أن يكون نفط العراق والغاز الطبيعي فيه، أحد مصادر الضخّ في خطوط الأنابيب التي تمُـر في تركيا وتجعل من تركيا بلدا مركزِيا في سياسات الطّـاقة العالمية، لذا، كان التحرّك التركي على صعيديْـن: الأول، خط طهران – الغرب في الملف النووي، وستكون تركيا مكانا للمفاوضات بين إيران والغرب. والثاني، الوساطة التركية بين بغداد ودمشق واستضافتها اجتماعا رُباعيا لوزراء خارجية البلدين، إضافة لتركيا وجامعة الدول العربية.

إن زيارة الرئيس الأسد والتوقيع على الإتفاقيات، التي أشرنا إليهما، يصُـبّ في السياق نفسه، الذي تسعى إليه الدبلوماسية التركية، وهو أنه بقدر ما تتعزّز العلاقات بين البلدين، تزداد الثقة المُـتبادَلة والاستعداد للمُـساهمة في إيجاد الحلول للمشكلات، خصوصا أن سوريا رقْـم حسّـاس في التوازنات الإقليمية، من إيران إلى العراق وفلسطين ولبنان.

كل هذا يلتقي عند نُـقطة، أن تركيا بهذه التحرّكات تشكِّـل علامة أساسية وفارقة تتمثل في أنها الجهة الوحيدة القادِرة على التّـواصل مع الجميع، بل لعلّـها العاصمة الوحيدة التي تملِـك رُؤية لنظام إقليمي جديد يحرّك جهودها ودأبها لحلّ المشكلات أو استباق انفجارها.

ومجموع كل هذه الظروف، تُـحوّل تركيا إلى رقم صعْـب إن لم يكُـن الأصْـعب في خريطة المنطقة المستقبلية، لتعود تركيا إليها على حصان أبيض من حيث وحيث لم يكن أحد يتوقّـع ذلك، قبل سبع سنوات فقط.

محمد نورالدين – بيروت – swissinfo.ch

اسطنبول (رويترز) – عقد وزيرا خارجية العراق وسوريا مباحثات في اسطنبول يوم الخميس 17 سبتمبر الجاري بوساطة تركية لتحسين العلاقات بعد خلاف بين بغداد ودمشق بشأن هجمات المتشددين في العراق. واستدعى العراق وسوريا سفيريهما الشهر الماضي بعد اتهام بغداد لدمشق بتوفير المأوى لمتشددين تلقي عليهم باللائمة في سلسلة من التفجيرات من بينها انفجار شاحنتين كبيرتين ملغومتين خارج مقار وزارات عراقية يوم 19 اغسطس، أسفر عن مقتل 95 شخصا.

وطالب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مجلس الامن الدولي باجراء تحقيق حول التفجيرات، لكن الحكومة العراقية قالت انه يمكن سحب الطلب اذا قررت سوريا التعاون بشكل أكبر. وسادت حالة من عدم اليقين بشأن إمكانية انعقاد المحادثات التي رتبت لها تركيا وجامعة الدول العربية وسط حرب كلامية علنية بين بغداد ودمشق.

وقال وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو في مؤتمر صحفي مشترك مع الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى “كان لدينا اجتماع بنّـاء جدا مع زملائنا”.

ولم يكشف عن تحقيق نتائج ملموسة بعد المحادثات بين وزير الخارجية السوري وليد المعلم ونظيره العراقي هوشيار زيباري، لكن مصدرا بوزارة الخارجية التركية قال لرويترز إن الاجتماع كان “خطوة أولى مهمة”.

ولم يشرع البلدان إلا حديثا في تحسين العلاقات المتوترة منذ الايام الاولى لحكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.

وتخشى أنقرة من ان يؤدي العداء الى تقويض استقرار المنطقة، خاصة في الوقت الذي تسعى فيه تركيا للتوصل إلى حل للصراع المستمر منذ عقود في جنوب شرقها الذي تقطنه أغلبية كردية.

وذكر مسؤولون عراقيون ان مسؤولين من العراق وسوريا التقوا في انقرة يوم الاربعاء 16 سبتمبر، لمناقشة القضايا الأمنية، لكنهم فشلوا في التوصل الى اتفاق.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 17 سبتمبر 2009)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية