مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الحوار الوطني في تونس: دروس الصِّراع والتوافق

السيد مهدي جمعة، وزير الصناعة في حكومة السيد علي العريض هو الشخصية التي تم ترشيحها لتشكيل حكومة جديدة تُدير المرحلة النهائية من الفترة الإنتقالية وتهيئ البلاد لخوض الإنتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة Keystone

ما أن أعلن حسين العباسي، الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل عن اختيار وزير الصناعة في حكومة علي العريّض رئيسا للحكومة البديلة، حتى أخذ المشهد العام في تونس يتغيّر تدريجيا، رغم احتجاج بعض أحزاب المعارضة ودخولها في ردود فعل مضادّة، لمن تم التصويت له. فما هي الدروس التي يُمكن استخلاصها من تجرِبة الحوار الوطني، الذي انطلق يوم 3 أكتوبر 2013 ولا يزال مُستمرا حتى الآن؟

بعد أن تلقّى محمد البراهمي، عضو المجلس الوطني التأسيسي 13 رصاصة أردته قتيلا يوم 25 يوليو 2013 ليكون بذلك ثاني اغتيالٍ سياسي يحدُث في تونس في ظرف عام واحد، انفجرت أزمة سياسية خطيرة في البلاد قررت أطراف في المعارضة إثرها الإنخِراط في عملية تصعيدية، تهدِف إلى إسقاط الحكومة.

هذا المسار بلغ أوجَه، مع اعتصام نُظم في ضاحية “باردو” القريبة من العاصمة، كان من نتائجه شلّ نشاط المجلس التأسيسي لبضعة أسابيع وتعبِئة جزءٍ هام من الرّأي العام ضد حركة النهضة.

ويُمكن القول أنه كلّما ارتفعت وتيرة المواجهة بين الطرفيْن، إلا واشتدّت الحاجة إلى تنظيم حوار وطني جامع، للبحث عن حلٍّ توافُـقي ينقِذ تونس من المُضاعفات السلبية لحالة التمزّق والإنقسام النُّخبوي والمجتمعي.

دور الوساطة

في تلك الأجواء الساخنة، تعدّدت مبادرات الوساطة، لكن أهمّها على الإطلاق، كان ما عُـرف بمبادرة المنظمات الأربع الراعية للحوار، والتي شكّلتها أبرز منظمات المجتمع المدني بقيادة الإتحاد العام التونسي للشغل (أكبر مركزية نقابية في البلاد)، إلى جانب كلٍّ من اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (الممثل لأغلبية أرباب العمل في البلاد) والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين.

قَـبـِل الجميع بهذا الدّور، لكن ثِقة البعض في حيادية هذه المنظمات، لم تكن قوية، خاصة إذا ما استحضر المرء الصراع الذي اندلع خلال العامين الماضيين في أكثر من مناسبة، بين حركة النهضة وقيادة اتحاد الشغل، المُمثِّـل لأكبر النقابات الفاعلة. ومع ذلك، أخذت الثقة تتعمّق تدريجيا بينهما في ظلِّ الأزمة العميقة التي تهدِّد استقرار البلاد إلا أن الحوار لم يكن سهلا، حيث بدأ بعاصفة وتوقّف أكثر من مرّة، كان آخرها بسبب الفشل في التوصّل إلى شخصية وِفاقية تتولّى رئاسة الحكومة.

المزيد

المزيد

الوزير التونسي سمير ديلو: “الكثير أُنجز.. ولكن ما زال الكثير أمامنا”

تم نشر هذا المحتوى على في تمرين غير معتاد، شارك وزير حقوق الإنسان والعدالة الإنتقالية في الحكومة التونسية يوم الثلاثاء 10 ديسمبر 2013 في ندوة عُقدت في قصر الأمم المتحدة في جنيف على هامش الإحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان. المناسبة كانت فرصة لاستعراض مسيرة حقوق الإنسان في تونس بعد ثلاثة أعوام من اندلاع الثورة، ولتسليط الأضواء بالأخص على تأسيس آلية وطنية للوقاية من التعذيب، وهي الخطوة…

طالع المزيدالوزير التونسي سمير ديلو: “الكثير أُنجز.. ولكن ما زال الكثير أمامنا”

لغة التنافر تهدد الوحدة الوطنية

الدرس الأول، الذي يمكن استخلاصه بعد شهرين ونصف من المناورات والصِّراع، يتمثَّـل في أن النُّخبة السياسية التي صعّدتها الثورة ومكّنتها من فرصة إدارة شؤون الدولة أو قيادة المعارضة، لم تهيِّئها الظروف السابقة للقيام بمثل هذه الأدوار. فالأحزاب التي تولّت السلطة، لم يسبق لها إطلاقا أن تدرّبت على تحمُّل المسؤولية في أي موقِع من مواقع الحُكم والإدارة. ولهذا، كان وزراؤها يفتقِرون في الغالب لِما يُسمّى بثقافة الدولة، إلى جانب افتقارهم إلى برامج تنطلِق من أهداف الثورة ومطالِب الجماهير، مع الأخذ بعيْن الإعتبار الإمكانيات الفِعلية للبلاد.

في المقابل، استغلّت المعارضة أخطاء الحكومة لتعتمِد أسلوب الهجوم المتواصِل من أجْل إظهار عجْز الترويكا (المتركبة من ائتلاف يضم حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي وحزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات العلمانيين)، وبالتالي، الطَّعن في أهلِيتها لممارسة الحُكم، حتى ولو تمتّعت بالشرعية الإنتخابية. لقد غلبت لُغة التنافُـر بين الفاعلين الحزبييِّن وكذلك بين قواعدهم، بشكل أصبح يهدِّد الوِحدة الوطنية.

لكن، بالرغم من هذا الوجه السَّلبي للعلاقة، إلا أن النُّخبة التونسية لا تزال تتمتّع بالحدّ الأدنى من الشعور بالمسؤولية، وهو ما يجعلها في عديد المناسبات الحرِجة، تتجنَّب في آخر لحظة قطْع شعرة مُعاوية وتنقذ البلاد من الوقوع في انتِكاسة، من شأنها أن تفتح الباب أمام تهديد السِّلم الأهلي بين التونسيين، وهو ما تجلّى بوضوح في خاتِمة الجولة الأولى للحوار، إذ بالرغم من احتجاج المعارضة، إلا أن أغلب فصائلها تجنَّبت إعلان انسِحابها من الحوار الوطني في آخر لحظة، بعد تمديد الوقت، وهو ما حال دون دُخول البلاد في سيناريو شديد السُّوء ومجهول العواقب.

خطوة إيجابية.. لكنها منقوصة

يتمثَّـل الدرس الثاني، في غِياب تقاليد التفاوُض بين السياسيين التونسيين. والتفاوض بين سلطة ومعارضة يختلِف عن التّنسيق أو إقامة تحالفات بين مجموعات سياسية ضدّ النظام السابق. فالقبول بالجلوس على مائدة الحوار، تُـعتَـبر خُطوة إيجابية، لكنها تبقى منقوصة، إذا كان المتحاورون غيْر مُدرِكين بأن العملية التفاوضية تحتاج إلى مؤهِّلات واستعداد لديهم جميعا للقيام بتنازُلات، قد تكون أحيانا مُؤلمة، ولكنها ضرورية للوصول إلى حلول مُمكنة وناجعة.

فالتمسُّك بسقْفٍ أعلى للمطالب، قد يكون مفهوما عند انطِلاق المحادثات، لكن عندما يتأكّد بأن مَوازين القِوى أو المصالح العُليا للبلاد تقتضِيان تخفيض السّقف، يجب أن تتوفّر الإرادة لتغليب المُشترك على جوانب التبايُن والإختلاف.

ما كان يهدِّد الحوار الوطني في تونس، هو إصرار الطرفيْن على التمسّك بجميع أوراقهم، وهو ما أدّى في أكثر من محطّة، إلى تعطيل الحوار والإقتراب كثيرا من حافة الفشل والقطيعة. في حين أن البلاد في مرحلتها الإنتقالية، تقتضي تجنّب منطِق المُغالبة وتفرض البحث عن نوْع من الديمقراطية التشاركية، التي ترفض الإقصاء وتجنّب الغرور، وبالتالي، عدم الأخذ بمُعادلة الرّابحين مقابل المُنهزِمين.

يرى كثيرون أن المرحلة تُوجب الرِّهان على مبدإ التفاوض القائم، على أن يخرج الجميع رابحين. هذا النوع من التفاوض يتطلّب أيضا صبْر الوسيط أو الوسطاء، وبالأخص تمتّعهم بالبقاء على الحياد، حتى في الظروف الحرجة، وهذا ما حاوَل أن يقوم به الرّباعي الراعي للحوار، ونجح فيه أحيانا، وكاد أن يفشِل فيه أحيانا أخرى.

الإختبار الصعب

الدّرس الثالث، يخصّ حركة النهضة التي وجدت نفسها أمام اختِبار صعْب. لقد شعرت بالقوّة عندما حصدت في 23 أكتوبر 2011 أعلى نِسبة مقاعِد بالمجلس الوطني التأسيسي، مما جعلها تُسارع نحو الإعلان عن حقّها في رئاسة الحكومة الأولى من نوعها في تاريخ البلاد.

لكنها بعد سنتين من الحُكم، وجدت النهضة نفسها مدعُـوّة إلى مغادرته، ليس بسبب فشلِها في انتخابات موالية، ولكن تحت ضغْط المعارضة وجُزء من الرأي العام، بحجّة فشلها في إدارة شؤون الدولة.

لم يكن ذلك أمرا هيِّنا، ولهذا رفضته بقوّة في البداية، ثم شيئا فشيئا، بدأ بعض قادتها يقبلون هذا الإحتمال. لكن بعد الذي حدَث في مصر، توفّر الإقتناع بأن مصلحة الحركة إلى جانب مصلحة البلاد، يقتضيان تسليم الحكومة والعمل على نقل المعركة إلى أرْوِقة المجلس التأسيسي.

انتقال لم تكتمل حلقاته

هذه هي بعض خُلاصات من تجرِبة الإنتقال الديمقراطي في تونس، الذي لم تكتمِل حلقاته بعدُ ولا تزال تُـواجِهه صعوبات وتحديّات جمة.

إن بناء الثقة بين المتنافسين السياسيِّين في البلاد، ليست بالعملية اليسيرة، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالإسلاميين والعِلمانيين الذين يمتدّ الصراع بينهم إلى حوالي تسعين سنة في تونس وبقية بلدان المنطقة العربية الإسلامية عموما. ورغم كل شيء، يُلاحظ المُراقب في تونس وجود تراكُم تدريجي وصعْب يحصل في الأثناء، من شأنه أن يُوجد أرضيّة لتعايُش معقول بين الطرفيْن.

الآن وبعد أن تم التوصل إلى اتفاق حول رئاسة الحكومة، ستكون هناك خطوة أكثر أهمِية بكثير، وذلك عندما يتمّ قريبا الإعلان عن دستور نوْعي وتقدّمي قد يكون الأفضل في العالم العربي.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية