مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

بعد رحيل محفوظ نحناح…

ترك رحيل محفوظ نحناح فراغا كبيرا في الحياة السياسية الجزائرية، سيما في الأوساط الإسلامية العتدلة Keystone

كان الشيخ محفوظ نحناح الرقم الصعب في المعادلة السياسية الجزائرية.

وبوفاته الأسبوع الماضي، تغيرت معطيات كثيرة داخل التيار الإسلامي، وأخرى تتعلق بكيفية تعامل الحكومة الجزائرية مع الإسلاميين بشكل عام.

من المسلم به أن الإسلاميين الجزائريين يشكلون تقريبا ثلث القوة الانتخابية، وهي قوة أصبحت تدخل في حسابات الحكومة والرئاسة وخصوم الإسلاميين أنفسهم.

غير أن سبب هذه القوة غالبا ما يُتناسى أو أن العلم به قليل، وهو أن الشيخ محفوظ نحناح كان أول من أدخل مفهوم الإسلام السياسي للجزائر نهاية ستينات القرن الماضي، كما كان أحد أهم الدعاة لمنهج الإخوان المسلمين في الجزائر.

فبعد استقلال الجزائر عام 1962، كان هناك إسلاميون ينتمون إلى الجيل الذي تربى في مدارس جمعية العلماء المسلمين التي أنشأها الشيخ عبد الحميد ابن باديس. وكان نحناح تلميذا لشيوخ هذه المدارس أمثال الشيخ المصباح والشيخ العرباوي، غير أنه زاد عليهما باتصاله بالإخوان المسلمين في مصر وسوريا.

وبسبب طبيعة النظام السياسي والأمني، سرعان ما وُضع نحناح في سجلات مصالح الأمن على أنه معارض للنظام الاشتراكي وللرئيس الراحل هواري بومدين.

وكان نحناح أول من أنشأ خلايا ما يعرف الآن بالحركة الإسلامية الجزائرية، والسبب ليس قصور فهم شيوخ جمعية العلماء لكيفية إنشاء الخلايا، بل لأن الجيل تغير ولم يعد قُـدوة الإسلاميين الشيخ محمد عبده والمصلح جمال الدين الأفغاني، بل أضيفت إليهما قائمة طويلة تضم الشيخ حسن البنا، وسيد قطب، ومحمد فرغلي، وعبد القادر عودة وغيرهم.

وكان الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين متسامحا مع التيارات السياسية، حتى فترة إقرار الدستور الاشتراكي عام 1976. وقد ندد بالدستور الجديد الليبراليون الذين أممت أراضيهم وأملاكهم، ونددت به أيضا الحركة الإسلامية الناشئة التي لم يكن زعيمها الروحي، رغم صغر سنه، سوى الشيخ محفوظ نحناح.

بداية مسيرة طويلة

غضب بومدين من نحناح وأتباعه وأدخلهم السجن، وحكم على نحناح بخمسة عشر عاما نافذة. غير أن فترة السجن هذه، ولدت واقع التيار الإسلامي اليوم بعد حوالي 30 عاما.

ظهرت داخل السجن خلافات بين الإخوان المسلمين، أنصار التيار العالمي، وزعيمهم الشيخ نحناح، وتيار إخواني وليد عُـرف بتيار “الجزأرة”، تلاميذه من شيوخ جمعية العلماء المسلمين تماما كما الشيخ نحناح، غير أنهم لا يرغبون في ارتباطهم تنظيميا بمصر ولا بسوريا، لأنهم رأوا أنهم يملكون القدرة على تسيير أنفسهم بأنفسهم.

وكان عباسي مدني الذي أصبح فيما بعد زعيما للجبهة الإسلامية للإنقاذ مؤيدا لهذا التيار الجديد، وكانت فترة السجن أول مرة يتمرد فيها بعض التلاميذ على شيخهم.

وبعد وفاة بومدين نهاية عام 1978، تولى الشاذلي بن جديد الرئاسة وأطلق سراح الإسلاميين بمن فيهم الشيخ محفوظ نحناح. وبعد خروجه من السجن وجد نحناح نفسه مع ظاهرة أخرى وهي أن بعض خلاياه التي لم تتفطن لوجودها قوات الأمن، تشيعت أثناء فترة سجنه وتأثرت قلبا وقالبا بالثورة الإسلامية في إيران.

ثم ما لبث أن ارتفع نجم الشيخ عبد الله جاب الله، زعيم حركة الإصلاح الإسلامية حاليا، وهو أحد أبناء دعوة الشيخ نحناح لتيار الإخوان المسلمين.

وقبل به الجميع كرأس للتيار الإسلامي الجزائري، غير أن رغبة نحناح في النظام المطلق لم تسمح له بقبول فكرة ظهور قيادات جديدة مثل جاب الله أو محمد السعيد، زعيم تيار “الجزأرة”.

وكانت القيادات الجديدة، تتعامل مع نحناح على أنه الأستاذ وهم التلاميذ، غير أنهم كانوا يناقشونه ويطرحون أفكارا جديدة تتعلق بالعمل المسلح أو التحضير للثورة على النظام.

لم يكن الشيخ محفوظ نحناح مقتنعا بجميع الأفكار الجديدة، لأنه كان يراها غير مناسبة وأنها ستجلب الدمار للجزائر. وزاد الشقاق بين الإسلاميين بعد تجمع الجامعة المركزية وسط العاصمة عام 1982، عندما طالب الإسلاميون الشيعة وتنظيم “الجزأرة” وبعض الإخوانيين، دون تعاون كبير مع الشيخ نحناح، الحكومة بتطبيق الشريعة الإسلامية وأدى التجمع إلى سجن بعضهم، من بينهم عبد الله جاب الله.

وفي أواسط الثمانينات، كانت المساجد تنشط بحرية، وكان الرئيس بن جديد يغض الطرف عنها، غير أن مصالح الأمن كانت تراقب صراع الأفكار بين الإسلاميين وأثر ذلك على النظام بشكل عام.

ومن ناحية السلطات السياسية، تعاملت أجهزة الدولية بتسامح كبير مع الشيخ نحناح، وفي المقابل، أبدت تشددا كبيرا تجاه تيارة “الجزأرة”، أو الشيعة والمجموعات الأولى للسلفيين السياسيين وزعيمهم الجديد الشيخ علي بن حاج.

“الشورقراطية”!

وقد كان نحناح أكثرهم هدوءً وقبولا للحوار مع السلطات بسبب اقتناعه بفكرة العمل خطوة خطوة، وبفكرة المشاركة السياسية. كانت هذه الأفكار، وخاصة تطبيقها، بمثابة الردة عند بعض الإسلاميين الذين لم يترددوا في وصف النحناح بأنه عميل للمخابرات الجزائرية.

يضاف إلى هذا، التأصيل الشرعي للعمل السياسي من قبل تنظيم “الجزأرة” والسلفيين. فأصبح التحرك السياسي عند الكثير من الإسلاميين، ليس مجهودا فكريا وضعه الإخوان المسلمون وأدخله باسمهم إلى الجزائر الشيخ محفوظ نحناح، بل واجبا شرعيا منصوصا عليه في الكتاب والسنة، وأن عمل الإخوان المسلمين لم يكن سوى تحصيل حاصل.

شهدت نهاية الثمانينات صراعا فكريا هادئا بين التلاميذ وأستاذهم، أظهر فيه الجميع قدرة فكرية كبيرة أصبح من الصعب بعدها التمييز بين زعامة هذا وذاك.

ولم تنفجر العلاقات بين الطرفين إلا بعد إقرار التعددية السياسية عام 1989 من قبل الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، حيث رفض السلفيون و”الجزأرة”، التعامل مع نحناح بسبب مواقفه اللينة ودكتاتوريته التي لا تطاق، حسب تعبيرهم.

كما فضل عبد الله جاب الله التغريد خارج السرب أيضا، وأنشأ تنظيمه الخاص به. ودفعت هذه الأوضاع بالشيخ نحناح إلى تأسيس حركة سياسية منفردة عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وهي حركة المجتمع الإسلامي، “حمس”.

ومنذ إلغاء انتخابات عام 91 البرلمانية، والتي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، كان نحناح مؤيدا للحوار مع قادة الجيش وربط صداقات وثيقة معهم، وكانت حجته أمام خصومه من الإسلاميين الذين فضلوا حمل السلاح هي، “أنكم لن تسقطوا النظام بسبب الفوضى الداخلية التي في صفوفكم وعملي هذا أريد به إبقاء الحركة الإسلامية على قيد الحياة.”

لم يقبل نحناح عروض التمرد أو تهديدات بعض الإسلاميين المسلحين الذين قتلوا أكثر من أربع مائة مناضل في تنظيم محفوظ نحناح خلال سنوات الأزمة الجزائرية. ففي الواقع، لم يقتنع أصحاب القرار في الجزائر بسياسة تجفيف منابع الإسلاميين، لأنهم عرفوا أن عددهم ضخم ومن الصعب القضاء عليهم أو تحجيم دورهم بالعنف فقط.

لذلك، قبلوا عروض نحناح بالتعاون معهم، وهم في نفس الوقت، يخوضون حربا شرسة شعواء مع الإسلاميين المسلحين الذين كان من بينهم قياديون في تنظيم “الجزأرة” وسلفيون، بالإضافة إلى تنظيم التكفير والهجرة الذي لم يكن أحد وراء نشأته سوى الجهل والأمية.

وبقبول نحناح وأصحاب القرار بالحوار والتعاون، أصبح الإسلاميون، أو جزء منهم، رقما مهما في المعادلات السياسية الحكومية، التي فرقت بين محفوظ نحناح المعتدل، وعلي بن حاج المتشدد.

يكمن الخلاف في المعادلة الإسلامية الجزائرية الداخلية في كيفية تصور العمل داخل نظام لا يحكم بالشريعة الإسلامية. فبينما يرى نحناح أن الموضوع ليس صعبا وأن الإسلاميين يجب عليهم ممارسة الحكم قبل التفكير في إقامة دولة، يرى بقية الإسلاميين أن المشاركة في حكومة لا تطبق الشريعة الإسلامية كفر صريح لا شك فيه.

فكان أن شارك نحناح في كل الانتخابات البرلمانية في التسعينات، بل وشارك في الانتخابات الرئاسية. ثم ما لبث أن اقتنع الشيخ عبد الله جاب الله بجزء من أفكاره ونسج على منواله.

وكان الشيخ محفوظ نحناح رقما أساسيا تحتاج إليه الحكومة والرئاسة وغيرهما في بناء توازن سياسي وانتخابي يُصبح الإسلاميون بموجبه في المركز الثاني، مهما كان الحدث السياسي، انتخابات أو غيرها، وهو ما حدث في انتخابات عام 1995 الرئاسية، حيث حل النحناح في المركز الثاني خلفا للرئيس السابق ليامين زروال، وتنظيمه ثانيا في الانتخابات البرلمانية عام 1997، وحل الإسلاميون في المركز الثاني خلال الانتخابات البرلمانية والبلدية لعامي 2001 و2002.

وضع أفـرَح نحناح الذي ربح رهان إقحام الإسلاميين في المشاركة السياسية عبر البرلمان والحكومة من دون عنف وأصبح لديه وزراء يزعجون بعض المرتشين داخل الإدارة، وبات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يعتمد عليهم في المشاريع الكبرى التي لا تتحمل الرشاوى لأنها قد تصبح فضيحة عالمية، مثل مشروع إنشاء الطريق السريع “شرق غرب”، الذي سيربط الحدود الشرقية للجزائر مع تونس بحدودها الغربية مع المغرب ومسافته 1200 كلم، والذي أوكل بوتفليقة بمهمة الإشراف عليه لوزير من وزراء تنظيم نحناح وهو عمر غول. غير أن هذا الوضع الذي أفـرَح نحناح، أغضَـب بقية الإسلاميين الذين رأوا أنهم أقوى وأكبر من المركز الثاني الذي أصبح حِـكرا عليهم.

وهناك من يرى أن وفاة الشيخ نحناح تمثل فاجعة للمعتدلين الجزائريين، ليس لأن فكرة موت الزعيم غير مقبولة، بل لأنهم لا يملكون زعيما كاريزميا بحجم الشيخ نحناح.

لذلك، رأى المراقبون أن حركة مجتمع السلم تعيش الآن مرحلة تاريخية صعبة قد تعني استمرارها أو ضياعها، لأنها ملزمة بالبقاء على نهج نحناح. غير أن الخلافات الداخلية قد تؤثر عليها بسبب وجود تياري المحافظين والمجددين. كما أن حسابات أصحاب القرار في الجزائر، ستتغير تجاه الإسلاميين الذين لم يبق من قياداتهم سوى من يريد زوال النظام في المدى القريب أو المتوسط.

مواقف قد تغير من مركز الإسلاميين الجزائريين من المركز الثاني إلى مركز آخر لن يحدده أصحاب القرار لوحدهم، بل كيفية تتابع الأحداث أيضا. كما أن الأشهر المقبلة ستحدد صحة أو خطأ وجهة نظر الشيخ محفوظ نحناح تجاه الحياة السياسية الجزائرية.

هيثم رباني – الجزائر

ولد الشيخ محفوظ نحناح في 27 يناير 1942 بمدينة البليدة
تحول اسم حزبه “حمس” عام 1999 إلى حركة مجتمع السلم
ترشح للانتخابات الرئاسية عام 1995
توفي في 19 يونيو 2003

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية