مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“برنامج الهيروين هو نوع من الحَظوة التاريخية لسويسرا”

هكذا بدت ساحة "بلاتسشبيتس" (ميدان الإبر) في زيورخ في أحد أيام شهر يونيو 1990. Keystone

نقلت مختلف وسائل الإعلام في بداية تسعينيات القرن الماضي صوراً جابت شتّى أنحاء العالم لمِئات المُدمنين المُتجمعين يومياً في ساحة "بلاتسشبيتس" (ميدان الإبر) في زيورخ، العاصمة التجارية لسويسرا.

وفي ضوء هذا الوضع البائِس، قرّرت الحكومة السويسرية تبنّي سياسة جديدة ومقبولة اجتماعياً لتوزيع الهيروين تحت الرعاية الطبية الصارمة. وبرغم ما تعرّض له هذا النّهج من مخاوِف وانتقادات حادّة في بادِئ الأمر، إلا أنه نجح اليوم في كسْب المزيد من الأنصار، وبات نموْذجاً يُحتذى به في شتّى أنحاء العالم.

أندري سايدنبيرغ، الطبيب الذي عالج نحو 3500 مُدمِن خلال مسيرته المِهنية، كان أحد أوائل مُقدِّمي المساعدات الطارِئة للمدمنين والمُنادين بتسليمهم إبر نظيفة في ما كان يُعرف آنذاك بـ “ميدان الإبر” في زيورخ. ووِفقاً لأخصّائي الإدمان، كانت جميع المُحاولات القمعية للقضاء والشرطة للسيطرة على هذه المشكلة آنذاك، قد باءت بالفشل، ولم تؤدّ سوى إلى تفاقم الوضع والترويج للمزيد من المخدرات.

swissinfo.ch: قبل 20 عاماً، كانت سويسرا أول دولة تباشِر بتجربة توزيع الهيروين تحت الإشراف الطبّي على الحالات الصّعبة لمُدمِني هذا المخدّر والذين فشلت معهم كافة وسائل العلاج الأخرى. هل يمكن وصف هذه التجربة كقِصة نجاح؟

آندري سايدنبيرغ: هذا ما يُظِهرُه الواقِع، ولكن يجب أن نضع في عين الاعتبار أن برنامج توزيع الهيروين هامشي، وهو على حدّ عِلمي لم يصل إلى أكثر من 5% من المَعنِيين. إنه نوع من البرامج الرائدة والحظوة التاريخية.

ولكن مسألة علاج غالبية مُدمِني المواد الأفيونية بالميثادون والحالات القليلة الأخرى – الشديدة وغير القابلة للعلاج – بالهيروين، تُمثِّـل نجاحاً بالتأكيد. كما ستكون زيادة نِسبة مُتلقّي العلاج من المُدمنين، أمراً مُستحباً. وكنتُ أتمنّى آنذاك مواصلة إضفاء الطابَع الطبّي والقانوني على سوق المخدّرات.

المزيد

المزيد

ساحات مفتوحة للمخدرات في زيورخ

تم نشر هذا المحتوى على “ميدان الإبر” أو Needle Park: هذه هي التسمية التي كانت تُطلق على الحديقة ما بين عامي 1987 و1992 حينما كانت تكتظ في كل يوم بعدد من الأشخاص يتراوح عددهم ما بين ألف وألفين الباحثين عن مواد مخدرة. في نهاية المطاف، قررت سلطات مدينة زيورخ في الخامس من شهر فبراير 1992، إغلاق الحديقة بوجه الجمهور، لكن…

طالع المزيدساحات مفتوحة للمخدرات في زيورخ

swissinfo.ch: ربما كان ذلك سيؤثر على السوق السوداء أيضاً؟

آندري سايدنبيرغ: بالطبع. فالسوق السوداء في الواقع تتعزّز بالوسائل القمعية، ولن تقدّم في نهاية المطاف سوى مُنتجات سيِّئة تُضرّ بالناس. أتمنى رؤية تعامل أقلّ نِفاقاً مع المخدّرات.

swissinfo.ch: أنتم إذن إلى جانب إضفاء شرعية قانونية على المخدرات؟

آندري سايدنبيرغ: أنا أؤيِّد القيام بإجراءات تؤدّي إلى تنظيمٍ أفضلٍ للسّوق. وهذه مشكلة عالمية. فما زالت لدينا حرب مخدِّرات دولية نشطة للغاية، تحدث بشكل يومي وواضح في مناطق كثيرة.

إن تنظيم سوق المخدّرات ليس بالأمر البسيط، بل إنه معقّد جداً. فلا يمكن إضفاء الشرعية على الكوكايين مثلاً، ثم الاعتقاد بأن جميع المشاكِل قد حُلَّت. فإدخال أمر كهذا ينبغي أن يتِم بعناية فائقة.

إن الإدمان كمبدإ مُدَمِّر ساحِق، هو حقيقة واقعة ومشكِلة ينبغي علينا التعامُل معها كأفراد وكمجتمع على حدٍّ سواء. الإدمان موجود في مجالات كثيرة، علينا النظر فقط إلى التبغ أو الكحول. ينبغي علينا أن نحاول خلق بيئة جيِّدة بأفضل شكل ممكِن في كل مكان، لكي نقلِّل من الأضرار التي تُصيب العديد من الأشخاص عند التعامل مع هذه المواد إلى أدنى حدٍّ ممكن.

1991: سويسرا تتبنّى استراتيجية جديدة تعتمد على أربعة أعمِدة ممثلة بـ “الوقاية” (المتضمنة لحملات التوعية والتنبيه) و”العلاج” (أي انخراط المدمنين في برامج للرعاية والإدماج والتأهيل) و”التحجيم” أو الحدّ من الضرر (الذي يهدف الى السيطرة على ظاهرة الإدمان) و”القمع” (الذي يشمل حملات الأجهزة الأمنية والشرطة للقضاء على تجارة المخدرات).

تولدت هذه السياسة البراغماتية إلى حدٍ كبير، نتيجة الوضع البائس للأعداد المُتصاعدة لمُدمني المخدرات في زيورخ في موفى الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي.

1994: السلطات السويسرية تنفذ للمرة الأولى تجربة توزيع مخدّر الهيروين تحت الإشراف الطبي.

1997: معهد بحوث الإدمان في زيورخ يَخلُص إلى ضرورة استمرار هذه الاختبارات التجريبية، نظراً لتحسّن الوضع الصحي والسّكني للمدمنين، وانخفاض نسبة الوفيات والإصابات بمرض نقص المناعة المُكتسب (الإيدز) و تراجُع عدد الجرائم.

1997: الناخبون السويسريون يصوِّتون بأكثر من 70% على استمرار الدّعم الحكومي المالي لهذا البرنامج، رافضين المبادرة الشعبية “شباب بلا مخدّرات” التي أطلقتها الأحزاب اليمينية، والداعية إلى سياسة مُقيدة للمخدّرات.

1998: الناخبون السويسريون يرفضون بنسبة 74% مبادرة “إباحة المخدّرات” الداعية إلى تقنين المخدّرات.

1999: وافق البرلمان السويسري على قرار [برنامج] الحكومة الفدرالية العاجِل بشأن العلاج بمساعدة الهيروين. كما صادق الناخبون السويسريون على البرنامج بنسبة 54.3%.

2008: الشعب السويسري يؤكّد موافقته على القانون المنقح الجديد للمخدّرات بنسبة 68%. ومنذ ذلك الحين، تكرّس توزيع الهيروين تحت الرقابة الطبية في القانون.

2010: دخول القانون المُنقح بشأن المخدّرات حيِّز التنفيذ.

swissinfo.ch: كيف يشعُر الشخص الذي يحصل على الهيروين بانتظام كدواء، بدلاً من البحث عنه في الشارع؟

آندري سايدنبيرغ: يتمتّع الشخص الذي يحصُل على المخدّر مرّتيْن يومياً بحالة نفسية أفضل، وهو أكثر استقرارا بكل معنى الكلمة. بالطبع هناك آثار جانبية وحتى عاهات مُستديمة. فالشخص الذي يتعاطى هذه المواد بشكل يومي، يعاني من انخفاض الرغبة الجنسية، واضطرابات النوم، أو من نطاق محدود للاحتمالات الحسية بين النّشوة والحزن.

ولم يَعُد الأشخاص المُنضمون إلى برنامج العلاج بالهيروين مُضطرّين لتمويل وجودهم من خلال مُمارستهم لأنشطة غيْر مشروعة. كما تراجعت نِسبة الجنوح، والدّعارة، والانحراف الاجتماعي بكافة أشكالها.

swissinfo.ch: يُمكنهم إذن مُمارسة حياة طبيعية إلى حد ما؟

آندري سايدنبيرغ: إن إمكانية تزويدهم بالمخدّر أمر حاسم. ذلك أن الاستهلاك ينحى إلى الارتفاع في ظلّ الظروف غير القانونية، حيث لا تتوفّر لدى مُعظم المُدمنين القُدرة دائماً على حقن أنفسهم بعناية، مما قد يؤدّي إلى مخاطر الالتهابات والأمراض المُعدية. كما أن احتمالات حقن جُرعة زائِدة أسهل حدوثاً في الشارع.

إذا نجحنا في توفير الاحتياجات الطبية لهؤلاء الأشخاص، سوف يتِم القضاء على هذه المخاطر إلى حدٍّ كبير، لأن تسليم المخدّر تحت إشراف طبي، يُمَكِّن المُدمنين من ممارسة حياة طبيعية إلى حدٍ كبير، حتى لو كان عدد الأشخاص المُعاقين في برامج الهيروين أكثر منه في برامج الميثادون (المُستَخدَم كعلاج لمساعدة المُدمِنين على المخدّرات، حيث يتراوح تأثيره بين 22 – 48 ساعة، يعمل خلالها على منع ظهور أعراض الإدمان ويقلِّص الرّغبة بالمخدّر).

swissinfo.ch: إذن، من الجانب الطبي، يتعلق الأمر بالمقام الأول بالحدّ من الأضرار والتوازن وليس الامتناع [عن تناول المخدر]؟

آندري سايدنبيرغ: بالنسبة لنا كأطباء، تتمثل الأولوية بمنع الإصابات الجسدية الخطيرة والوفاة. في دليل الطب، يحتلّ خلاص الرّوح، مرتبة ثانوية بعد السلامة البدنية.

المزيد

المزيد

“لولا برنامج العلاج بالهيروين.. لكُـنت في عداد الموتى”

تم نشر هذا المحتوى على “كنت دائماً وما أزال شخصاً شديد الحساسية والقلق. إنه لَأمْر فظيع، عندما تداهمك كل أنواع الحالات النفسية غيْر المُرَشحة، دون أن تستطيع الدِّفاع عن نفسك. كُنت حسّاسة جداً منذ طفولتي”. وكانت إيفيلين (وهو اسم مُستعار)، التي تبلغ اليوم الخامسة والخمسين من العمر، قد بدأت بشرب الكحول وهي بعمر المراهقة، “مع أن مذاقه لم يرُق لي…

طالع المزيد“لولا برنامج العلاج بالهيروين.. لكُـنت في عداد الموتى”

swissinfo.ch: ألا يُفترض أن يكون الامتناع [عن تناول المخدّرات] هو الهدف من السياسة الحكومية لمكافحة المخدرات؟

آندري سايدنبيرغ: كان هذا هو هدف السياسة والجمهور، وما زال العديد من الأطباء محافظين على هذا الوهْم أيضاً. ولكن هذه استراتيجية خطيرة جداً. إن الإدمان على الهيروين مرض مُزمن، وقلة قليلة فقط من مُدمني المواد الأفيونية يمتنِعون عنها بشكل نهائي. وغالبية هؤلاء يعانون بشدّة في فترة الامتناع.

وعلى النقيض من الكحول، لا يعني الامتناع عن تعاطي الهيروين تعزيز الصحة والشعور بالراحة، إذ يرتفع معدّل الوفيات من ثلاث إلى أربع مرّات في فترة الامتناع عمّا هو عليه مع استهلاك الهيروين أو الميثادون تحت وصفة طبية. ويمكن أن تتسبّب المحاولات المتكرّرة للامتناع، بصعوبات نفسية واجتماعية قد تؤدّي بدورها إلى تصرفات خطرة.

swissinfo.ch: هل ما زال الهيروين يشكِّل موضوع اهتمام اليوم؟

آندري سيادنبيرغ: لحُسن الحظ، لا توجد لدينا سوى حالات نادِرة لصبية يبدؤون بتعاطي الهيروين. وقد انخفض الاستهلاك بشكل هائِل. وبالنسبة للأشخاص الذين وُلِدوا في عام 1968، والذين يُمثلون جيل ميدان “بلاتسشبيتس”، أصبح 1% منهم مُدمنين، ولاقى الكثير منهم حتفهم نتيجة تعاطي المخدّرات، أو أن غالبيتهم ما زالوا مُدمنين.

واليوم، يبلغ متوسّط ​​عمر مُدمني الهيروين في سويسرا 40 عاماً. ولو أننا لم نعمل على وقف تنامي هذه الظاهرة في بداية التسعينيات، لتأثر مواليد كل سنة إضافية بنفس القدر. ويمكن العثور على مجتمعات ينطبق عليها هذا الوضع، كما هو الحال في دول الاتحاد السوفياتي السابق أو إيران مثلا، حيث تُدمن نسبة عالية من السكان على المواد الأفيونية المفعول.

swissinfo.ch: قرأت أنكم جرّبتم بعض أنواع المخدّرات ومنها الهيروين بأنفسكم. لِمَ لَمْ تصبح مدمنا؟

آندري سايدنبيرغ: ربما كنت محظوظاً. عندما كنتُ شابّاً جرّبت كل المخدرات تقريباً بالفعل. وقد استطعت إرضاء فضولي، وربما أكون قد تعلّمت جرّاء ذلك بعض الأشياء التي كانت نافِعة لمرضاي. لقد تعرّفت على مخاطر المخدّرات أيضاً، حيث فقدت العديد من الأصدقاء، حتى قبل دراستي الطبية.

swissinfo.ch: هل ينبغي للشخص أن يكون قد تناول المخدّرات كي يكون أخصّائياً جيداً لمعالجة الإدمان؟

آندري سايدنبيرغ: كلا، هذا أمر لا أوصي به. من المفيد جداً بالتأكيد أن يكون للمرء ذِهن متفتّح عند التعامل مع المشاكل النفسية، لكن هذا لا يعني تجربة كل شيء بالضرورة، لأن ذلك يمكن أن يكون ضارّاً وخطراً.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية