مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تركيا.. “لاعب عولمي” جديد أم مجرد باحث عن “دور إقليمي” مناسب؟

يُـعتبرأحمد داود أوغلو، وزير الخارجية في الحكومة التركية، المهندس الحقيقي للدور الجديد الذي تسعى إليه أنقرة في جوارها الإقليمي وفي المنطقة العربية الإسلامية عموما. Keystone

نظرا لانشغاله في العاصمة أنقرة، فضَّـل أحمد داود اوغلو، وزير الخارجية التركي، أن يطل على المشاركين في مؤتمر خصص لمعالجة دور أنقرة الجديد عبْـر "الفيديو". كانت الكلمة قصيرة وفيها تأكيد على العناصر الجديدة التي تحكم السياسة الخارجية التركية، لاسيما "إنهاء المنازعات مع دول الجوار والتّـوازن بين الأمن والحرية وزيادة التقدّم الاقتصادي".

أما مداخلة الدكتور سلمان سعيد، باحث الاجتماع في جامعة ليدز، فقد حفَّـزت القيادة التركية على تصدير ما اعتبره نموذجها في الديمقراطية والتقدّم الاقتصادي، مُـشترِطا أن يكون ذلك تحت مظلّـة “كولونيالية” (استعمارية)، بالمعنى التدخلي الهجومي، ذلك أن تصدير النموذج بدون نزعة توسعية، لا يؤدي الغرض المطلوب، بل قد يرتد على الداخل نفسه، وِفقا لسلمان.

وبينما قال مثقّـفون عرب إن على تركيا أن تقود الشرق الأوسط، بدلا من أن تقف على أبواب أوروبا تستجدي العضوية الكاملة، فيما تسدّ أوروبا أذنيْـها وتعتبر الأمر من سابع المستحيلات، رفض مشاركون عرب آخرون مقولة فراغ القوى الذي يدعو البعض تركيا لملئِـه، وطرحوا فكرة “الشراكة الإستراتيجية” بين تركيا والدول العربية القائدة، وهي مصر والسعودية وسوريا والجزائر، تدعيما للاستقرار الإقليمي من جانب، وتوسيع فُـرص التنمية الإقليمية من جانب آخر.

استمع الحضور التركي وكان غفيرا (لا يقل عن مائة مشارك) للمداولات بانتباه، بينما أثار أستاذ علوم سياسية أمريكى سؤالا مهمّـا، تعلّـق بما هو المكسب الذي ستحقِّـقه تركيا إن فصلت نفسها عن أوروبا تماما، وهل يدرك العرب مغزى ذلك ونتائجه وهل يحبِّـذونه؟

كان السؤال في الأصل مُوجَّـها إلى أحد الحاضرين العرب المحبّـذين قيادة تركيا للمنطقة العربية، باعتبارها الآن جِـسما بلا رأس وتعيش حالة فراغ قوّة، بينما تركيا ـ حسب رؤيته ـ رأس بلا جسَـد، ولديْـها مقوِّمات القوّة الإقليمية الكُـبرى. في حين أشار روبرت فولك، استاذ القانون الدولي في جامعة برنستون، إلى أنه من الخطإ تصوّر أن الأمور ستجري على خير حال، طالما أن المبادئ مِـثالية، في إشارة إلى مبدإ إنهاء المنازعات أو “صفْـر مشكلات”، الذي جاء به وزير الخارجية التركى احمد داود أوغلو، معتبرا أن الحركية التركية في الشرق الأوسط، هي بهدف زيادة الوزن السياسي والمعنوي في أي مفاوضات مقبِـلة مع الاتحاد الأوروبي، ومن ثَـمَّ، فليس لها أهداف تتعلّـق بقيادة منطقة هي بطبيعتها عصِـية على النفوذ الخارجي، بحُـكم تاريخها وتُـراثها الذاتي.

هذه لمحات من مناقشات وآراء جرت مِـياهها في مؤتمر كبير، نظمه مركز التفكير الإستراتيجي التركي في إسطنبول لمدّة يومين (6 و 7 أكتوبر 2010)، وهو مركز يُقال إن الرئيس التركي عبد الله غُـل يدعمه بقوّة. وشارك فيه عدد كبير من الباحثين من جنسيات مُـختلفة من المهتمِّـين بالشأن التركي خاصة، وتوازن القوى في الشرق الأوسط عامة.

العنوان الموحي

جاء عنوان المؤتمر مُـوحِـيا إلى حدٍّ كبير، وهو “تركيا وتوازن القوى العولمي المتغيِّـر”، وضمّـت محاوره الرئيسية قضايا عديدة، كرؤية تركيا المتغيِّـرة للعالم والفرص والمشكلات في علاقات تركيا والاتحاد الأوروبي ومشكلات العالم الأمنية في سياق الديمقراطية والحرب وتركيا والعالم الإسلامي والحفاظ على التنمية، بالرغم من الأزمات.

كل ذلك في ظل مفهوم قدّمته الورقة الخلفية للمؤتمر، تدعم فِـكرة أن الحركية التركية الخارجية في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، جنبا إلى جنب النجاح الاقتصادي في الداخل وعدم التأثر بالأزمة الاقتصادية التي عصفت بالولايات المتحدة وبلدان أوروبية عديدة، كما جرى في العامين الماضيين تحديدا، تعدّ علامات على نهوض تركيا كلاعب عولمي جديد.

لكن الورقة تلاحظ أيضا أن الداخل التركي يعُجّ بالإنتقادات للسياسة التركية الجديدة، لاسيما التوجّه ناحية الشرق الأوسط عامة، والبلدان العربية خاصة، والإنغماس في قضايا الإقليم على حساب الإلتزام التاريخي للدولة التركية الحديثة بالسعي الدؤوب نحو الإنضمام للإتحاد الأوروبى وتأكيد التغريب الكامل للبلاد.

كما تلاحظ الورقة أيضا أن هذا التوجّه نحو الشرق لم يخلُ من مخاطِـر. فبينما تؤدي التحركات التركية المتزايدة إلى إعادة تشكيل توازن القوى في الشرق الأوسط، فقد حدثت إخفاقات وظهرت المعارضة من القوى الإقليمية والدولية على السواء، كما حدث بالفعل في تدخلات تركيا في مسألتي غزة وإيران، وكِـلاهما لم يأت بنتيجة حاسمة، بل جرّ على تركيا انتقادات وضغوطا لم تكُـن تتوقّـعها أصلا، بل أيضا غيّـرت في طبيعة علاقتها مع دولة طالما كانت لها مكانة خاصة في السياسة التركية.

ومما قاله كمال قرباط، البروفيسور التركي بقسم التاريخ بجامعة ويسكِـنسون بماديسون، فإنه رغم الشعور العام بأن الولايات المتحدة تفقِـد هيمنتها بتدرّج على السياسات العالمية، فإنها ستظلّ قائدة عولمية كُـبرى لمدة طويلة مقبلة، ولذا، يجب على تركيا أن تستمر في الحفاظ على العلاقة الإستراتيجية الخاصة معها، مع ملاحظة أن هناك سوء فهم في الولايات المتحدة للسياسة التركية الجديدة، جزء منه بسبب غياب الفهم الصحيح للإسلام، ولكن أيضا لأن تركيا لم تستطع أن تشرح نفسها جيِّـدا وتركت الباب للجماعات الصهيونية النافذة، في تصوير أن تركيا قررت الإبتعاد عن الغرب وتوالي إيران وتقوم حكومتها بعملية أسلمة منهجِـية للبلاد، وهو ما يشكل خطرا على المصالح الغربية. ويتمثل الحلّ في نظر كمال قرباط، في أن “تقوم الدولة التركية بعملية مضادّة، ولكن داخل أمريكا نفسها”.

أي نموذج لتركيا؟

كان النقاش متعدّد الأبعاد، لكنه ركّـز، وإن بطريقة غير مباشرة، على فكرة النموذج التركي ودعائمه وإلى أي مدى يمكن لهذا النموذج أن ينير الطريق أمام بلدان الشرق الأوسط والعربية تحديدا، التي تعدّ أكثر البلدان في العالم عزوفا عن التحول الديمقراطي. وارتبط بذلك نقاش آخر حول الحجم الحقيقى من القلق ـ حسب د. حسن قوني، رئيس مجلس إدارة مركز التفكير الإستراتيجي ـ الذي تشعر به الدول العربية من هكذا دينامكية تركية جديدة، داخليا وخارجيا. وهل بالفعل توجد فرصة أمام تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في مدى زمني منظور؟

النموذج التركي، حسب المناقشات التي اتّـسمت بالجرأة والوضوح من قِـبل المشاركين من الخارج، لم يصل إلى درجة النُّـضج الكامل بعدُ. صحيح هناك ديمقراطية وتعدّد أحزاب وتداوُل سلطة وانتخابات نزيهة وعوْدة إلى المواطنين للحصول على الشرعية عند اتخاذ القرارات الجدلية بين قادة الأحزاب، فضلا عن اتخاذ خطوات جريئة في مجال إبعاد الجيش عن التدخل المباشر في السياسة، كما كان الوضع من قبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، لكن يظل موضوع حقوق الإنسان والتسامح مع بعض المختلفين في الدّين بحاجة إلى قرارات حاسمة، ومن بين ذلك، إنهاء الموضوع الكردي على قاعدة المواطنة الكاملة واغلاق الملف القبرصي وتغيير السياسات والمواقف المتعلِّـقة بالعلَـويين.

وهذه الثغرات نفسها، وحسب ـ إيغمن باغيش، وهو وزير دولة ومفاوض رئيسي في المفاوضات الجارية مع الاتحاد الأوروبي ـ هي الأسباب التي يتمسّـك بها الأوروبيون في إبعاد تركيا عن حصنهم المنيع، حتى تصل الأمور إلى نهاياتها السعيدة، وإن كان ذلك لا يبدو قريبا. ومن ثَـمَّ، فإن موضوع العُـضوية الكاملة لتركيا، سيظل مؤجّـلا، وكل ما هناك هو أن تحصل على علاقة ذات وضع خاص، فيه كثير من المزايا العملية، ولكن دون الحصول على حقوق المشاركة في اتخاذ القرار الأوروبي.

تفاصيل عديدة في صحف المعارضة

ما جاء في النقاش العام في جلسات المؤتمر حول ثغرات الديمقراطية التركية تحت مظلـة حكومة العدالة والتنمية، لم يكُـن سوى عناوِين كُـبرى، بينما حفلت الصُّـحف التركية، خاصة من المحسوبة على المعارضة أو العِـلمانيين الكماليين والصادرة في أيام انعقاد المؤتمر نفسه، على بعض تفاصيل لمناقشات جارية في الداخل، تخدِش الممارسة الديمقراطية التركية بشكل أو بآخر، ومن بينها مسألة اتِّـساع دور الاستخبارات في العمل الداخلي وارتفاع حالات التنصُّـت على الهواتف للمواطنين وتوظيف ذلك في الإغتيال المعنوي لشخصيات عامة، دون معرفة مدى الإلتزام بالقانون في هذه الحالات.

والتحيّـز الحكومى ـ بناءً على التعديلات الدستورية الأخيرة التي تم الإستفتاء الشعبي عليها في 12 سبتمبر الماضي ـ لنشر ارتداء الحجاب بين السيدات والفتيات، لاسيما في الكليات والمعاهد العلمية المختلفة، في الوقت الذي يقوم فيه البوليس باحتجاز فتاتيْـن في عمر الزهور قبل أربعة أشهر هما: “فرهات” و”برنا”، دون أن يعلم أحد أيْـن توجدان بالضبط، بسبب مشاركتهما في مظاهرة طلاّبية رفضت رفع تكاليف التعليم العالي وتحميلها على الطلاب المتخرّجين لاحقا، ناهيك عن قسوة الشرطة في مواجهة مظاهرات الفتيات وتعرّض الدولة التركية لتهديدات خطيرة من قِـبل المنظمات التي تعمل على قَـدَم وساق في أسلمة المجتمع، وِفق نُـظم تنشِـئة ذات طابع عسكري وسلطوي.

وبغضِّ النظر عن حجْـم المبالغة في طرح قضايا حقوق الإنسان بوجه عام واحترام القانون بوجه خاص، فإن فكرة النموذج التركي هنا تظل بحاجة إلى قرارات مهمّـة وكبرى في قضايا تمس المواطنين الأتراك جميعا، أيا كان انتماؤهم السياسي أو سلوكهم الديني.

“كولونيالية” خيالية في زمن العولمة

لذلك، فإن النصيحة بأن يتِـم تصدير النموذج وِفق أساليب “كولونيالية” بهدف فتح أبواب الآخرين لاستقبال هذا النموذج، تبدو أكثر من خيالية وغير ذات جدوى. فقيادة منطقة بالمعنى العضوي المباشر، تتطلّـب شروطا أكبر بكثير من مجرّد امتلاك نموذج جذّاب في الديمقراطية أو الأداء الاقتصادي.

فثمة موارد كبرى ومتنوِّعة لابُـد من توافرها، وإرادة للقيادة مدعومة بحالة شعبية واسعة المدى وبيئة إقليمية وخارجية تستقبل هذه القيادة وتتفاعل معها إيجابيا، ونظام عالمي يقبل بهذه القيادة، لأنها تحقِّـق مصالح كبرى في السلام والأمن والتنمية. ومع افتراض أن لتركيا موارد متنامية ولديها رغبة في القيادة الإقليمية، فهل ستقبل المنطقة، استنادا إلى جاذبية النموذج والتراث التاريخى المشترَك والعقيدي؟

مَـن يلاحظ التفاعلات القائمة بين دول الإقليم وبين تركيا، يمكن أن يخرج بالإجابة الصحيحة. فهناك تحفُّـظات في عدد من المواقِـف العربية، كما أن هناك بُـرودة في مواقف دول عربية أخرى، فضلا عن أن هناك اندِفاعا في مزيد من العلاقات الثنائية، وفقا لاعتبارات إستراتيجية بَـحتة، دون أن يكون ذلك مرْهونا بقرار من الناس أنفسهم أو له صلة باستِـنساخ النموذج التركي نفسه، ولعل الحالتين، السورية التركية والغزاوية تحت قيادة حماس، التي تتطلّـع إلى كل صنوف الدّعم التركي، تعبِّـران عن تبايُـن الأهداف والسياسات بين المنطقة ككل وبين تركيا، وهو ما يضع قيْـدا كبيرا على أيّ مسعى مباشر يتصوّر أنه سيفرض نموذجا ديمقراطيا ويؤدي إلى تحوّلات سياسية في بلدان الغيْـر. وبالقطع، فإن موارد تركيا، رغم معدلات نموِّها الإقتصادي الكبيرة، تظلّ قاصِـرة عن تمويل حملات “كولونيالية” تحت أي مُسمّـىً كان.

بدأت عودة تركيا إلى لعب دور نشط في الشرق الأوسط، إثر توقيعها مع سوريا على “اتفاق أضنه” في 22 أكتوبر 1988 وتعزز هذا التوجه بعد اعتقال الزعيم الكردي عبدالله أوجلان في فبراير 1999.

بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في موفى 2002، تبلورت سياسة جديدة، لخّـصها وزير الخارجية الحالي داوود أوغلو بمعادلة “صِـفر أعداء”، وشمِـلت تطوير العلاقات التجارية مع جميع البلدان العربية وإنهاء الإشكاليات القديمة مع الدول المجاورة، وخاصة سوريا والعراق وإيران.

بعد حرب صيف 2006، التي شنّـتها إسرائيل على حزب الله في لبنان، اشتركت تركيا في قوات حفظ السلام الأممية في جنوب لبنان، وهي المرة الأولى التي عاد فيها جنود أتراك إلى المنطقة التي كانت تعرف بالهلال الخصيب منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.

اتّـخذت تركيا مواقف صارمة ضد الحرب الإسرائيلية على غزة، وارتفعت حدّة التوتر بين أنقرة وتل أبيب منذ الملاسنة الشهيرة في يناير 2009 في دافوس (شرق سويسرا) بين رئيس الوزراء أردوغان والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس، وصولا إلى الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية يوم 31 مايو 2010. ويُـصر كبار المسؤولين الأتراك إلى اليوم على مطالبة إسرائيل بالاعتذار ودفع تعويضات. كما يهددون إسرائيل بـ “فقدان صديق مهم في الشرق الأوسط”.

الموقف التركي من البرنامج النووي الإيراني ونجاح أنقرة في بلورة اتفاق مع البرازيل، لمحاولة الخروج من المأزق القائم بين طهران والدول الغربية، أثار غضب واشنطن، لكنه يندرج في نفس السياق الدبلوماسي الذي تسير فيه تركيا منذ عشر سنوات تقريبا.

مع ذلك، لا ترى تركيا أن تقاربها مع جوارها العربي والإسلامي يجب أن يكون على حساب علاقاتها المتينة والعريقة مع إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، خصوصا وأن أنقرة تظل البلد الإسلامي الوحيد العضو في حلف شمال الأطلسي منذ نهاية الأربعينات كما كانت أول دولة إسلامية تعترف بـإسرائيل في عام 1949 وترتبط معها بعلاقات ودية بل استراتيجية في منتصف التسعينات.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية