مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أردوغان في مواجهة غولن: المهمّة المستحيلة؟!

رغم الصراع المحتدم مع جماعة غولين، استمر رجب طيب أردوغان في قيادة الحملة الانتخابية لحزبه استعدادا للإنتخابات البلدية المقررة ليوم يوم 30 مارس 2014. Keystone

غالبا ما كانت "حرب الأخوة" أصعب وأقسى من الحروب بين الأعداء. واليوم، يُشبّه البعض الحرب في تركيا بين رئيس حكومة حزب العدالة والتنمية رجب طيب اردوغان والداعية فتح الله غولن بحرب داعس والغبراء بين القبائل العربية في العصر الجاهلي، وبالحرب الدائرة بين "داعش" و"النصرة" في سوريا حديثا..

لفترة طويلة، شكّل فتح الله غولن بمؤسساته وخدماته داخل تركيا وخارجها رافعة في مقاومة أنظمة الوصاية العلمانية – العسكرية، ومن ثم مثّل رافعة مُهمّة في سلطة حزب العدالة والتنمية عام 2002 وفي استمرارها.

لا يُعرف بالضبط حجم الكتلة الإنتخابية لغولين، فقد تكون خمسة أو عشرة في المائة أو أقل، لكن وزن غولن وتأثيره ليس في قاعدته التجييرية في الإنتخابات بل في ما يُمثله من رمز للنضال ضد المتشددين من العلمانيين والمؤسسة العسكرية على امتداد نصف قرن من الزمان. لذلك فإن الصراع الذي انفجر اليوم بين أردوغان وغولن أشبه شيء بــ “حرب أهلية” داخل الصف الاسلامي، وهي من صنف الحروب التي دائما ما تكون الأكثر خطورة وقسوة.

ليس هناك من سبب واضح جدا للخلاف بين الرجلين، لكن المراقبين يعتبرون أن نقطة بدايته قد تكون رغبة أردوغان في الإستئثار بالسلطة بعد الإنتصار الذي حققه في انتخابات 2011، حيث كان هناك إجماع على أن سلوك اردوغان بعد الإنتخابات تغيّر عما كان عليه قبلها تجاه كل شركائه في السلطة.

فقد طفق يتخذ سلوكيات تنم عن التفرد وذلك عن طريق قمع الحريات واضطهاد المعارضين من كل الأطياف، فانفضت من حوله معظم القوى الليبرالية التي جمعها مع أردوغان السعيُ إلى التخلص من دكتاتورية العسكر والحرص على تعزيز الحريات. وهنا يُذكّر مراقبون أنه حين تمتد السلطة بشخص أو حزب، فإنها تحمل في طياتها ومن تلقاء نفسها بُذور التسلط والإستئثار.

من “انتفاضة تقسيم” إلى “عملية الفساد”

ربما تكون انتفاضة تقسيم في يونيو 2013 أول ساحة لبروز هذا الخلاف إلى العلن، حين اتهم اردوغان جماعة فتح الله غولن بأن أنصارها داخل البوليس استخدموا العنف المُفرط ضد المُحتجّين لتشوية سمعة الحكومة، وحينها وقف اردوغان متشددا، رافضا أيّ مطلب للمتظاهرين الذين كانوا يحتجّون على “سياسات التفرد والقمع”.

ولم يتأخر رئيس الحكومة في الرد، إذ أعلن أنه سوف يُغلق المدارس المسائية التي تعطي دروس تقوية للطلاب استعدادا للإمتحانات الرسمية. وبما أن عدد هذه المدارس يُقارب الـ 2500 وتموّل من قبل غولن، فقد اعتبرها أردوغان محاولة لإضعاف نفوذه. ومثلما كان متوقعا، لم يتأخر غولن في الرد عندما انفجرت بوجه اردوغان فضيحة الفساد في 17 ديسمبر 2013، حيث قام البوليس وبناء على أمر قضائي باعتقال أبناء أربعة وزراء ومدير بنك الشعب وأحد رجال الأعمال وغيرهما بتهمة القيام بعمليات رشى بلغ مجموعها مئة مليار يورو، كما طالت الإتهامات ابن اردوغان بلال.

تلك الحادثة التي سُمّيت بـ “عملية الفساد” وأحيانا بـ “عملية 17 ديسمبر” أحدثت زلزالا غير مسبوق في تركيا، إذ أن الإتهامات طالت اردوغان وحزبه في الصفة التي كانت مدعاة فخر له وهي نظافة الكف. وسرعان ما اندفع اردوغان للهجوم المضاد. فبعد اسبوع استقال الوزراء الأربعة المتهمون، لكن اردوغان اتهم مباشرة أطرافا خارجية ولا سيما الولايات المتحدة واسرائيل بالوقوف وراء عملية الفساد، بل ذهب إلى الإدعاء بأنهما يُريدان الإطاحة به عبر أدوات داخلية هي جماعة فتح الله غولن التي أطلق عليها تسمية “الدولة المُوازية”، التي تعني أن غولن شكل داخل الدولة دولة أخرى وفي جميع المؤسسات (مثل الشرطة والقضاء والتعليم وما إلى ذلك).

الخارج.. والداخل

في الشق الخارجي، لا تُعتبر الإتهامات المُوجّهة من طرف أردوغان إلى الخارج (ولا سيما الغرب واسرائيل) جديدة، إذ سبق له أن حمّل الغرب مسؤولية انتفاضة تقسيم. وها هو يُكرر الإتهام، بل يصل الى حد التهديد بطرد السفير الأمريكي في أنقرة.

واذا كان من تعليل للإتهام، فهو أن أردوغان لم يستجب بالكامل لتمني الرئيس الأمريكي باراك أوباما تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب خصوصا بعدما بذل أوباما جهدا استثنائيا لإقناع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بالإعتذار من تركيا على حادثة مرمرة. ومع ذلك لم يستجب أردوغان، وهو ما اعتبره اوباما ضمنا “عدم احترام للشراكة بين واشنطن وأنقرة”، ومن حينها، (أي منذ مايو 2013) انقطعت عمليا اللقاءات بين الرجلين، بل توقفت الإتصالات الهاتفية بينهما. ومن هنا كان اتهام اردوغان للخارج بأنهم “يُريدون إزاحته عن السلطة ليُعيقوا استمرار نمو تركيا” وبــ “عدم قدرتهم على تحمّل تركيا بلدا قويا ومؤثرا”، حسب قوله.

وفي التعليلات أيضا، أن اردوغان بات على خلاف مع واشنطن في العديد من الملفات المهمة مثل الإرهاب وإسرائيل والأزمة في سوريا، وبات استمرار سلطة اردوغان عائقا أمام السياسات الأمريكية في المنطقة.

أما في الشق الداخلي، فقد استغل اردوغان قضية الفساد ليُمارس سياسة الهروب الى الأمام وبدلا من التحقيق بقضية الفساد المزعومة ومحاسبة المتورطين (إذا كان هناك من متورطين)، فقد حرص على تنفيذ ما سماه خصومه بــ “الإنقلاب المدني” الذي لا يختلف كثيرا عن “الإنقلاب العسكري” فيما يتعلق بتغيير بنية الدولة. في هذا السياق، عمل اردوغان – مباشرة بعد قضية الفساد – على بدء حملة انتقام وتصفية شاملة ضد جماعة فتح الله غولين في كل مؤسسات الدولة التركية ولاسيما في القضاء والشرطة والمؤسسات التعليمية والدرك وحيثما وُجدوا، بل وصل به الأمر إلى حد تغيير 28 محافظا. ومن أجل الإمساك بكل مفاصل الدولة، استصدر اردوغان من البرلمان قانونا خاصا بتشديد الرقابة على الإنترنت، وآخر يُغيّر البنية القضائية بحيث تخضع للسلطة السياسية وخصوصا وزير العدل. وها هو يُعدّ العدة لمشروع قانون خاص بالإستخبارات التركية بما سيجعل منها فعلا “دولة داخل الدولة” بما نص عليه المشروع من صلاحيات واسعة ستُعطى لها.

الملفت هنا، هو أن رئيس الجمهورية عبدالله غول لم يقف على الحياد في هذه الصراع الشرس، بل انحاز بالكامل الى جانب أردوغان، فصادق فورا على قانوني الانترنت والقضاء رغم الإنتقادات التي وُجّهت للقانونيْن، ورغم أن غول نفسه أقر بأن قانون القضاء “يتضمن 15 مادة مخالفة للدستور”. ومن الواضح أن غول يشعر ويُدرك أنه في مركب واحد مع اردوغان، فإذا غرق المركب فسيغرق بهما معا ولن ينجو واحد على حساب الآخر.

حسمٌ مؤجل

لا يبدو أن هذه الحرب ستنتهي قريبا. إذ أن غولن أطلق عبر جماعته قنبلة كبيرة تمثلت في بث تسجيل لمكالمة قيل أنها تعود لأردوغان وابنه بلال يدعو فيها الوالد الإبن أن يُسارع صباح يوم 17 ديسمبر 2013 إلى إخراج 30 مليون يورو في البيت وتصفيرها. ومع أن بعض الخبراء أكدوا صحة التسجيل، إلا أنه وبمعزل عن صحته أو زيفه فإنه أضر كثيرا بصورة أردوغان إذ أنه لم يُبادر إلى التحقق من صحة التسجيل تماما، كما لم يباشر حتى الآن (تاريخ إعداد التقرير) فتح تحقيق بفضيحة الفساد رغم مرور شهرين ونصف عليها، بل إنها طويت بإطلاق سراح المتهمين في نهاية شهر فبراير المنقضي.

إذا كان اردوغان يربط مصير الصراع مع غولن وخصومه بالإنتخابات البلدية المقرر إجراؤها في الثلاثين من شهر مارس الجاري، على اعتبار أن الديموقراطية، بحسب قوله، هي “ما تُفرزه صناديق الإقتراع” فإن هذا ليس كافيا حسبما يبدو لحسم المعركة. ذلك أن أردوغان لا يزال يحتفظ بفرص نجاح مؤكدة وبنسبة عالية من أصوات الناخبين، والسبب بسيط للغاية حيث أن 40 في المائة من المجتمع التركي يُعرّف نفسه بأنه محافظ، لذلك فهو سيُصوّت لفائدة أردوغان سواء كان فاسدا أم لا، كما أنه ليس مستعدا للتضحية به من أجل أن يعود العلمانيون أو العسكر إلى السلطة وفي ظل عدم وجود أي بديل إسلامي لأردوغان.

مع ذلك، فستكون لنتائج الانتخابات تأثيراتها على مسار العملية السياسية. إذ ترى بعض التقديرات أنه إذا لم تتراجع أصوات اردوغان في الإنتخابات البلدية إلى ما دون الأربعين في المائة، فإنه سوف يترشح للإنتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في شهر أغسطس 2014 على أن يعود غول الى رئاسة حزب العدالة والتنمية ورئاسة الحكومة.

أما في صورة فشل اردوغان في تحقيق هذه النسبة، فالأرجح أنه سيتخلى عن الترشح لرئاسة الجمهورية التركية ليظل رئيسا للحزب والحكومة بعد أن يُغيّر من نظامه الداخلي الذي يُحدّد مدة المسؤولين فيه لثلاث ولايات.

مفاجآت في الأفق؟

رغم كل شيء، فإن عنصر المفاجآت يظل واردا بقوة. فما حصل من انتفاضة تقسيم ومن ثم فضيحة الفساد لم تكن في حسبان أحد. كذلك قضية التسجيل الصوتي بين اردوغان وابنه بلال. وبكل تأكيد فإن الساحة السياسية التركية حُبلى بالكثير مما تخبئه من مفاجآت.

وكيفما تطورت الأمور، سواء في الإنتخابات البلدية أو الرئاسية أو النيابية، فإن اردوغان بإمكانه البقاء بقوة النتائج الرقمية في السلطة، لكنه لم يعُد قادرا – حسب كثيرين – على إيجاد الحلول لمشكلات تركيا وبالتالي على إدارتها بشكل جيد. وفي الحالات المُشابهة في الدول الديموقراطية، يقول الكاتب التركي جنكيز تشاندار، يستقيل المسؤول. وإذ أكد تشاندار على كلام زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كيليتشدار اوغلو بعد فضيحة التسجيل الصوتي بأنه “لا يُمكن ان يكون السارق رئيسا للوزراء” وبأن “على اردوغان إما مغادرة البلاد بمروحية او الإستقالة”، تساءل: هل لا زالت تركيا بلدا ديموقراطيا؟

وفي دلالة أخرى على النفق المُغلق الذي دخله أردوغان، صرح ياشار ياقيش، أول وزير خارجية لسلطة حزب العدالة والتنمية عام 2002: “إن حزب العدالة والتنمية اليوم افتقد الإبداع والحماسة التي كانت عندما تأسس الحزب”. ومن المحقق اليوم أن سلطة اردوغان، بعد 12 عاما من الحكم، تعبت وترهّلت، وباتت تلك “الصورة – النموذج” من الماضي ومجرّد رسم معلق على الحائط للذكرى.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية