مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات
خمسون نسخة من الديمقراطية: هل يُمكن قياس سلطة الشعب؟

تونس.. ديمقراطية عربية رائدة في طريقها إلى موت بطيء

رجال ونساء في سوق شعبية
خضر وغلال ومشترون في سوق شعبية بالعاصمة التونسية يوم 2 أبريل 2022. Keystone / Mohamed Messara

من يُحب الديمقراطية، لا بدَّ أن تؤلمه رؤية الأوضاع الراهنة لتونس، فالرئيس قيس سعيّد يدفن حاليًّا كلَّ حقوق الشعب التي خِيض من أجلها صراعٌ مرير، بينما لم يبقَ سوى القليل من الجهود التي تبذلها سويسرا لدعم التحول الديمقراطي في البلد المغاربي. ربما لم يبقَ شيءٌ سوى شجاعة النساء اللواتي لا يتراجعنَ قَيْد أنملة.

أين تقف تونس حقًّا في ظل الرئيس قيس سعيّد؟ على الطريق نحو الأسفل. الخبيرة السياسية المتخصصة بالشؤون التونسية مونيكا ماركسرابط خارجي تصف تونس حاليًّا بأنها “ديمقراطية سابقة انفصلت عن كل ما له صلة بالدستورية وتسير بسرعة كبيرة على خط سعيّد السريع نحو استبدادية صارمة”.

رجل ينظر إلى عدسة المصور وفي الخلفية العلم التونسي
الرئيس التونسي قيس سعيّد (تاريخ الصورة: 17 سبتمبر 2019). Copyright 2019 The Associated Press. All Rights Reserved.

بعد الربيع العربي والإطاحة بزين العابدين بن علي الذي حكم لفترة طويلة، اعتُبرت تونس ديمقراطية متميزة، فتيّة ومفعمة بالأمل. كانت البلاد منبع الثورة، وكانت الوحيدة التي صنعت تحولًا حقيقيًّا بعد ذلك، غير أن هذه الآمال ترقد الآن على سرير الموت، حتى أن سعيّد حل البرلمان في نهاية مارس الماضي. وهو البرلمان الذي حاول قبل ذلك إعاقة سعيّد من أن يحكم منفردا بواسطة المراسيم. لكن سعيّد يفعَل ذلك الآن منذ 25 يوليو 2021 حيث عطل آنذاك، وبشكلٍ مباغت، العمل بالدستور الديمقراطي الذي أُقر في 27 يناير 2014. وفي الصيف الماضي، كانت الجائحة الصحية مستفحلة، فأعطاه الشعب الحق في باديء الأمر..

أوامر اعتقال بحق ممثلي الشعب

خلال الأسابيع الأخيرة، اتضح مدى ابتعاد سعيّد في الفترة الفائتة عن مسار دولة القانون. فقد سارع الرئيس بإصدار مذكرات توقيف بحق نواب عن الشعب غير مرحب بهم لكن منتخبين ديمقراطياً بزعم أنهم شكّلوا “وفاقا إجراميا”. وفي أحدث خطواته، أقدم في موفى شهر أبريل الماضي على حرمان اللجنة المشرفة على تنظيم الانتخابات من صلاحياتها أو أعاد تركيب تشكيلتها من خلال تعيين ممثلين يحظون برضاه.

امرأة ترتفع لافتة كتب عليها أنقذوا ديمقراطيتنا
امرأة تحتج على الرئيس قيس سعيّد في مظاهرة نظمها معارضون له في العاصمة التونسية يوم 10 أبريل 2022. Copyright 2022 The Associated Press. All Rights Reserved.

بهذه الطريقة، يستطيع سعيّد أن يتمسك بانجاز وعده المتمثل في إجراء انتخابات برلمانية جديدة في ديسمبر القادم. أما الأحزاب والمرشحات والمرشحون الذين لا يروقون له، فلن يتمكنوا من خوض السباق إلا بصعوبة بالغة. خلاصة القول: في أقل من عام حوّل سعيّد النظام في تونس من ديمقراطي إلى استبدادي.

في العام الماضي، وقبل الخطوات الصارمة المتخذة في الربيع الحالي، كانت تونس قد خسرت بعدُ في مؤشر الديمقراطية لعام 2021 للإيكونومِسترابط خارجي إحدى وعشرين مرتبةً.

170 مليون فرنك من أجل الديمقراطية

منذ أن أطلقت الثورات في شمال إفريقيا في العام 2011 مسار الانتقال الديمقراطي، رافقته سويسرا بالعديد من المشاريع التي كان الهدف منها دائمًا تشجيع الديمقراطية ودولة القانون، كما يقتضي ذلك الدستور السويسري تحديدا؛ فكان اختيار تونس مدروسًا.

قدمت سويسرا أيضًا 4.1 مليون فرنك دعمًا لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية والبلدية، ومن بينها الانتخابات العامة التي أوصلت سعيّد في خريف 2019 إلى سدة الرئاسة بأغلبيةٍ ساحقة. حينها، اُنتُخب أستاذ القانون الدستوري السابق من طرف أكثر من 70% من المُقترعين لأنه وعد بمكافحة الفساد، واعتقد الناس أن بإمكانه القيام بذلك.

امرأة رفقة مجموعة صغيرة من الرجال والنساء داخل زقاق بالمدينة العتيقة بتونس
سيمونيتا سوماروغا، الوزيرة في الحكومة الفدرالية خلال زيارة قامت بها إلى تونس في أكتوبر 2017. © Keystone / Anthony Anex

كان الجزء الأكبر من المساهمة السويسرية الكبيرة في تونس، والبالغة مئة وسبعين مليونًا من الفرنكات منذ سقوط نظام بن علي في 14 يناير 2011، مخصّصًا بوضوح لدعم مشاركة النساء أيضًا في الحياة السياسية. وبالفعل، كانت نقطة الانطلاق جيّدة، حيث فرضت هذه الدولة المغاربية في الانتخابات البلدية حصّةً صارمةً للنساء بلغت 50%، وهكذا كان نصف عدد المرشحين والمرشحات الذي بلغ ثلاثةً وخمسين ألف شخص في انتخابات العام 2018، من النساء.

لكن اليوم، وبعد مرور أربع سنواتٍ على أول انتخابات بلدية حرة في العالم العربي، فليس مجرد النظر إلى الخطوط العريضة مخيّبًا للآمال، ولكن على مستوى الديمقراطية المحلية أيضًا يصعب على الكثيرين الحفاظ على المكتسبات. لقد ذهبنا إلى هناك لكي نلتقي النساء اللواتي انتُخبنَ لتقلد مواقع السلطة في بلديات صغيرة وكبيرة.

محتويات خارجية

المحطة الأولى كانت القصرَين في وسط غرب تونس. في الباحة الخارجية لإحدى المقاهي المختلطة القليلة في المدينة، تستقبلنا حياة حْليمي، العضوة المنتخبة في مجلس بلدية النّوررابط خارجي، أفقر تجمّع سكني في المدينة. في عام 2018، كانت حْليمي التي تنحدر من هناك، المرشحة الأولى للجبهة الشعبية (تحالف مُشكّل من أحزاب يسارية). يضم المجلس البلدي أربعةً وعشرين مقعدًا؛ عشرةٌ منها تحتلها النساء. ورئاسة البلدية أيضًا تحتلها امرأة.

امرأة تبتسم لعدسة المصور
حياة حليمي: تعرّضتُ للصفع خلال انعقاد اجتماعٍ للمجلس البلدي. swissinfo.ch

كانت “البذرةَ السيئة”

القصرَين هي أيضًا واحدة من أفقر ولايات (محافظات) تونس. مع نسبة بطالة تزيد على 45%، أصبحت الولاية رمزًا للهوة الاجتماعية القائمة بين أقاليم الساحل الثرية وأقاليم الوسط الفقيرة. بشكلٍ خاص، عانت هذه المنطقة في ظل دكتاتورية الرئيس السابق بن علي من كل شيء جلبه هذا الرئيس لبلاده: الإهمال والفساد وعنف الشرطة. وعندما رحل في نهاية المطاف، برز شعورٌ خاص بالابتهاج والنشوة. لكن الوعود التي أُطلقت بعد ذلك لإزالة الظلم والتعويض عن المعاناة لم يتم الوفاء بها، فخرجت المنطقة بأيدٍ فارغة فيما يتعلق بالرفاهية والتنمية.

تروي حياة بأنّها أصبحت منذ الجلسة الأولى للمجلس هدفًا لهجوم الرجال. كانوا يقولون عنها بأنها “بذرةٌ سيئة ستصيب الجميع بالعدوى”. وحسب وجهة نظر منتقديها، فإنها كانت تتدخل كثيرًا في كل شيء: “كانوا يقولون إنني في المكان الخطأ، وبأنني أهمل بيتي وأطفالي”، تقول حياة وتضيف: “لكنني ظللت أحشر أنفي في كل الملفات”.

ثم جاءت الصفعة!

تقول حياة التي أجرت تحقيقات متتابعة حول ملفات إدارية تتعلق بالمدينة: “كأعضاء وعضوات في المجلس البلدي، يكاد أن لا يكون لنا هامشٌ كبير للفعل، لكننا نواصل التشهير بالفساد وسوء الإدارة في المدينة وجهازها الإداري”.

لكنْ حلَّ فيما بعد يومٌ قام فيه عضوٌ آخرُ في المجلس بصفعها وإهانتها وسط الجلسة، فقامت برفع شكوى ضده: “بالطبع لم أتلقَّ دعمًا من أولئك الذين كان يُفترض بهم حمايتي، لكنني لن أتراخى”. وما زالت حياة تأمل في أن يُستجوَبَ المعتدِي يومًا ما على فعله العنفي.

اقتصاديًّا على حافة الهاوية

منذ انتخابها، قدمت حياة تسع شكاوى ضد سلطات المدينة وجهازها الإداري وحققت نجاحًا صغيرًا: لقد فرضَتْ بأن تُسمّى شوارعُ حيٍّ كامل من أحياءِ المدينة بأسماءِ نساءٍ تونسياتٍ معروفات. ذلك كان مشروعها وهي فخورةٌ به. لكنْ يبدو الأمر الآن وكأنه من زمنٍ آخرَ حيث أن الأجواءَ لم تكفهرَّ بشكلٍ كبير من الناحية السياسية فقط.

اقتصاديًّا أيضًا، تقف تونس على شفير الهاوية. فالولايات المتحدة خفّضت مساعداتها المالية ولا تريد لملايينها أن تتدفقَ على البلاد مرّةً أخرى في مستواها السابق، إلّا في حال عودة الرئيس سعيّد إلى الديمقراطية. أما الاتحاد الأوروبي، فلم يتجرّأ حتى الآن على اتخاذ مثل هذه الخطوة، فتونس مهمةٌ جدًّا بشأن الهجرة، وقبل فترة قصيرة بسبب الغاز الجزائري أيضًا، الذي يصل جزء منه عبر أراضيها إلى الاتحاد الأوروبي. لكن لو عاقبت بروكسل نظام سعيّد، فإن سويسرا ستُواجه التساؤل غير المريح: هل يتوجّب عليها الآن أن تعاقبَ مدللتها في المغرب العربي المرتدة عن التحول الديمقراطي؟

امرأة ترفع خبزة وكيس معكرونة
سيدة ترفع خبزة وكيس معكرونة خلال احتجاج نظم في العاصمة التونسية ضد الرئيس قيس سعيّد يوم 20 مارس 2022. Keystone / Mohamed Messara

بالإضافة إلى ذلك، وقعت البلاد في دوامة الحرب الروسية ضد أوكرانيا. فقبل اندلاعها، وخلال جائحة كوفيد – 19، كان سعر القمح قد تضاعف في تونس، ولكن القمح أصبح الآن شحيحًا؛ ولذلك صار أغلى أيضًا، مثله مثل الوقود والسكر وزيت الطعام والأدوية؛ أي كل الأشياء التي يشعر المرء بالحاجة إليها في الحياة اليومية، أما بالنسبة للخبز فقد خفّفتْ حكومة سعيّد أسعاره المرتفعة باللجوء إلى استخدام المال العمومي.

لكنَّ ذلك يُصبح أصعبَ في حالة تضخّمٍ بلغ 8%. بكل بساطة، لم تعد تكفي أموال تونس للإيفاء بكل الالتزامات الخارجية ولإعطاء الشعب كلَّ شيء كي يكون راضيًا لفترة طويلة. في كل الأحوال، فإنَّ ما بقي للرئيس أن يفعله يكاد أن لا يكون كثيرًا، إذ إنه قد ألغى الزيادات الموعودة لرواتب الموظفين والأموال المرصودة للتعليم والبِنى التحتية أو الصحة.

اِنتفاضة الرجال

محطتنا الثانية بوغرارة، وهي قرية صحراوية واقعة على الساحل في جنوب تونس. الاقتصاد المحلي هنا ما زال قائمًا على صيد الأسماك والزراعة. في هذا المكان الموسوم بطابع التقاليد، حيث درَجَ الأهالي على قسر وظائف النساء على الشؤون المنزلية، تكتب دلال طْليق البالغة خمسة وعشرين عامًا سطرا جديدا في تاريخ القرية، فهي أول رئيسة بلدية فيها، وأيضًا لم يكن ذلك سهلًا بالنسبة لها: “مباشرةً بعد انتخابي، ومن باب الاحتجاج، ما عاد الأعضاء الأكبر سنًّا يشتركون في الاجتماعات”، تقول طْليق.

امرأة تقرأ وثيقة وسط مجموعة من الرجال
دلال طليق، رئيسة بلدية بوغرارة: “”قمت بكسر محرمات”. swissinfo.ch

لقد شعروا بأنه من المُهين أن ترأسهم امرأة، بالإضافة إلى أنها أصغرُ منهم، فنظّموا جلساتٍ مُضادّةً داخل مقهىً يقع مقابلَ إدارة البلديةرابط خارجي. أما موظفو إدارة المدينة فأعلنوا رسميًّا عدم طاعتهم لرئيسة البلدية، لكنْ حاليًّا تقف أكثرية الموظفين والنواب والعملة إلى جانبها، حيث تقول: “كسرتُ المحرمات، وما زلت أحرّك الصور النمطية عن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة”.

من بين إنجازات دلال طْليق، إقامة حديقة عائلية آمنة للنساء ونقل سوق القرية الأسبوعي إلى مكانٍ يُمكِنُهنَّ الوصول إليه بطريقةٍ أفضل.

ردّ شيخة المدينة

آمنة بوعزيز، رئيسة بلدية قرمدةرابط خارجي في صفاقس، ثاني أكبر مدينة في تونس، واجهت أيضًا رفضًا حادًّا.

سيدة يبتسم لعدسة المصور وعلم تونس خلفها
آمنة بوعزيز، رئيسة بلدية قرمدة: “الأمر لا يتعلق بي فقط”. swissinfo.ch

وعلى الرغم من تقديمها عدة دعاوى للسلطات فإنها ما زالت تتعرض لتهديداتٍ وشتائمَ من طرف رجالٍ على مواقع التواصل الاجتماعي لأن هؤلاء لا يحبون أن يرَوا امرأةً على قمة الهرم: “السلطات لا تتحرك على الرغم من كل الأدلة، ولا تُلقي القبضَ على أحد”، تقول آمنة وتضيف: “ذلك مؤلم، ولا يتعلق بي وحدي، وإنما أيضًا بموقع المرأة في المشاركة السياسية المحلية”.

امرأة ترتدي قناع وجه تجيب عن أسئلة صحافيين
تقول سعاد عبد الرحيم، رئيسة بلدية العاصمة التونسية: “جوابنا هو النتائج”. swissinfo.ch

محطتنا الأخير في مدينة تونسرابط خارجي شمال البلاد، نتوقف خلالها عند  تجربة سعاد عبد الرحيم، أوّلُ رئيسة بلدية للعاصمة التي مثّل انتخابها في عام 2018 حدثًا لافتًا. فهي أول عُمدة (تسمّى شيخة المدينة في تونس) لمدينة كبيرة في العالم العربي. قبل ذلك، كان الشخص الذي يتولى هذا الموقع في تونس رجلًا يقدُم من عائلات الطبقة المبجّلة في الحاضرة.

تقول سعاد عبد الرحيم: “ردّنا الوحيد على الهجمات هو عملنا والنتائج الملموسة التي تتحسّن معها الحياة اليومية للمواطنين”.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية