مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

رحلة كفاح شاب مصري.. من عامل بسيط إلى مُحاسب مُحترف!

شاب يرتدي نظارات ويلبس قميصا
قدم الشاب المصري هاني فحص إلى سويسرا في عام 2002 وتمكن رغم الصعوبات والعراقيل من إجادة اللغة الألمانية ومن ممارسة مهنة المحاسب التي كان يحلم بها. swissinfo.ch

خمسة عشر عامًا! هي المدة التي استغرقتها رحلة كفاح "هاني صبح"، الشاب المصري، الذي وطئت أقدامه الأراضي السويسرية عام 2002، بحثًا عن فرصة عمل، في مجال تخصّصه كمحاسب، بدأها كعامل في أحد المطاعم، ثم التحق بإحدى الشركات كمتدرب بدون راتب لمدة 6 أشهر.

وعلى مدى ستة أعوام، كان يعمل نهارًا، ويدرس ليلاً بمدارس المحاسبة، ثم يسهر للصباح يعلم نفسه قواعد اللغة الألمانية، حتى أتقن الفصحى منها والعامية، وظل يثابر ويجتهد حتى حصل على أول وظيفة له في تخصصه كمحاسب، في عام 2008. واليوم، بعد  مرور خمسة عشر عاما، صار محاسبًا محترفًا، بل مدربًا متخصصًا في تأهيل وتعليم المبتدئين أصول وقواعد المحاسبة. مزيد من التفاصيل في نص الحوار التالي.

سلسلة تجارب مهنية

يطرح حلول الإنسان بمكان لم يألفه من قبل تحديات ومصاعب جمة، قد يسعفه الحظ في بعض الأحيان، فيستأنف رحلة حياته المهنية من حيث توقّف قطارها في بلده الأصلي بيسر وسلاسة.. وقد يجبره الواقع الجديد على بداية المشوار من نقطة الصفر، إن لم يظل يراوح مكانه لسنوات طويلة. وضع المهاجرين العرب في سويسرا ليس استثناءً في هذا الباب، وتكاد تتباين مساراتهم بعدد شخوصهم. swissinfo.ch اختارت الحديث إلى عيّنة منهم، فكانت هذه السلسلة من البورتريهاترابط خارجي.

swissinfo: متى جئت إلى سويسرا ولماذا؟

هاني صبح: قدمت إلى سويسرا عام 2002 بحثًا عن فرصة عمل في المحاسبة، حيث كنت حاصلاً على بكالوريوس التجارة من جامعة المنوفية، ولم أكن أجيد غير الإنجليزية، وكانت البداية صعبة للغاية، حيث لم أجد فرصة عمل في المحاسبة، فعملت في أحد فروع مطاعم “ماكدونالدز”، حتى أستطيع أن أجد ما أعيش منه، وفي نفس الوقت بحثت عن مكتب لمعادلة شهادتي، حتى وجدت مكتبًا في برن، اسمه (bbt)، وهو مكتب متخصص بالنظر في شهادة كل شخص مغترب، وإفادته عما إذا كان يصلح للعمل بها في سويسرا أم لا.

بمجرد استقراري في البلد، تزوجتُ من سويسرية، كانت تعمل سكرتيرة لدى طبيبة، واجتهدتُ في دراسة اللغة الألمانية، وكنت أسهر يوميًا للفجر، أذاكر وأترجم، حتى ترجمت قاموسًا للكلمات المهمة التي لا يمكن الإستغناء عنها في سويسرا، وشمل أكثر من ألف كلمة، واشتغلت في مطعم، حيث كنت أنظف وأقطع الخضار، وأواظب في نفس الوقت على مدرسة لتعلم أصول وقواعد المحاسبة.

إثر ذلك، ذهبت إلى مكتب للإرشادات فدلني على مدرسة قضيت فيها ثلاث سنوات لدراسة المحاسبة، وكان الطباخ السويسري الذي كنت أعمل معه في المطعم يقول لي: “لن تستطيع ابدا أن تشتغل محاسبا، فهناك مُحاسبون سويسريون كثيرون ولا يجدون فرصة عمل في مجال تخصصهم”، لكنني كنت رافعا للتحدي ومُصمّما على الإجتهاد لكي أشتغل محاسبا يوما ما.

swissinfo: وماذا فعلت بعد ذلك؟ 

هاني صبح: التحقت بمدرسة لتعلم اللغة الألمانية، حيث أجريت اختبارا تمكنت من خلاله من اجتياز المرحلة الأولي والثانية، والثالتة أيضا، لأنني اجتهدت في تعلّم الألمانية بشكل ذاتي في البيت، وأتذكر أنني اشتريت كتاب قواعد يشتمل على 600 صفحة، يُدَرَّس في الجامعات، طالعته سبع مرات، وأرسلت حوالي ألف (1000) طلب للعمل في شركات محاسبة، إلى أن أرسل لي مدير إحدى الشركات يدعوني للحضور، لأنه أُعجب بإصراري، وبالفعل أجريت مقابلة معه في عام 2007.

وأخيرًا حصلت على فرصة عمل محاسب في شركة، بعد خمسة أعوام من الكفاح. ومع أن مكتب التوظيف يسمح – حسب القانون السويسري – لأي شخص درس تخصصا معينا ولكن تنقصه الخبرة أن يعمل في شركة، ويحصل منها على ربع الراتب، فيما يتكفل مكتب التوظيف بدفع ثلاثة أرباع الراتب المتبقية، إلى حين انتهاء فترة التدريب، إلا أنهم كانوا يتهربون مني.. وفي نهاية المطاف، قال لي رئيس القسم بالمكان الذي أسكن فيه: “أهل البلد لهم الأولوية” في التوظيف.

رغمًا عني، وافقت علي التدريب بربع الراتب لمدة ستة أشهر، وبعد انتهاء التدريب بحثت عن وظيفه ثانية، حتى شهر ديسمبر 2007 حين تمكنت من الحصول على أول وظيفة لي في سويسرا كمُحاسب، وهكذا انتقلت من وظيفة لأخرى، والتحقت بمدرسة ثالثة حتى أتمكن من العمل كمحاسب في شركة كبيرة، أو كمدير في شركة صغيرة.

في الوقت الحاضر، أتقن الحديث بالعامية الألمانية، إلى جانب الفصحي، لأن سنوات الدراسة الستّ هنا كانت باللغة الألمانية، وأشتغل حاليًا كمحاسب في شركة، كما أعمل مُحاسبا حُـرا (Freelancer)، إضافة إلى أنني أقوم منذ سنتين بتدريب مُحاسبين ناشئين.

شاب بنظارات أمام نافذة
ينصح هاني فحص (الصورة) الشباب العرب بإجادة توظيف شبكة الإنترنت للتعرف على سويسرا، والبحث فيها عن فرص العمل والدراسة المناسبة لهم. swissinfo.ch

swissinfo: ما هو الدور الذي لعبته زوجتك السويسرية في مسيرة نجاحك؟ كيف ساعدتك ودعمتك؟

هاني صبح: لقد قدمت لي أكبر دعم، وشجعتني، خصوصًا عندما انخرطت في التدريب العملي طيلة ستة أشهر بدون مقابل، حينها قالت لي: “اذهب وغامر لأن النقود ليست مهمة في البداية”، بل حرمت نفسها من الإنجاب خمسة أعوام إلى أن تمكنت من العمل كمُحاسب، ودرّبتُ نفسي على استخدام أصابعي العشر على الآلة الراقنة. من جهة أخرى، تحصلت على الجنسية السويسرية بعد ستة أعوام من وصولي إلى البلاد، ذلك أنني كنت أرغب في الإنضمام إلى الحزب الليبرالي الراديكالي، وهو حزب مشارك في الحكومة الفدرالية. وأنا حاليًا عضو عادي بالحزب، وأعتزم أن أصبح عضوًا فعالاً فيه ابتداء من العام المقبل.

swissinfo: هل يُمكن القول الآن أنك أصبحت خبيرًا في علوم المحاسبة بسويسرا بعد 15 سنة من الكفاح والصبر؟

المحاسب هاني صبح: طبعًا؛ بعد رحلة كفاح استمرت 15 عامًا، وأنا الآن مسؤول عن محاسبة شركات (قطاع خاص) من الألف إلى الياء؛ ضرائب، تقفيل سنوي، ومرتبات، رغم أن نظام التأمينات والمرتبات هنا معقد، لأنه نظام فدرالي.

swissinfo: بعد رحلة الكفاح في سويسرا، بماذا تنصح الشباب المصريين والعرب الراغبين في السفر إلى سويسرا للعمل أو الدراسة؟

هاني صبح: لا بد أولاً أن يعرف كل شاب راغب في السفر إلى سويسرا ماذا يريد! فأغلب الذين أعرفهم هنا يشتغلون في أعمال عادية؛ في مطاعم أو مصانع أو كسائقين لسيارات تاكسي، وعليهم أيضًا أن يضعوا لأنفسهم أهدافًا، وأن يُكافحوا من أجل تحقيقها. بالمناسبة، أذكر أن موظفة بمكتب التوظيف قالت لي في إحدى المرات: “أنت لن تشتغل أبدا في مكتب مُحاسبة، ويكفي أنك مقيم هنا بسويسرا”، لكنني رفعت التحدي، واجتهدت وصبرت، حتى تمكنت من بلوغ هدفي.

شباب هذه الأيام لديهم فرص أفضل منا، فعندما جئت إلى سويسرا، لم تكن الفرص متاحة مثل اليوم، فالعالم أصبح مفتوحا على شبكة الإنترنت، والتطبيقات الإفتراضية مثل “فيس بوك”، وبالتالي على الشباب أن يُجيدوا توظيف شبكة الإنترنت للتعرف على سويسرا، والبحث عن فرص العمل والدراسة المناسبة لهم، فهناك صفحات كثيرة تقدم كل المعطيات وتعرض الفرص المتاحة، وجميع المعلومات التي يحتاجها المسافر، وبكل اللغات تقريبًا.

بشيء من الجهد والشجاعة، يُمكن للأجنبي – مع إتقان اللغة – أن يندمج في المجتمع وأن يتعرف على أناس كثيرين
هاني صبح

swissinfo: من خلال معاشرتك للسويسريين على مدى 15 عامًا، كيف ينظر السويسريون إلى الأجنبي؟ وكيف يتعاملون معه؟ ولماذ؟

هاني صبح: تختلف نظرة السويسري للأجنبي، من مكان لآخر، فالمواطنون في المدن منفتحون أكتر عن سكان القرى، وخصوصًا القرى الزراعية، لأنهم أكثر محافظة على التقاليد. أما كيف ينظرون إليك، فأنت كأجنبي تعني عندهم، أنهم سيتعاملون معك على أنك لست ذكيًا أو مثقفًا، حتي تُثبت أنت العكس.

swissinfo: هل يُسهم زواج الأجنبي من سويسرية في زيادة الإحتقان لدى السويسريين أم يُساعد على التخفيف من حدته؟

هاني صبح: ليس هناك احتقان، إنما هو انطباع بأن الأجنبي ليس ذكيًا، وليس مثقفًا، لأن أغلبية الأجانب في سويسرا يشتغلون في وظائف يرفض السويسريون العمل بها، مثل البناء والمطاعم، ويمكن للأجنبي بشيء من الجهد والشجاعة، مع إتقان اللغة، أن يندمج مع المجتمع، ويتعرف على أناس كثيرين.

swissinfo: عموما، ما هي ملاحظاتك على المصريين أو العرب المقيمين في سويسرا.. وإلى أي مدى يُراعون القيم والتقاليد العربية والإسلامية؟

هاني صبح: الكثيرون منهم يراعون القيم والتقاليد المصرية والعربية، غير أن هناك فروق بين العرب، فالسوريون واللبنانيون يدعمون بعضهم البعض، ومعظمهم تجار لا يحبون العمل في المكاتب والشركات، أما المصريون فترابطهم ضعيف، لدرجة أن أكثر من رابطة للمصريين في مدن سويسرية تم حلها، بسبب قلة الإقبال، وعدم الإنضباط، أما الأتراك ومواطنو يوغوسلافيا سابقا (الصرب والكروات والبوسنيون وألبان كوسوفو- التحرير) فهم مترابطون جدًا. مع الأسف، فإن السياسة في مصر فرقت المصريين في سويسرا، وأعرف اثنين مصريين كانوا أصدقاء جدًا، لكنهم تخاصموا بسبب السياسة، هذا من أنصار الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهذا من أتباع جماعة الإخوان المسلمين، وهكذا.

في المقابل، فإن الكل هنا ملتزم، لأنه لا مجال للمزح مع الشغل في سويسرا. فأغلب السوريين واللبنانيين يميلون للعمل الحر، ويشتغل أكترهم في بيع السيارات، وفيما يحرص السوري على تشغيل سوري معه، يقتصر همّ المصري في البحث عن وظيفة وانتهى الأمر فهو لا يُريد أن يتعب! المعادلة في سويسرا هي التالية: من أجل أن تكبر أو تُحسّن دخلك، يجب عليك أن تدرس إلى جانب ممارسة عملك، وأن تطور نفسك، وأن تكتسب خبرات إضافية.

swissinfo: من واقع معاشرتك للسويسريين، بماذا تصف المواطن السويسري؟ ما هي أبرز صفاته؟ وأهم عيوبه؟

هاني صبح: بشكل عام، المواطن السويسري متفتح، ومنضبط، وجاد جدًا، ويعشق عمله. بالنسبة له، فإن الأمور يجب أن تسير كما هو منصوص عليه في اللوائح والقوانين، كما أن كل شيء لديه يرتبط بمواعيد، لكنه ليس اجتماعيًا، ولا مرنًا، ولديه إهمال في المسائل المتعلقة بالحياة الإجتماعية، تصل إلى درجة الروتين والبرود.

swissinfo: وهل يهتم السويسريون بالسياسة ويمارسونها، أم أنهم يركزون أكثر على حياتهم وشغلهم؟

هاني صبح: الموضوع يختلف بحسب الأعمار؛ فكبار السن يهتمون أكثر بالسياسة، بينما يهتم الشبان بالشغل والسفر، والإستمتاع بالحياة. وفي سويسرا، يتجه غالب الأزواج عموما إلى إنجاب الأطفال بعد سن الثلاثين.

swissinfo: وماذا عن مستوى التعليم في المدارس السويسرية، خاصةً في المراحل الأولية؟

هاني صبح: نظام التعليم وخاصة الأوليّ متقدم جدًا، وبشكل عام، لا تزيد كثافة الفصل عن 15 طفلاً. أما المُدرس فيجتمع بأولياء الأمور بداية كل عام دراسي ليناقش معهم ماذا سيشرح، وأسلوب التدريس، والأهداف المقررة لهذا العام، في محاولة لخلق الإنسجام والتواصل مع الآباء والأمهات، وهي أمور تصب كلها في صالح الطلاب في نهاية المطاف.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية