مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سنة رابعة أسد: ماذا تـغـيـّر؟

أدى الرئيس السوري بشار الأسد في 23 يونيو 2004 زيارة فارقة إلى الصين وذلك للمرة الأولى منذ إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين في عام 1956 Keystone

احتفلت سوريا مؤخرا بانقضاء السنة الرابعة من حكم بشار الاسد..

فعلا، كم يتحرك الزمن بسرعة .. لكن هل يتحرك الزمن حقا في سوريا؟

الكثيرون من أنصار هذا الرئيس الشاب المحب للتكنولوجيا، الملتزم بالحداثة، والمحّبذ لشيء من الليبرالية السياسية، يقولون بحماس أن تجربة السنوات الاربع الماضية، تؤكد أن عجلة الدولة والمجتمع السوريين بدأت تنفض عنها غبار الصدأ المتراكم منذ 40 عاما ونيف، وهي تصدر الان أصواتا متعددة تدل على العمل والنشاط.

ففي المجال السياسي، نال السوريون بالفعل قدرا لا بأس به من حرية التعبير. وهذا امر يستطيع تلمسه كل من يزور سوريا، أو يستمع الى بيانات حركات المجتمع المدني وحقوق الانسان فيها، أو يتابع نشاطات المعارضين السوريين في الداخل على الانترنت.

وعلى الصعيد الاقتصادي، وبرغم عدم تحقيق إقلاع ذي شأن، تتوالى الاجراءات لإعادة الاعتبار للقطاع الخاص في مجالات المصارف والتجارة والزراعة والسياحة. هذا إضافة الى جهود متصلة لمحاولة إقناع الرساميل السورية الضخمة في الخارج (أكثر من 40 مليار دولار) بالعودة الى البلاد.

وفي مجال السياسة الخارجية، نجح الرئيس الشاب بمواقفه القومية العربية الجريئة (العراق، فلسطين) في منح سوريا قدرا كبيرا من الاحترام في الخارج الاقليمي والدولي، ومن الشرعية السياسية في الداخل.

النموذج الصيني

ماذا أيضا؟.

أنصار الاسد يضيفون عاملا آخر يعتبرونه الاطار “النظري-المنهجي” الذي يجعل سياساته عقلانية، ومدروسة، ستثمر في النهاية عن إخراج سوريا من نفق الجمود الذي دخلت فيه منذ عهد ابيه الاسد الاب: إلتزام بشار النموذج الصيني في التنمية.

معروف ان الرئيس السوري قام في شهر يونيو الماضي بزيارة الى الصين، فسرّها بعض المحللين خطأ على أنها تمت جريا وراء أمل وهمي بان تلعب الصين دور الموازن، ولو النسبي، للقوة الاميركية الضاغطة بقوة على سوريا وبقية الدول العربية.

والحال ان الاسد نفسه بدا لوهلة وكأنه يشجع على هذا التحليل الخاطيء، حين أعلن في بكين أن هذه الاخيرة “أصبحت لاعبا دوليا كبيرا ومهما بالنسبة لسوريا. إنها دولة مهمة في منطقتنا، ودولة عظمى تحاول توسيع العلاقات مع دول العالم”.

بيد ان هذه الوهلة كانت قصيرة للغاية، وربما كانت اهدافها مقتصرة على دغدغة الصينيين دبلوماسيا.. إذ أن الاسد يعلم أكثر من غيره ان الصين لن تكون قادرة لا الان ولا بعد عقد أو عقدين من الزمن على موازنة الولايات المتحدة. وحتى لو كانت قادرة، فهي ليست راغبة، لان تركيزها ينصّب على التحّول السلمي الى دولة عظمى إقتصاديا، لا دولة عظمى سياسية ولا أمنية.

لا بل الواقع يشير إلى أن الصين تتوجس من أن تجرها اميركا الى سباق تسلح يُـجهض نهضتها الاقتصادية، مثلا عبر لغم تفجير تايوان في وجهها، او مثلا أيضا عبر دفع الهند واليابان الى افتعال المشاكل الحدودية والوجودية معها.

الاسد يعرف ذلك. وهو ذهب الى الصين ليس سعيا وراء مساعدتها السياسية، بل وراء دعمها له في مجال التنمية الاقتصادية. إذ هو أعلن مرارا أنه معجب بالتجربة التنموية الصينية ويريد تقليدها. ويبدو الاسد محقا تماما في خياره هذا.

فالصين نجحت خلال العقود الاخيرة في تطوير برامج تنمية تصح كنموذج لبعض دول العالم الثالث. وهي طورتّ “إجماع بكين”، وأدارت الظهر لما يسمى بـ “إجماع واشنطن” الذي وضعه إقتصادي البنك الدولي جون وليامنسون وأدى الى إفلاس دزينة دول، بسبب تركيزه الشديد والكلي على اولوية إزالة كل العقبات امام الرساميل الخارجية (إقرأ رساميل الشركات متعددة الجنسيات).

“إجماع بكين”، كما يوضح جوشوا كوبر رامو في دراسة مهمة نشرها في “مركز فورين بوليسي سنتر” بلندن، هو مقاربة لا تسعى لإسعاد المصارف الكبرى، بل لتحقيق ثلاثة أهداف في آن واحد:

1- معدلات نمو عالية المستوى، إستنادا الى عمليات حذرة في مجال الخصخصة وتحرير التجارة، وإلى عمليات حذرة أكثر على مستوى التغيير السياسي.
2- إندفاعة قوية في مجال الابداع والتطوير والتجريب.
3- الحفاظ (وهنا الاهم) على الاستقلال القومي.

لقد أعلن رئيس وزراء الصين ون جياباو خلال جولته الاخيرة في أوروبا، أن الصين لم تعد تركز على نمو الناتج المحلي الخام وحده (كما يتطلب “إجماع واشنطن”)، بل أيضا على نمو يكون صديقا للبيئة ومعاديا للفساد.

وهذا الكلام كان بمثابة البلورة النهائية لـ “إجماع بكين “، وأيضا للتطور الرأسمالي الانساني على الطريقة الصينية. وهكذا بدلا من شعار دينغ هسياو بينغ الرأسمالي الشهير “ليس مهما لون القطة، المهم انها تصيد الفئران”، بات الشعار في بكين الان: “الاهم ان تكون القطة الصائدة للفئران، خضراء اللون وشفافة”.

هل ينجح؟

النموذج الصيني، إذا، هو الناظم لحركة الاسد في الداخل. لكن هل يمكن حقا لهذا النموذج أن ينجح في سوريا كما في الصين؟

هنا، ومع هذا السؤال، ندخل عالما يتوقف فيه الحديث عن الايجابيات البشارية (نسبة إلى بشار)، ويبدأ حديث آخر عن الازمات والمآزق. لماذا؟

لأسباب عديدة:

1- فالصين إقتصاد عملاق يستوعب سوقه المحلي اكثر من مليار مستهلك، فيما السوق السوري صغير وفقير وهش.

2- والصين قادرة على إتخاذ القرارات التنموية والسياسية المستقلة، لانها نجحت في إقامة توازن قوى نسبي مع الولايات المتحدة، في حين أن الخلل كبير ليس بين سوريا واميركا فحسب، بل حتى أيضا بين سوريا وإسرائيل.

3- والحزب الشيوعي الصيني هو المحّرك الحقيقي للنهضة الرأسمالية الصينية الراهنة، بينما حزب البعث العربي الاشتراكي توقف عن كونه حزبا حقيقيا منذ عهد الرئيس الاسد الاب، وبات مجرد ملحق من ملحقات اجهزة الامن والاستخبار.

4- الرأسمالية الصينية الناشئة تركّز بشكل أساسي على حاجات السوق القومي المحلي، في حين أن الرأسمالية السورية تستخدم الداخل السوري كمجرد جسر للوصول الى السوق العالمي. هذا إضافة الى انها معتمدة في وجودها على صفقات الدولة، عبر الرشوات والافساد.

5- ثم هناك مسألة أخرى لا تقل أهمية: سوريا لن تكون قادرة، بقرار إرادي منها، أن تنحو نحو “إجماع بكين” التنموي- الاستقلالي. لا أميركا ستسمح لها بذلك، ولا حتى أوربا، ناهيك بإسرائيل التي ستطلق مئات الفئران المفترسة لأجهاض ولادة القطة السورية النهضوية الجديدة.

خياران ولكن؟

ما الحل؟ إنه يكمن في أمرين إثنين متلازمين:

الاول، ثورة سياسية حقيقية تطلق فيها حريات المجتمع المدني بالكامل، لتوظّف بعد ذلك في خدمة المنحى الاستقلالي السياسي والاقتصادي السوري، إنطلاقا من مقولة بديهية ومهمة: اميركا وإسرائيل لن تكونا قادرتين ببساطة على محاربة نظام ديموقراطي يحظى بشرعية ديموقراطية، هكذا وفي وضح النهار.

والثاني، عودة سوريا الى تراثها الوحدوي العربي الغني، القادر وحده على تمكينها (وفي الواقع تمكين اي قطر عربي آخر) من تحقيق التنمية المشفوعة بالاستقلال. وهنا، لا نتحدث فقط عن دور المجتمعات المدنية العربية، على أهميتها الفائقة، بل أيضا وأساسا عن ضرورة مبادرة سوريا الى إعادة الاعتبار لمشاريع التكامل الاقتصادي بين الدول العربية.

قد يبدو هذا هدفا صعبا أو حتى “خطرا”، لكنه بات معبرا إجباريا لكل وأي دولة عربية، بما في ذلك حتى دولة كبرى إقليمية كبرى كمصر، تسعى الى الاقلاع الاقتصادي بدون السقوط في حفرة التبعية السياسية. فتطبيق “إجماع بكين” في الشرق الاوسط، يتطلب أولا “إجماعا عربيا”.

لكن هل النخبة السورية الحاكمة في وارد تبني هذين الخيارين؟
لا يبدو ان الامر كذلك، حتى الان على الاقل.

فعلى الصعيد الاول، أي حريات المجتمع المدني، أدى تمرد الاكراد الاخير، والخطير، في القامشلي ودمشق، إلى إضعاف الاصوات الاصلاحية حتى في اوساط المعارضين الذين باتوا يخشون الان من تفكك الكيان السوري نفسه.

ويقول معارض سوري بارز انه ترأس مؤخرا وفدا معارضا الى القامشلي لإجراء حوار مع الاحزاب الكردية. وهناك فوجيء أن بعض الاكراد لا يطالبون فقط بالاصلاحات التي ترتكز الى حقوق المواطنة، بل بالدعوة الى تغيير إسم البلاد من “الجمهورية العربية السورية” الى “الجمهورية السورية”. كما أنهم يشددون على “الحقوق القومية” لاكراد سوريا.
وبالطبع، مثل هذه التطورات، مضافا اليها الوضع الاقليمي الخطر، لن تؤدي سوى الى زيادة قبضة اجهزة الامن والاستخبار على السلطة السياسية.

وعلى الصعيد الثاني، سيحتاج التوّجه القومي العربي السوري في المجال التنموي الى وجود حركة جماهيرية عربية تتبناها وتدفع في إتجاهه. وهذا ليس متوافرا بعد.

ماذا يعني كل ذلك؟

إنه يعني، ببساطة، أن سوريا ستكون من الان وحتى فترة غير محددة عالقة في نفق زمن متجمد: لا هي قادرة على التقدم الى أمام، ولا على التراجع الى خلف. كل ما سيكون هناك هو جمود، مع “رّشة” اهتمامات تكنولوجية و”حفنة” حريات شخصية توفّرها شخصية الرئيس الاسد وقناعاته.

كما انه يعني أيضا ان هذا التجّمد في الزمن لن يتحّول الى حراك، إلا بفعل صراعات داخلية على السلطة المحلية في الداخل السوري، أو بسبب ضغوط من السلطات الاجنبية المهمينة في الخارج الاقليمي والدولي.

سوريا سنة رابعة من حكم بشار الاسد؟ كم الزمن مخادع!

سعد محيو- بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية