مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سوريا على “مفترق طرق” خطر للغاية

كانت المواجهات التي اندلعت بين أنصار فريقي الجهاد والفتوة يوم 12 مارس 2004 في ملعب القامشلي الشرارة التي أشعلت الحريق Keystone

أدّت الاضطرابات الشعبية الكردية المفاجئة في شمال شرق سوريا ودمشق وحلب إلى مقتل العشرات وإصابة المئات.

ويتساءل المراقبون للوضع السوري عن الأبعاد الحقيقية لهذه الأحداث في سياق التغيير الحاصل في العراق، وتصاعد الضغوط الأمريكية على دمشق.

أسئلة خطيرة طرحتها الاضطرابات الشعبية الكردية المفاجئة في شمال شرق سوريا ودمشق وحلب، والتي أدّت إلى مقتل العشرات وإصابة المئات.

فهل بدأت أمريكا حرب تغيير النظام البعثي السوري انطلاقا من البوابة الكردية نفسها التي أُسقِـط عبرها النظام البعثي العراقي من قبل؟ وهل لنا أن نتوقّع الآن انفجار المزيد من الألغام في وجه النظام، سواء في سوريا نفسها أو في لبنان؟ ثم: هل القيادة السورية تَـعي الأبعاد الاستراتيجية الخطرة المتضمّـنة في ثنايا المفاجأة الكردية؟

قبل محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، وقفة أولا أمام طبيعة “المسألة الكردية” في سوريا.

“التكريد” و”التعريب”

يتراوح عدد الأكراد في سوريا بين 1،3 مليون إلى مليوني نسمة (ليس هناك إحصاءات رسمية)، أي بنسبة 9،5% من إجمالي السكان، في حين تبلغ نسبتهم في تركيا 24%، وفي إيران 11%، وفي العراق 22%.

ويقطن أكراد سوريا في المناطق الشمالية الشرقية السورية على الحدود مع العراق وتركيا، التي يُـطلق عليها إسم الجزيرة لأنها تقع بين رافدي دجلة والفرات، وهي تُـعتبر أغنى مناطق بلاد الشام. ففيها مُـعظم مصادر النفط والغاز السوريين، وفيها أيضا أكبر الأراضي الزراعية المُـخصّـصة لزراعة القطن.

ومن بين المليون ونصف والمليوني كردي، هناك نحو 225 ألفا من المكتومين (أي غير المسّجلين رسميا) الذين يُـعتبرون أجانب لأنهم، على ما يُـقال، لاجئون من تركيا والعراق، وهؤلاء يحملون بطاقة هوية حمراء لمُـجرد تسهيل التنقل، ومحرومون من الملكية الخاصة والسفر إلى الخارج.

ويدّعي الأكراد أنهم خضعوا منذ عام 1962 لسياسة تعريب بالقوة، أسفرت عن تجريد 120 ألف منهم من هويتهم السورية. ويضيفون أنه في أوائل السبعينات، عمد الرئيس السابق حافظ الأسد إلى توطين آلاف العرب السوريين في القرى الكردية على طول الحدود العراقية وغيّر أسماء هذه القرى، كما حظر تعليم اللغة الكردية في المدارس.

وينفي أكراد سوريا أنهم يريدون الحكم الذاتي أو الانفصال عن دمشق، مشدّدين على أن مطالبهم تقتصر على نيل حقوق المواطنة الكاملة التي يتمتّـع بها بقية السوريين. لكنهم في المقابل، يُـطالبون بالاعتراف بهويتهم القومية والثقافية، كما يقول سيف بدرخان، عُـضو المؤتمر الوطني الكردي، وهذا يتضمن تعليم اللغة الكردية، وإنهاء سياسة التعريب والتذويب بالقوة، وأيضا إنهاء التعاطي مع الأكراد بصفتهم مواطنين من الدرجة الثانية.

لكن، وخلال الاضطرابات الأخيرة، أجرى مراسلون أمريكيون مقابلات مع مواطنين أكراد عاديين، قال هؤلاء خلالها بأن مطلبهم الحقيقي هو “الحصول على وطن” من دون أن يُـعلنوا صراحة رغبتهم في الانفصال عن الوطن السوري، وهذا الموقف في الواقع رجع صدى لأحداث تاريخية وقعت قبل نحو 85 عاما حين أدى انهيار الدولة العثمانية إلى توزّع الشعب الكردي على أربع دول، من دون أن يحصل على دولته الخاصة به أسوة بالعرب والفرس والأتراك.

والآن، ومع تبلور ما يبدو أنه دولة كردية حقيقية في شمال العراق، خاصة بعد إقرار دستور مؤقت يثبّت إلى حد كبير استقلالية الأكراد في إطار فدرالي مرن، يشعُـر أكراد سوريا أن آمالهم باللّـحاق بركب أشقائهم العراقيين لم تعد على الأقل مستحيلة، كما كانت في السابق.

وإذا ما أضفنا إلى هذا الزيت القومي الكردي الساخن نار الخطط الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي تُـفيد إلى حد كبير من الورقة الكردية في الشرق الأوسط، سنُـدرك لماذا ترتدي الاضطرابات الكردية السورية أبعادها الخطيرة.

تغيير النظام

نعود إلى أسئلتنا الأولى: هل قرر الأمريكيون حقا بدء العمل لتغيير النظام السوري، وهل تحريك الورقة الكردية هي أول غيث سلسلة من الأوراق الأخرى التي سيتم استخدامها ؟

يعتقد العديد من المحللين في بيروت ذلك، لا بل يذهب بعضهم بعيدا إلى حد القول بأنه يتوقّـع ألا يبقى النظام حتى نهاية هذا العام (…)، ويشّدد هؤلاء على النقاط الآتية لتبرير وجهة نظرهم:

1. المحافظون الجدد الأمريكيون، وعلى عكس التوقعات، لن يرجئوا رغبتهم في تصفية الحسابات مع النظام السوري إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية. لماذا؟ لسببين رئيسيين:

الأول، أنهم يريدون تزويد رئيسهم بوش ببعض الأوراق الرابحة الجديدة في الانتخابات تحت شعار نشر الحرية والديمقراطية. والثاني، (وهنا الأهم)، أنهم يسعون إلى فرض أمر واقع جديد في الشرق الأوسط بعد الأمر الواقع العراقي، يسمح بفرض مبادئهم القائمة على استخدامات القوة لفرض الهيمنة الأمريكية على العالم، ويمنع أي إدارة أمريكية جديدة من تغيير هذا النهج.

2. الرئيس الأمريكي بوش، الذي كان يميل في البداية إلى وجهة نظر الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية القائلة بمواصلة التعاون و”الضغط اللطيف” والتدريجي على دمشق، غيـّر رأيه مؤخرا وانحاز إلى موقف البنتاغون المُـعادي لهذه الأخيرة، وهذا كان واضحا كل الوضوح في توقيعه على “قانون محاسبة سوريا، واستعادة استقلال لبنان” الذي أقرّه الكونغرس، وأيضا على العقوبات الوشيكة التي ستفرضها واشنطن على سوريا في المجالين الاقتصادي والدبلوماسي.

3. الشروط التعجيزية التي تضعها الإدارة الأمريكية على سوريا لقاء وقف الضغوط عليها، وهي تشمل:

– تجريد “حزب الله” اللبناني من أسلحته فورا وتحويله إلى منظمة سياسية – اجتماعية، مع تسليم بعض المطلوبين من قادته باغتيال وخطف مواطنين وجنود ودبلوماسيين أمريكيين في لبنان منذ عام 1983.

– الكشف عن كل أسلحة الدمار الشامل التي تملك، أسوة بما فعلته ليبيا، ووقف التحجج بالترسانة الإسرائيلية غير التقليدية لتبرير الامتناع عن هذه الخطوة.

– طرد ممثلي حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين من سوريا، ووقف التعاون مع النظام الإيراني، وبدء التحضير لسحب القوات السورية من لبنان.

– هذا بالإضافة إلى منظومة الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواردة في “مبادرة الشرق الأوسط الكبير” الأمريكية.

ويُـتوّج أنصار هذا الرأي حُـججهم بالقول أن “خطط اللعب الأمريكية بالوضع الداخلي السوري بلغت مرحلة متقدمة، وهذا لا يقتصر فقط على تحريك الورقة الكردية، إذ لدينا معلومات مؤكدة بأن جماعة رِفعت الأسد عاودت التحرك في سوريا ولبنان، وهي تُـبدي كل استعداد لقبول الشروط الأمريكية. كما لدينا معلومات أخرى عن قيام الأمريكيين بنقل 400 مسلح من المعارضة السورية إلى شمال العراق تمهيدا لنشرهم في شمال شرقي سوريا، وأيضا عن وجود توّجه لتفجير اللغم المسيحي الماروني في لبنان في وجه النظام السوري”.

“اطمئنان” رسمي

هذا ما يقوله أرباب نظرية الحسم الأمريكي ضد النظام السوري. فماذا يقول النظام نفسه؟

لا تزال النخبة الحاكمة السورية مُـقتنعة بأن الضغوط الأمريكية لن تصل (حتى الآن على الأقل) إلى مرحلة المغامرة بتغيير النظام السوري، خاصة مع استمرار وجود أجنحة مُـتطرفة في حركة الإخوان المسلمين تدعو إلى انتهاج العنف وامتشاق السلاح، طلبا لتغيير لن يكون ديمقراطيا بأي حال.

كل ما تريده واشنطن، برأي هذه النخبة، هو إخضاع النظام السوري للمتطلبات الجديدة لسياساتها في الشرق الأوسط. و تتكثّـف هذه الآن في ثلاث مسائل: أمن القوات الأمريكية في العراق، وأمن إسرائيل في جنوب لبنان، وأمن أمريكا وإسرائيل معا ضد ما تُـسميه الإدارة الأمريكية “الإرهاب، وأسلحة الدمار الشامل السورية”.

وتلبية لبعض هذه المطالب، اندفعت دمشق مؤخّـرا إلى عزف ألحان، اعتقدت أنها ستشنّـف آذان سكان البيت الأبيض:

– فقد أعلنت استعدادها لاستئناف مفاوضات السلام مع إسرائيل بشروط مسهلّة جديدة.

– وأقنعت تركيا بالعمل كواسطة خير بينها وبين واشنطن، بعد أن أغرت الأولى (على ما يقال) بتسوية في لواء الاسكندرون، عبر تحويله إلى “بقعة عولمة مشتركة” تكون نافذة الرأسماليتين التركية والأوروبية على أسواق الشرق الأوسط.

– ثم أنها رفعت من وتائر تعاونها مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في القضايا المتعلقة بمكافحة الإرهاب.

لكن حتى الآن، لا يبدو أن هذه المبادرات نجحت في إذابة بعض الجليد الذي تراكم بكثافة على طريق دمشق – واشنطن منذ أحداث 11 سبتمبر 2001. وحتى الآن أيضا، يبدو واضحا أن إدارة بوش، بصقورها وحمائمها، تنوي مواصلة الضغوط التدريجية على دمشق.

ماذا يمكن لدمشق أن تفعل أكثر مما فعلت؟

تقول النخبة السورية الحاكمة، إن عليها ألا تقلق وألا تبادر إلى أكثر مما بادرت. ففي النهاية ستبقى الضغوط الأمريكية محدودة تجاريا، ورمزية دبلوماسيا. هذا ناهيك عن أن نهج العقوبات نفسه، لا يُـوحي بأن ثمة نية أمريكية حقيقية لإطاحة النظام.

لكن هذه النخبة في المقابل، لا تستطيع أن تنفي أن هناك رغبة أمريكية جادة في تغيير السياسات الإقليمية السورية بما يتلاءم مع وجود 100 ألف جندي أمريكي في العراق، وبما يتطابق مع الحرب الحقيقية التي تشنّـها الولايات المتحدة (ومعها أوروبا) ضد أسلحة الدمار الشامل والإرهاب، وهذه الرغبة في حد ذاتها تشكّل الآن خطرا حقيقيا على النظام.

لماذا؟ لأن النظام السوري الحالي، بنى كل أسس شرعيته على دوره القومي العربي الإقليمي في لبنان وفلسطين والعراق، وقبلها في حرب أكتوبر ضد إسرائيل، وأي خطوة لزعزعة هذه الأسس، ستجعله يقف عاريا في معركة صراع البقاء.

الأسد والقذافي

إلى أين الآن من هنا؟ ريشارد أرميتاج، وكيل وزير الخارجية الأمريكي، أجاب عن هذا السؤال مؤخّـرا بصراحة فظّة: “سنفرض على سوريا قريبا عقوبات صارمة جدا وقريبة جدا. لا نستطيع القول بعدُ ما إذا كان بشار الأسد الشاب مثل أبيه حافظ الأسد. يُـمكن ألا نحب والده إطلاقا، إلا أنني أعتقد أن هذا الأخير كان قادرا على اتخاذ القرارات. وسنرى ما إذا كان الرئيس الحالي يستطيع أن يفعل ذلك. إنه يقف على مفترق طُـرق، ويستطيع أن تكون له حياة حسنة أو أن يكون أكثر انعزالا، وأن يكون حزب البعث الوحيد الباقي في المنطقة”.

هل هذا التصريح الخطير في حاجة إلى تعليق؟ إذا ما كان الأمر كذلك، فالطرف الأكثر تأهيلا للقيام بهذه المهمة هو العقيد معمر القذافي!

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية