مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سوريا ولبنان: أصُـوليات أمْ مُـناورات كبرى؟

من اليمين، الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره اللبناني ميشيل سليمان قبل محادثاتهما الرسمية خلال اليوم الثاني من زيارة سليمان إلى دمشق يوم 14 أغسطس 2008 Keystone

ثمّـة هذه الأيام لغز محيّـر يحوم فوق بلاد الشام، فيطلق العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام: ماذا يجري في الداخل السوري؟ وما حقيقة ما يحدث على الحدود اللبنانية – السورية، حيث يحتشِـد الآن عشرات آلاف الجنود السوريين؟

وهل صحيح أن الشمال اللبناني وعاصمته طرابلس تحوَّلا إلى مِـنصّـة انطلاق لـ “الإرهابيين الأصوليين” ضد سوريا، كما تقول دمشق؟ ثم، وهنا الأهم: هل الفزّاعة الأصولية، ذريعة لمحاولة إعادة الوجود العسكري السوري إلى لبنان أمْ أنها مشكِـلة حقيقية باتت تهدِّد أمن النظام السوري في الداخل، كما على حدوده مع لبنان؟

كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير، طفَـت على سَـطح الأحداث بعد حدثين إثنين: الأول، العملية الانتحارية التي نُـفِّـذت على طريق دمشق في 27 سبتمبر الماضي وذهب ضحيتها 17 قتيلاً، بينهم (على ما يُـشاع) مسؤولان كبيران في أجهزة الأمن السورية، والثاني، عودة التوتّـر الأمني إلى طرابلس على إيقاع طُـبول الحرب المُـتبادلة بين الأصوليين في شمال لبنان وبين دمشق.

سنأتي إلى كل هذه الأسئلة بعد قليل، لكن قبل ذلك، وقفة أمام ما يجري في الداخل السوري.

تل أبيب وواشنطن

أخطر ما في الانفجارات الإرهابية، التي تضرب سوريا هذه الأيام، هي التحليلات الأمريكية والإسرائيلية الكثيفة التي رافقتها والتي تُـثير (أو يجب أن تثير) كبير التساؤلات.

فتل أبيب تروِِّج وتُـصرّ على التّـرويج، بأن أجهزة الأمن الإيرانية هي التي تقِـف وراء تفجير السيارة الملغومة على طريق مطار دمشق، وبأنها (الأجهزة) تعمّـدت أن تُـنفِّـذ العملية على مَـقرُبة من مقام السيدة زينب، الذي يَـؤمّـه آلاف الإيرانيين على مدار السنة لإبعاد الشبهات عنها. ولماذا تقوم طهران بمثل هذه الفعلة؟ تردّ تل أبيب سريعاً: “لردع سوريا عن المُـضي قدماً في سياسة المفاوضات مع إسرائيل والانفتاح على الغرب”.

واشنطن تذهب أبعد من ذلك. فمصادِرها لا تتحدّث عن خِـلافات واسعة النِّـطاق بين دمشق وبين إيران وحزب الله اللبناني فحسب، بل هي تُـحاول أيضاً دقّ إسفين بين الأولى وبين دوّل الخليج، عبر محاولة الربط بين تدفّـق الاستثمارات السعودية والخليجية على سوريا، وبين تنامي الحركات الأصولية مجدّداً فيها.

كتبت صحيفة “التايمز” الأميركية: “خلال العقد الأخير، بدأت دمشق ترخي قبضَـتها على الجماعات الدِّينية في مُـحاولة لاستيعابها من ناحية، وكنتيجة لفتح الاقتصاد السوري أمام رجال الأعمال السعوديين والخليجيين، الذين جَـلبوا معهم أيضاً جمْـعيات البِـرّ والإحسان وبرامج بناء المساجد من ناحية أخرى. وكل هذه نشاطات مسالمة، لكنها قد تفتح سوريا أيضاً أمام تغلغُـل المتطرفين”.

هل وصلت الرسالة من تل أبيب وواشنطن؟

يُـفترض ذلك، وبوضوح أيضاً، وهي (وهنا المفارقة) تحرّض السُّـوريين على الإيرانيين والسعوديين في الوقت نفسه، على الرغم من أن الأخِـيرين أصدقاء لواشنطن، على عكس الأولين. لماذا؟

ليس هناك سوى تفسير وحيد: ثمّـة جهود حقيقية لتفجير الوضع في بلاد الشام، لتحقيق هدفين اثنين على ما يبدو:

الأول، إعادة “طبْـخ” هذه المِـنطقة مجدداً، عشية الانتخابات الأمريكية، بحيث يكون الطريق ممهّـداً أمام أي إدارة أمريكية جديدة لإعادة رسم خرائطها كما يحلو لها.

والثاني، إجبار سوريا على وقْـف تراقُـصها على الحبْـل المشدود بين الجبهتين، الإيرانية والأمريكية، وحملها على الانحياز نهائِـياً لأحد الطرفين.

صراعات داخلية؟

لكن، وفي مقابل هذه التحليلات الأمريكية والإسرائيلية، ثمّـة مَـن يعتقد أن انفجار دمشق هو حصيلة تنافسات سياسية داخلية سورية.

وعلى سبيل المثال، يقول مركز “ستراتفور استراتيجيك إنتليجنس”، إن اغتيال القيادِي البارز في حزب الله عماد مغنية في 12 الماضي، كشف في وقت مبكّـر عن صِـراع حادّ على السّـلطة داخل عائلة الأسد الحاكمة، وأن هذا الاغتيال، حتى وإن تمّ على يد الموساد الإسرائيلي، لم يكُـن لينجح من دون دعم “مصدر سوري داخلي” سهّل هذه العملية.

يضيف المركز أن آصف شوكت، رئيس جهاز الأمن العسكري وزوج نجلة الرئيس حافظ الأسد، بُـشرى، يتنافس على السلطة منذ وقت غير قصير مع ماهر الأسد، قائد الحرس الجمهوري القوي وشقيق الرئيس بشار الأسد. والشائعات هنا تتحدّث عن “مؤامرات” تصطفّ فيها الـ “سي.أي. آي” إلى جانب آصف، لتغليب كفّـة الميزان لصالحه ضدّ ماهر، وعن أن هذه الواقعة قمينة بتفسير الكثير من التطوّرات والاغتيالات الغامضة التي تجري في سوريا.

معروف أن النظام النظام الحالي في سوريا يجِـد أصوله المؤسسية في الانقلاب البعثي في عام 1963 ودستور عام 1973، اللّـذين ثبّـتا الدور القيادي لحزب البعث، لكن سرعان ما أنشأ حافظ الأسد، الذي وصل إلى السلطة في انقلاب داخلي في عام 1970، قاعدة سُـلطة مُـوازية في نظامه.

فقد سعى أولاً إلى توسيع الدّعم له من خلال تأمين مِـساحة لنُـخب رجال الأعمال القديمة والسّـماح للأحزاب الصُّـغرى والضعيفة بالاضطلاع بدور ضئيل في الجبهة التقدّمية الوطنية، التي يسيطر عليها حزب البعث، لكن في نهاية عهده، بدأ يعتمِـد أكثر فأكثر على الأقليات وعلى شبكة شخصية من المؤيِّـدين، متجاوزاً حزب البعث.

“الإصلاح في سوريا: بين النموذج الصنين وتغير النظام”

وتوضح الباحثة آلين ليست عوكر، في دراسة بعنوان “الإصلاح في سوريا: بين النّـموذج الصيني وتغيير النظام”، أن الصِّـراع بين المؤسسات الرسمية والقاعدة الشخصانية للسلطة، كان واضحاً جدا،ً عندما تولّـى بشار الأسد الرئاسة بعد وفاة والده في يونيو 2000.

ولا شك في أن افتقار الرئيس الشاب إلى الخبرة وقاعدته السياسية غير المتطوّرة، شكَّـلا أيضاً عُـنصراً لصالِـح الأجهزة الأمنية التواقة إلى الحفاظ على نفوذها.

بدأ بشار الأسد عهده الرئاسي مع حدٍّ أدنى من النِّـيات الحَـسنة، داخلياً ودولياً، على السواء، لكن في غُـضون سنوات قليلة، فقَـدَ الكثير من الدّعم الداخلي وتورّط في علاقة أكثر عداوةً مع الولايات المتحدة وفرنسا، وبدرجة أقل مع بلدان أوروبية أخرى.

وكان نبذ سوريا على الساحة الدولية وركودها الداخلي، نتيجة مَـزيج من السياسات الفاشِـلة التي طبّـقها النظام والظروف الدولية المتغيِّـرة بسرعة. داخلياً، حظِـي بشار بفترة سماح في البداية، فتمتع بدعم الحِـزب وعناصر كثيرة في الحَـرس القديم من عهد والده، وكذلك قدّم السوريون من خارج أروقة السلطة، دعماً حذِراً للتحرّر السياسي المُـرتقَـب.

وبالفعل، تمتّـعت سوريا بانفتاح سياسي وجِـيز مع ازدهار المُـنتديات السياسية بقيادة المعارضة التي ناقشت الإصلاح السياسي والاقتصادي على السواء، وأحيى التوهُّـج السياسي لربيع دِمشق الآمال بأن يتمكّـن الرئيس من حشْـد الدّعم والحماسة الكافِـيَين، للوُقوف في وجْـه الشخصيات المتشدِّدة والمُـناهضة للإصلاح داخل النظام.

وبحلول شهر أغسطس 2001، زادت تحرّكات المعارضة من توتّـر الحرس القديم داخل النظام، وفي الوقت نفسه، بدأ يتّـضح أن المعارضة هي في نهاية المطاف أضعف مِـن أن تشكِّـل عنصر توازُن حقيقي في مواجهة القِـوى المتشددة، واقترب بشار بحَـذر من مواقِـف الحرس القديم ووضع حدّاً لربيع دمشق.

وتشير عوكر إلى أنه في البداية، رحّـب المجتمع الدولي بوصول بشار الأسد إلى الرئاسة، وسعت الولايات المتحدة إلى فرصة لتحسين العلاقات الأمريكية – السورية التي ساءت في التسعينيات، عندما قوضت المفاوضات السورية – الإسرائيلية، المتقطِّـعة وغير النّـاجحة تحت الوِصاية الأمريكية، الثقة بين الإدارتَين، السورية والأمريكية، وبدا تفاؤل الولايات المتحدة حِـيال الرئيس الشاب مُـبرراً في الأشهر الأولى التي أعقبت 11 سبتمبر 2001، إذ أبدت سوريا استعداداً للتّـعاون في المبادرات الآيلة إلى مكافحة الإرهاب.

..تضييق قاعدة سلطة بشار الأسد

وأظهر الأوروبيون أيضاً دعماً للرئيس الجديد وسعَـوا إلى إحراز تقدّم على المسار السوري في مجال الاتفاقات بين الاتحاد الأوروبي وبلدان البحر المتوسط. وأعطى الفرنسيون، بشكل خاص، دعماً قوياً للحكومة الجديدة، حتى أنهم أرسلوا فريق مستشارين لتقديم المَـشورة حول الإصلاحات الإدارية في عام 2003، لكن الظروف الإقليمية والداخلية المتغيِّـرة، قوّضت النِّـيات الحَـسنة تُـجاه النظام السوري.

ففي مواجهة التشنُّـجات الداخلية والأزمات الإقليمية، اتّـخذ بشار الأسد موقِـفاً حادّاً في المنطقة ضد الغرب، مُـطلقاً دعوات حادّة اللَّـهجة تُـعارض الهجوم الذي تشنّـه قوى الائتلاف على العراق، ونتيجةً لذلك، تدهورت العلاقات الأمريكية – السورية.

وكان بعض القادة في الكونغرس الأمريكي يسعَـون منذ وقت طويل لممارسة ضغوط على سوريا، لكن الإدارة الأمريكية والـ “سي.أي. آي” رفضتا الإذْعان لهم وأقنَـعتهم بوضع مُـسودّة قانون مُـحاسبة سوريا على الرفّ، قبل عرضه على التصويت في عام 2002، لكن مع تدهْـور الظروف الإقليمية، نتيجة الاضطرابات المتزايدة في العراق والانتفاضة المستمِـرة في الضفة الغربية وقطاع غزة، غيّـرت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش موقِـفها.

ففي 3 مارس 2003، وفي موقِـف مُـغاير لمواقفه السّـابقة، وصف وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، كولن باول، القِـوى السورية في لبنان بـ “جيش الاحتلال”، وفي وقت لاحق من الشهر نفسه، أعلن أنه ينبغي على سوريا أن تضع حداً لـ “دعمها المباشر للمجموعات الإرهابية والنظام المحتضِر لصدّام حسين”.

كانت للضغوط الدولية على سوريا، التي مارستها الولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة، انعكاسات مهمّـة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في سوريا، وكذلك على السياسة الداخلية.

فقد تدهورت الأوضاع الداخلية إلى حدّ كبير منذ الاجتياح الأمريكي للعراق، الذي وضع حدّاً للتّـدابير الاقتصادية المؤاتية بين سوريا والعراق، ودفع الاستِـياء الشعبي النّـاجم عن تدهْـور الوضع الاقتصادي بالحكومة، إلى إسكات المناقشات الداخلية وحصْـر مجال التركيز في المناقشات التي سُمِح لها بأن تستمر حول المسائل الضيِّـقة للسياسية الاقتصادية، بدلاً من المسائل الواسعة النِّـطاق للإصلاحات السياسية.

وكانت النتيجة النهائية لهذه الورْطة التي فرضتها التطوّرات الخارجية والداخلية، تضييق قاعدة السلطة المحيطة ببشار الأسد. فقد أقال هذا الأخير كثيراً ممّـن كانوا يتولَّـون مناصِـب بارزة في عهد والده، وكانت للعديد من أعضاء الحرس القديم، الذين وضعهم بشار ومعاوِنوه المقرّبون جانباً، مناصِـب في الأجهزة الأمنية والاستخبارية.

“الثالوث” السوري

وحتى اللاعبون الأساسيين، أمثال رئيس جهاز الاستخبارات بهجَـت سليمان ورئيس الاستخبارات العسكرية حسن خليل ورئيس شُـعبة الأمن السياسي عدنان بدر حسن ونائب الرئيس عبد الحليم خدّام، خسروا مناصِـبهم، وكذلك خسِـر قادة قُـدامى في حزب البعث سُـلطتهم في السنوات الأخيرة.

ونتيجة لهذه التغييرات وسواها، أصبحت السلطة تتركّـز أكثر فأكثر في يد ما يُعرَف بـ “الثالوث”: بشار الأسد وشقيقه ماهر (قائد الحرس الجمهوري) وصهره آصف شوكت (رئيس جهاز الأمن العسكري)، لكن كلما ضاق الائتلاف أكثر، اتّـسعت قاعدة المعارضة.

هذه إذن، بعض العوامل التي تؤجِّـج الصِّـراعات في سوريا، وكما هو واضح، التّـداخل شديد بين ما هو داخلي وخارجي في اللّـعبة السياسية السورية. وعلى سبيل المثال، اغتيال عماد مغنية في قلب العاصمة السورية، حمل بلا شكّ دمغة الصِّـراع الأمريكي – الإيراني.

وقل الأمر نفسه عن “الانتفاضات” الكُـردية، التي حملت في آن معاني التّظلُّـمات المحلية الحقيقية والتحريض الخارجي الحقيقي، وعن عمليات الاغتيال أو محاولات الاغتيال الأخرى التي طالت بعض المسؤولين السوريين.

كذلك، الشائعات حول الصِّـراعات داخل حلَـقة القيادة الداخلية للنظام، ترتبط هي الأخرى ارتباطاً وثيقاً بالعوامل الخارجية، وهكذا ثمّـة أحاديث الآن عن مفاوضات سرية أمريكية – سورية تجري لإغلاق ملف اغتيال رفيق الحريري على حساب بعض مراكز القوى السياسية السورية.

كما هو واضح، المشهد السوري يبدو مُـعقَّـدا،ً إن لم يكن مُـشوّشاً، لكن هذا الأمر ليس مفاجئاً. فسوريا تحوّلت منذ عام 2003 إلى ساحة صِـراع إقليمي دولي حقيقي، بعد أن أصبحت “الجائزة الكُـبرى” في الصِّـراع على النفوذ في الشرق الأوسط: مَـن يفوز بها يربَـح كل شيء، ومن يخسِـرها يخسر كل شيء.

وهذه الصورة باتت أكثر وضوحا،ً بعد أن بلغ الاستقطاب ذِروَته بين كل من واشنطن وطهران، وبين طهران والرياض، على إثر تعثُّـر المشروع الأمريكي في العراق، ومن ثَـمّ تنامي النّفوذ الإيراني فيه وفي مِـنطقة الهلال الخصيب.

السّـير على حبل مشدود بين هاويتين

حاولت سوريا طيلة هذه الفترة النّـوم في السَّـريرين، الإيراني والأمريكي في آن، فأكّـدت على رسوخ تحالُـفها الإستراتيجي مع طهران ورمَـت نفسها في حُـضن روسيا، المتمرِّدة هذه الأيام على واشنطن، ثم أنها أشرعت في الوقت نفسه كل الأبواب والنوافذ أمام حِـوارات مع واشنطن وباريس، تتوجّـت أخيراً في المفاوضات غير المباشرة مع وكيلتهما في الشرق الأوسط تل أبيب، وهذه الدبلوماسية المُـزدَوجة جعلت كُـلاًّ من واشنطن وطهران تُـراهنان على أن في وُسع كلّ منهما جذب دمشق في النهاية إلى فلكه.

هذه الدبلوماسية الدِّمشقية بدَت حاذِقة بالفعل، لكن المراقبين كانوا يتساءلون باستمرار: إلى متى يمكن لسوريا أن تُـواصل هذا السَّـير الخطر على ذلك الحبل المشدود بين هاويتين أو معسكرين متناقضين، وإلى متى يُـمكن أن تقبَـل الأطراف الإقليمية الدولية المتصارِعة مثل هذه اللعبة؟

ثم، من رحِـم هذا السؤال، كان يولد سؤال آخر أكثر أهمية: هل سيكون في وِسع سوريا أن تحافظ على أمنها واستقرارها وسط هذه اللّـعبة الهَـوجاء، التي تجري هذه الأيام في كل الشرق الأوسط، والتي تُـستخدَم فيها على وجه الخصوص العمليات الإرهابية والاستخباراتية والمجموعات الأصولية المتطرفة، وعشرات، بل مئات مليارات الدولارات؟

إجابة العديدين على هذا السؤال كانت دوماً أن النظام الأمني السوري أثبت مِـراراً قدرته على الصمود والبقاء، لكن كان محتّـماً أن يكون للضّـغوط الخارجية العنيفة ومتعدّدة الرؤوس، مفاعليها في النهاية، وهذا ما أكّـدته عمليات الاغتيال الأخيرة، وما يؤكِّـده أيضاً إنفجار دمشق الأخير.

والحصيلة؟ ربّـما تلخِّـصها الكلمات التالية للكاتب الأمريكي أندرو لي بالترز: “غالباً، حين كان يقّـع عملٌ إرهابي أو حدث عنيف في سوريا، أشعر وكأنّي رائِـد فضاء يراقب انفجار بركان على كوكب آخر، بحثاً عن توضيحات أو مدلولات. وانفجار دمشق الأخير تذكِـرة بأنه تحت سطح سوريا، الذي يبدو هادئاً وساكناً، ثمّـة حمم ذائبة”.

خلاصة بليغة؟ أجل، ودقيقة أيضاً

فالدلائل تُـشير إلى أن لحظة الحقيقة أزفت أو على الأقل اقتربت حِـيال حسم موقع سوريا في الصراع الاستقطابي الإقليمي – الدولي الرّاهن في الشرق الأوسط، وبأن سوريا لن تستطيع بعدُ مُـواصلة اللعب على الحبلين، الأمريكي والإيراني في آن.

والمعلومات المتدفِّـقة هذه الأيام من بلاد الشام تشي بأن الحركات الأصولية المتشدّدة نجحت خلال السنوات الخمس الماضية في ترسيخ وجودها اللوجيستي والمالي والبَـشري في سوريا، وأن الانفجار الكبير الأخير قُـرب مطار دمشق وعلى مرمى حجر من مركز سري لجهاز أمني بارز، والذي كان الأضخم منذ مجابهات الثمانينات بين النظام والإخوان المسلمين، كان مجرّد واحد من سلسلة تفجيرات مماثلة حدثت بالفعل ونجحت السلطات في التعتيم عليها، لأنها وقعت خارج العاصمة.

تقاطع هذين العاملين، أي تفاقُـم الأزمة الإقليمية السورية وتنامي الظواهر الأصولية في الداخل السوري، يكاد يُـمزّق الآن نسيج الحلقة الداخلية الصغيرة الحاكمة، وقد يدفع قادة النظام إلى محاولة تصدير الأزمة إلى الخارج (أي لبنان)، لتفادي الانفجارات الداخلية.

هذا قد يفسّر استمرار حديث الرئيس الأسد عن مخاطر تنامي الحركات الأصولية في شمال لبنان، وما تلاه من حشود عسكري على الحدود مع منطقة عكار اللبنانية الحدودية، على الرغم من أن المُـجابهات في الشمال منذ معارك نهر البارد تحدُث بين الأصوليين وبين الجيش اللبناني، الذي يدفع أفدح الأثمان للتصدّي للمتطرّفين، وكان آخرها في الأسبوع الماضي سقوط سبعة قتلى عسكريين في تفجير طرابلس.

الأسد حاول الحصول على ضوء أخضر من الرئيس الفرنسي ساركوزي خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق لمعاودة التدخل العسكري في لبنان، بحجة مكافحة الإرهاب، لكن حتى لو وافقت باريس على هذا التدخل (وهي نفَـت قبل أيام قليلة ذلك)، فهذا لن يكفي. موافقة واشنطن (ومعها بالطبع تل أبيب)، هي الأساس.

فهل يمكن لإدارة بوش، التي تردّدت في رعاية المفاوضات غير المباشرة السورية – الإسرائيلية، لأنها (من ضمن أسباب أخرى تتعلّـق بمواصلة فرض الحِـصار على سوريا) ترفض بيْـع الجلد اللبناني للصيَّـاد السوري، أن توافِـق على الاجتياح العسكري السوري للشمال اللبناني؟

يوم الأربعاء 1 أكتوبر الجاري، وعلى هامِـش لقاء الوزيرين السوري المعلّم والأمريكية رايس في واشنطن، حذّرت واشنطن سوريا من استخدام الاعتداءات الإرهابية الأخيرة في طرابلس ودمشق كذريعة للتدخّـل في الشؤون اللبنانية، وأكّـد مسؤول في الخارجية الأمريكية أن «المُـجتمع الدولي أوضح لسورية بإرسال قوّاتها إلى أنه لن يسمح لها التدخل في لبنان».

وقال المسؤول، الذي رفض كشف اسمه، إن واشنطن «اطلعت على التقارير عن حشد القوّات السورية على الحُـدود اللبنانية، والمجتمع الدولي أوضح لدمشق أنه لا يمكن إرسال قواتها لداخل لبنان»، وأشار إلى أن على دمشق التزام مسؤولياتها المنصوص عليها في القرارين الدوليين 1559 و1701.

هل رسمت واشنطن بهذا البيان خطّـاً أحمرا أمريكياً واضحاً على الرِّمال الفاصلة بين تلة الدبوسية السورية، حيث تحتشد الآن القوات السورية وبين سهوب عكار الخضراء؟ وإذا ما كان الأمر كذلك، هل تقدِم دمشق على هذه المغامرة العسكرية من دون موافقة واشنطن، هرباً من “الحمم اللاهبة”، التي بدأت تتسرّب من البُـركان السوري؟

هذا الاحتمال الأخير غير وارد، ما هو وارد أن تغيـّر واشنطن موقِـفها، إذا ما شعرت بأن الأصوليين باتوا يهدّدون بالفعل بإسقاط النظام السوري لصالحهم أو إذا ما حسم هذا الأخير أمره فابتعد كثيراً عن إيران، ليقترب قليلاً من واشنطن عبر البوّابتين، الفرنسية والإسرائيلية.

وإذا ما حدث هذا التغيير الأمريكي، ستكون أبواب لبنان مشرّعة ثانية أمام سوريا، وهذه المرّة لن يكون شِـعار الدّخول العسكري السوري، وقف الحرب الأهلية اللبنانية، كما كان الأمر عام 1975، بل مكافحة الإرهاب العالمي.

سعد محيو – بيروت

واشنطن (رويترز) -أبدت الولايات المتحدة قلقها من الحشود العسكرية السورية عند الحدود الشمالية اللبنانية، وقالت إن الهجوم الكبير الذي وقع في الاونة الاخيرة في دمشق، لا ينبغي استخدامه ذريعة لاعادة القوات السورية الى لبنان.

وقال روبرت وود، المتحدث باسم الخارجية الامريكية، ان الولايات المتحدة ودولا أخرى أوضحت لسوريا أن أي تدخل من جانب دمشق في لبنان، غير مقبول، وأضاف في حديثه للصحفيين أن “الهجمات الارهابية التي وقعت في الاونة الاخيرة في طرابلس (بلبنان)ودمشق، لا ينبغي أن تكون ذريعة، كما تعلمون، لمزيد من التدخل العسكري السوري، ولا يمكن استغلاله للتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية”.

وسيطرت سوريا بشدة على الشؤون السياسية والامنية في لبنان حتى عام 2005 حين اغتيل رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري. وأثار ذلك الاغتيال ضغوطا دولية، أدت في النهاية لاجبار سوريا على انهاء وجودها العسكري الذي استمر 29 عاما في لبنان وسحب قواتها.

وحذرت دمشق من تصاعد التشدد الاسلامي في شمال لبنان، وقالت السلطات السورية إن السيارة المستخدمة في التفجير الانتحاري الذي وقع في دمشق الشهر الماضي، عبرت الحدود من دولة عربية مجاورة. وبالاضافة الى لبنان، هناك بلدان عربيان هما الاردن والعراق.

وفي نهاية الشهر الماضي، أرسلت سوريا المئات من أفراد قواتها الى حدودها الشمالية مع لبنان في خطوة قالت السطات إن هدفها منع التهريب.

وتكهّـن خصوم سوريا في لبنان بأن دمشق ستستغل حالة الانفلات الامني في الشمال ذريعة للتدخل.

وقال وود: “طبعا نحن قلقون من هذا النوع من الانشطة بطول الحدود، ومن أن يقود الى مزيد من التدخل من جانب سوريا في الشؤون الداخلية للبنان”، وأضاف أن “الحكومة السورية تُـدرك جيدا وجهة نظرنا فيما يتعلق بأي نوع من النشاط العسكري في منطقة الحدود”.

والتقت وزيرة الخارجية الامريكية كوندوليزا رايس بنظيرها السوري وليد المعلم في أواخر الشهر الماضي على هامش الجمعية العامة للامم المتحدة، ومارست عليه ضغطا فيما يتعلق بالحشد العسكري على الحدود وفي قضايا أخرى.

وبعدها بيومين، التقى المسؤول الامريكي الاكبر في الخارجية الامريكية لشؤون السياسة في الشرق الاوسط بالمعلّـم من جديد، لبحث ذلك الامر وقضايا أخرى.

وفيما توجه الولايات المتحدة انتقادات لسوريا بسبب ما تراه تدخلا من جانبها في لبنان، قال مسؤول أمريكي رفيع لرويترز الاسبوع الماضي، ان واشنطن تعمل على إعادة تقييم استراتيجية العزلة التي تفرضها على دمشق، وأفضل السبل لجعل سوريا تغير مسلكها.

وتطبق الولايات المتحدة حتى الان استراتيجية لفرض عقوبات على سوريا المدرجة على قوائم الدّول الراعية للارهاب.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 6 أكتوبر 2008)

واشنطن (رويترز) – قال مسؤولون وخبراء أمريكيون إن الولايات المتحدة تقوم بتقييم سياستها الهادفة الى عزل سوريا في الشهور الاخيرة الباقية لحكومة بوش، لكن ليس من المرجّـح ان تعيد سفيرها إلى دمشق في أي وقت قريب.

وقال مسؤول أمريكي بارز، إن هناك محادثات حول كيفية ممارسة واشنطن “نفوذها” على دمشق بافضل وسيلة، خاصة في اعقاب التقارب بين فرنسا وسوريا وزيارة الرئيس نيكولا ساركوزي لدمشق في الشهر الماضي.

وقال المسؤول البارز، الذي طلب عدم ذكر اسمه بسبب حساسية الموضوع، “اننا نبحث ما إذا كانت هناك بعض المزايا في اعادة تشكيل انفسنا دبلوماسيا”. وقال لرويترز في وقت متأخر يوم الجمعة 3 أكتوبر، بان التحرك الامريكي جاء وسط “علامات مشجعة” من جانب سوريا، مثل مساعدتها في التوسط في انتخاب الرئيس اللبناني وقرارها باقامة علاقات دبلوماسية مع جارها الذي سيطرت عليه عسكريا لنحو ثلاثة عقود.

وفي اشارة لاحتمال حدوث دفء في العلاقات، التقت وزيرة الخارجية الامريكية كوندوليزا رايس بوزير الخارجية السوري وليد المعلم على هامش احتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة في نهاية الشهر الماضي وهو ثالث اجتماع لهما خلال 18 شهرا. وقال المعلم لقناة العربية التلفزيونية، ومقرها في دبي، إن محادثاته مع رايس كانت “ايجابية” وتعد “مدخلا الى حوار”.

وقال مساعدو رايس، إنها ضغطت عليه في عدة مجالات، منها علاقات سوريا مع إيران وأمن الحدود السورية مع العراق و”أعمالها” داخل لبنان واستضافة الجماعات الفلسطينية المتطرفة، الى جانب بطء الاصلاحات فيما يتعلق بحقوق الانسان.

واعقب أبرز دبلوماسيي وزارة الخارجية في الشرق الاوسط ديفيد ويلش ذلك باجراء مناقشات مطولة مع المعلم في نيويورك يوم الاثنين 6 أكتوبر.

وقال الدبلوماسي البارز، تعليقا على محادثات كل من رايس وويلش “اننا نتطلع الى سبل التحسين وان نجعل جهودنا اكثر فعالية من اجل دفعهم الى تغيير سلوكهم.”

وكانت علاقات الولايات المتحدة باردة مع سوريا بصفة خاصة منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري في عام 2005 الذي تقول واشنطن انه من المرجح ان سوريا ضالعة فيه.

وكانت خطة واشنطن تقوم على عزل سوريا بسلسلة من العقوبات والقاء اللوم على دمشق في تأجيج اعمال العنف بالعراق بالسماح لمقاتلين اجانب بعبور حدودها. وسوريا مدرجة على قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للارهاب.

ويقول عدد من الدبلوماسيين والمحللين ان هناك ايضا ضغوطا من جانب البنتاغون لاقامة علاقات افضل مع سوريا لوجود احساس بان هذا سيخفف التوتر في المنطقة خاصة على الحدود مع العراق. وتنفي سوريا انها تقوم بتأجيج العنف في العراق. لكن يبدو ان البيت الابيض اقل تحمسا تجاه اجراء تحول في العلاقات مع سوريا، حيث اكد ذلك الرئيس جورج بوش في خطابه امام الجمعية العامة للامم المتحدة، عندما قال ان سوريا الى جانب ايران تُـواصلان رعايتهما للارهاب.

ورفض المتحدث باسم البيت الابيض غوردون غوندرو التعليق عندما سئل عما اذا كانت هناك تحركات لاقامة علاقات اوثق مع سوريا.

وربما تكون هناك مراجعة هادئة في وزارة الخارجية الامريكية حول كيفية التعامل مع سوريا، لكن المسؤولين الامريكيين يقولون إنه لا توجد خطط لتعزيز الوجود الدبلوماسي في دمشق او اعادة السفير الى هناك، الذي استُـدعي بعد اغتيال الحريري.

ولا توجد ايضا خُـطط لارسال رايس في “مهمة سلام” الى سوريا لكي تنضم الى ما تصفه واشنطن بانه “مواكب” الزائرين الاوروبيين لدمشق في الاونة الاخيرة، بمن في ذلك الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي.

ويبدو التحرك لاعادة مراجعة السياسة تجاه سوريا جزءا من وضع اسس العمل للحكومة القادمة، سواء بقيادة الجمهوري جون ماكين او الديمقراطي باراك اوباما.

وقال الخبير في الشؤون السورية دانييل ليفي في مؤسسة امريكا الجديدة “انهما يريدان ان يكونا ضالعين في ذلك الان حتى لا يبدو كأنه تراجع فيما بعد”، واضاف “كان الوقت مناسبا منذ فترة طويلة جدا للقيام بذلك لان سياسة العزل لم تنجح”.

وتراقب واشنطن ايضا عن كثب المحادثات غير المباشرة التي تتوسط فيها تركيا بين سوريا واسرائيل لتصدر حكمها حول متى يكون الوقت مناسبا لتدخل الولايات المتحدة.

واثارت رايس، التي تتوسط في محادثات الدولة الفلسطينية بين الاسرائيليين والفلسطينيين هذا الموضوع في اجتماعها مع المعلم، وقالت للصحفيين بعد ذلك “الولايات المتحدة قالت دائما إنه في الوقت الذي سيكون مناسبا للمساعدة، فان الولايات المتحدة بطبيعة الحال ستكون راغبة في القيام بدور”.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 5 أكتوبر 2008)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية