مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سوريا: إستراتيجية “تقطيع الوقت”!

Keystone

ما سر العلاقات السورية – الأمريكية، ولماذا تبدو هذه العلاقات وكأنها على وشك الانفجار، ثم ما تلبث أن تهدأ وكأن شيئا لم يكن؟

يطرح الكثيرون في الشرق الأوسط هذا السؤال- اللُّـغز، بدون أن ينجحوا غالبا في العثور على إجابات شافية.

على رأس الذين يطرحون هذا السؤال المحيّـر، يوجد السياسيون المسيحيون اللبنانيون المعادون لسوريا، وعلى رأس رؤوس هؤلاء السياسيين، العماد ميشال عون، قائد الجيش اللبناني السابق.

فقد توّجه عون في النصف الثاني من شهر سبتمبر إلى واشنطن، حيث أدلى بشهادته أمام لجنة فرعية للكونغرس الأمريكي تناقش ما يُـسمى بقانون “محاسبة سوريا”.

ويُـذكر أن عضو مجلس النواب الأمريكي، إليوت انغل وضع هذا القانون في أبريل 2002، بهدف محاسبة دمشق على ما نُـسب إليها من اتهامات بارتكاب أعمال إرهابية، خاصة ضد قوات مشاة البحرية الأمريكية عام 1982.

لكن، وما أن انتهى عون من الإدلاء بشهادته التي اتهم فيها سوريا بدوره بالإرهاب، وطالب بانسحاب جيشها من لبنان، حتى هدأت عاصفة “محاسبة سوريا” فجأة. فلا المسؤولون الأمريكيون (بما في ذلك المحافظون الجدد) أوحوا أنهم يأخذون هذا القانون على محمل الجد، ولا الإعلام الأمريكي القوي أبدى أدنى اهتماما به.

وهكذا عاد الجنرال اللبناني السابق إلى منفاه في باريس فاضي اليدين، فيما الاستعدادات كانت تجري على قدم وساق في بيروت لتوجيه اتهامات الخيانة العظمى له.

ومرة أخرى عاد السؤال إياه ليطرح نفسه: لماذا انفجرت العلاقات ثم هدأت بين دمشق وواشنطن؟

تياران

ترد دوائر محايدة في العاصمة اللبنانية على هذا السؤال بالقول: إن السبب يعود إلى وجود تيارين في الإدارة الأمريكية حيال كيفية التعاطي مع سوريا، الأمر الذي يترك دوما العلاقات السورية – الأمريكية في حال من السيولة.

التيار الأول، الداعي إلى استخدام سياسية العصا القصيرة والجزرة الطويلة معها، يضم وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، ونائبه ريتشارد أرميتاج، ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس.

أما التيار الثاني المطالب بتغيير النظام في سوريا (بعد أن أسبغ عليها صفة “عضو الشرف” في “محور الشر”)، فيشمل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ونائبه بول وولفوفيتز، والعديد من المستشارين بينهم ريتشارد بيرل، ودوغ فيث وغيرهما. وإلى حد الآن، كانت الغلبة للتيار الأول.

فحين يقوم أنصار تغيير النظام مثلا باتهام سوريا بتسهيل تسلل المقاتلين ضد القوات الأمريكية إلى العراق ويهدد بمعاقبتها، يبادر التيار الثاني إلى التقاط الكرة للحصول على ما يمكن الحصول عليه من تنازلات سورية جديدة، وعندما يحصل على ما يريد، يتمكن بالتالي من مواصلة الإمساك بمفرده بالملف السوري. ولعل هذا ما يُـفسّـر جانبا من الصعود والهبوط في حرارة العلاقات بين الجانبين.

الاستراتيجية السورية

لكن هناك أيضا تفسير آخر له علاقة هذه المرة بالسوريين. فمنذ وصول إدارة بوش الحالية إلى البيت الأبيض عام 2000، والقيادة السورية تخشى أن تقوم هذه الإدارة، التي يُـسيطر المحافظون الجدد على توجهاتها العامة، بنسف كل التفاهمات السورية – الأمريكية منذ حقبة السبعينات إلى حدّ الآن، وهي (كما هو معروف) تفاهمات تتعلّـق بدور سوريا في لبنان وبدورها الإقليمي، إضافة إلى التفاهمات المتعلقة بالتنسيق الأمني والاستخباراتي.

وهذه الخشية تفاقمت بعد الإعلان الأمريكي عن “محور الشر”، ثم بعد أن قامت الولايات المتحدة بغزو العراق، إذ شكّت في سوريا بأنها ستكون (مع إيران) الثانية على لائحة الغزو أو تغيير النظام، وهو شّك عبـّر عنه الرئيس السوري بشار الأسد فور بدء غزو العراق، حين أبلغ صحيفة “السفير البيروتية” بأنه لا يستبعد البتة هذا الاحتمال، وحين شّبه الغزو الأمريكي للعراق بالوضع خلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، حين قُـتل مئات من مشاة البحرية في هجمات انتحارية.

ومؤخرا، طفت المخاوف السورية من مخططات المحافظين الجدد على السطح، حين كشف مرشح الرئاسة الأمريكي، ويسلي كلارك في كتابه الجديد “كسب الحروب الحديثة” عن وجود خطة حرب مُـدَّتُـها 5 أعوام تستهدف سوريا، إضافة إلى لبنان وإيران والسودان والصومال، في إطار الحرب الشاملة على الإرهاب و”الأنظمة المتشردة”.

وتقول الدوائر اللبنانية المحايدة هنا، إن كل الاستراتيجية السورية في هذه الفترة تقوم على “تقطيع الوقت” في انتظار الانتخابات الرئاسية الأمريكية، أملا منها برحيل طاقم المحافظين الحالي وقدوم الديموقراطيين مجددا إلى السلطة.

وتضيف هذه الدوائر أن المسؤولين السوريين توقّفوا مليا مؤخرا أمام الدراسة التي نشرتها مادلين اولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في دورية “فورين أفيرز” النافذة، والتي دعت فيها الولايات المتحدة إلى رفض مبدأ الحروب الاستباقية. وقد إعتبر السوريون ذلك بمثابة نفض يد ديموقراطية أمريكية من كل طروحات الإدارة الحالية، وهذا ما يجعلهم يأملون الآن بأن تمر العلاقات مع واشنطن “على خير” فيما تبقّـى من ولاية بوش، وبأن ترفع الإدارة المقبلة سيف تغيير الأنظمة عن رأس دمشق.

ويبدو أن تكتيك “تقطيع الوقت” يسير على ما يرام. ففاروق الشرع، وزير الخارجية السوري يبذل كل جهد ممكن لتقوية جناح باول على جناح رامسفيلد من خلال إبداء كل استعداد للتجاوب مع الطلبات الأمريكية، شرط أن تكون “واقعية ومعقولة”، على حد تعبيره، لا بل ذهبت بثينة شعبان، وزيرة المغتربين الجديدة إلى أبعد من ذلك بكثير، حين قالت إن بلادها “مستعدة لإرسال قوات إلى العراق، في حال التزم الأمريكيون برنامجا زمنيا للانسحاب، وأوكلوا عملية الإعمار هناك إلى الأمم المتحدة”.

لا تغييرات داخلية

يشعر السوريون الآن بأن وضعهم الاستراتيجي تحّسن بشكل ملموس. لماذا؟ لأن الورطة الأمنية الأمريكية في العراق، الناجمة عن تصاعد عمليات المقاومة ضد قواتها، أجبرت المحافظين الجدد على “كبح جماح” طموحاتهم الإقليمية في الشرق الأوسط، وهذا ترجم نفسه في تراجع حدة الضغوط الأمريكية على دمشق.

فبعد أن كانت هذه الضغوط تشمل ضبط الوضع على الحدود السورية – العراقية، ووقف دعم حزب الله والمنظمات الفلسطينية، وإحداث تغييرات سياسية واقتصادية سريعة، تكاد المطالب الأمريكية تقتصر الآن على الملف العراقي.

هذه التطورات الخارجية جعلت الرئيس السوري أكثر حرية في التعاطي مع الوضع الداخلي. فبعد أن كانت كل المؤشرات تدل على أنه سيستجيب للضغوط الأمريكية المطالبة بتقليص دور حزب البعث في السلطة، وبأنه “سيعلن الحرب” على الحرس القديم، إذ به يشكّل حكومة جديدة رئيسها البعثي المخضرم محمد ناجي العطري ، ومعظم أعضائها من البعثيين، لا بل زادت حصة حزب البعث في السلطة: 17 حقيبة من أصل 30، بعد أن كانت 19 حقيبة من أصل 35 في الحكومة السابقة.

إضافة إلى ذلك، وبرغم توقعات أخرى معاكسة، احتفظ الشرع بمنصبه في وزارة الخارجية، والعماد مصطفى طلاس (عميد الحرس القديم) بوزارة الدفاع. كانت هذه إشارة واضحة إلى أن التطورات الجارية في العراق، لم تؤثر على التوجهات الداخلية السورية أو على الأقل هذا ما أرادت القيادة السورية الإيحاء به.

أما بالنسبة للعملية الإصلاحية الشاملة نفسها، فلا يُـتوقّـع أن تعاود هذه المسألة طرح نفسها بالحدة التي كانت عليها خلال السنتين الماضيتين.

فحكومة العطري رفعت شعار “الإصلاح الإداري كمدخل أساسي للإصلاحات الأخرى، خاصة الفساد”. لكن المحللين يشكّكون كثيرا بأن يكون هذا هو المدخل الصحيح للإصلاح، خاصة بعد أن أثبتت تجربة حكومة ميرو السابقة بأن الإصلاح الاقتصادي نفسه، والذي يعتبر أهم من الإصلاح الإداري مستحيل من دون إصلاح سياسي.

ويعتقد المراقبون أن خيار الرئيس الأسد بتشكيل حكومة “غير ثورية”، أي حكومة أمر واقع، هو أيضا جزء من الاستراتيجية السورية الجديدة لـ “تقطيع الوقت”، ويشيرون إلى أن الرئيس الأسد بات على قناعة مؤخرا بأنه من المستحيل الإقدام على أي إصلاح جدي، طالما أن سيف المحافظين الجدد الأمريكيين مسلّط على رقاب الجميع في الشرق الأوسط.

فالأولوية هنا هي لـ “الحفاظ على البقاء”، وستبقى مُـسيطرة إلى ما بعد انتهاء انتخابات الرئاسة الأمريكية.

سعد محيو – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية