جدل “الإنقاذ” يعتمل على هامش الحراك الإنتخابي
عشية الإنتخابات الرئاسية في الجزائر، تتباين الآراء حول كيفية تصويت "الوعاء الإنتخابي" للجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة بين من يُلاحظ غزلا مُتبادلا بين بعض قادتها التاريخيين وعلي بن فليس المرشح المناوئ لبوتفليقة، وبين من يُؤكد أن الصفحة طويت تماما وأن أولويات الجزائريين تغيّرت اليوم جذريا.
نسي الجيل الجديد في الجزائر “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، التي تقرَّر حظرها في عام 1992 بعد فوزها بالغالبية في الدور الأول من الإنتخابات البرلمانية، التي جرت في أعقاب “ربيع الجزائر”، وهي إشارة إلى المظاهرات التي أطاحت بنظام الحزب الواحد في أكتوبر 1988.
حينها، تقدّم حزب “الإنقاذ” بشكل واضح على “جبهة التحرير الوطني” (الحزب الحاكم) و”جبهة القوى الاشتراكية” العِلمانية، غير أن قرارا قضائيا جعل منها تنظيما محظورا، قبل أن يُصدّق على القرار مجلس الدولة، فاتحا بذلك صفحة مُؤلمة من المُطاردات والمُلاحقات لقادة “الإنقاذ” وكوادرها، في ما بات يُعرف بـ “العشرية السوداء” (1992 – 1999).
ولما وصل الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة إلى سدّة الحكم، أطلق سياسة “الوِئام الوطني” وبنى على الهُدنة التي توصّل لها الجيش النظامي مع “الجيش الإسلامي للإنقاذ” لإجراء استفتاء، حشد من خلاله تأييدا شعبيا لطيِّ صفحة الحرب الأهلية. غير أن الكُتلة الإنتخابية التي تملكها “جبهة الإنقاذ”، ظلت بمنأىً عن المعارِك الإنتخابية التي خِيضت على مدى رُبع قرن، ما جعل كثيرا من قادتها ورموزها يرحلون عن عالمِنا أو يلوذون بالصّمت.
مع ذلك، بقي رئيس “الجبهة” عباسي مدني، المقيم في الدوحة، ينتقي دوْما اللحظة المناسبة في أوقات دقيقة، وإن كانت مُتباعِدة، لإعلان موقِف أو الإدلاء بتصريح يأمَل من ورائه توجيه قواعِد حزبه، فيما انتهج نائبه علي بن حاج، الذي بقي في الداخل، طريق خوْض المعارك الجُزئية مع رجال الشرطة، من أجل إلقاء خُطبة في مسجد أو التظاهر في الشارع، وهي محاولات دائما ما كان يُقضَى عليها في المهْد.
دعوات للمقاطعة.. وأخرى لتأييد بن فليس
في ظلّ الحملة الإنتخابية الرئاسية التي شهدتها البلاد استعدادا لاقتراع الخميس 17 أبريل 2014، والتي اتَّسمت بالبرود وعُزوف الجمهور عن حضور اجتماعات المرشّحين، بدت مُغازلة ما تبقّى من قاعدة “الإنقاذ”، الزاوية الوحيدة تقريبا التي اتّجهت إليها بَوْصلة المحلِّلين وكاميرات الإعلاميين، خاصة أن مواقِف قادة الجبهة أتت هذه المرة مُتضاربة ومُتباعدة.
فلم تمضِ أربعٌ وعشرون ساعة على إعلان عباسي مدني من منفاه الاختياري مقاطعة “الإنقاذ” للإنتخابات المقبلة، مُعلِّلا ذلك بكونها “انتخابات محدَّدة النتائج سلَفا لصالِح مرشحٍ عاجز”، على حد قوله، حتى أكّد أعضاء بارزون في مجلس شورى الجبهة دعمهم للمرشح المنافِس الرئيسي لبوتفليقة علي بن فليس. وعزا هؤلاء القياديون السابقون مُساندتهم لوزير العدل الأسبق، إلى الحرص على “مواجهة الفِتنة وغلْق بابها”، نافين أن يكون موقِفهم “تحاملا على أخينا المريض عبد العزيز بوتفليقة، الذي من واجبنا عِيادته والدّعوة له بالشفاء وحُسن الخاتمة”.
أكثر من ذلك، حاول هؤلاء القياديون تأصيل موقِفهم فِقهِيا، معتبرين أن “الرئيس بوتفليقة مريض وعاجز والله رفع عنه كلّ التكاليف الشرعية، من صوم وحج وصلاة وجِهاد، فما بالكم بإمارة الأمة؟”. ورأوا أن ترشيحه لولاية رابعة “تجاوز على حُكم الله وتعسيرا على الرجل وتضييقا عليه”، مُوجّهين نداء لمن وصفوهم بـ “عقلاء الأمة”، لتجنيد الشعب من أجل “الإصطِفاف وراء رجُل متمكّن من قِواه وتتوافر فيه شروط القيادة الحكيمة”، في إشارة إلى بن فليس.
غير أن محمد علالو، مدير حملة بن فليس نفى في تصريحات صحفية أن يكون هذا الأخير يعمَل على إحياء “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، مؤكدا أن التقارب مع بعض الأحزاب الإسلامية، يندرج في إطار الإنفتاح الذي باشَره بن فليس إزاء جميع التيارات. وأوضح أن المرشّح الذي بات غريما لبوتفليقة، يرحِّب بأعضاء “الإنقاذ” غيْر المتورِّطين في أعمال عُنف سابقة، لأنه “لا يُمكن إقصاء جزائريين على أساس الإنتِماء”، مثلما قال. وكانت أحزاب جزائرية بينها أحزاب إسلامية، مثل حزب الإصلاح الوطني وحركة العدالة والبناء، قرّرت دعم بن فليس في المعركة الإنتخابية.
محمد علالو، مدير حملة المرشح علي بن فليس
لا يُمكن إقصاء جزائريين على أساس الإنتِماء
عودة “جبهة الإنقاذ” مثار جدل
في الأثناء، لُوحظ أن بن فليس ليس المرشّح الوحيد الذي غازل الوعاء الإنتخابي لـ “الإنقاذ”، بل اتّجه مرشّحون آخرون إلى تقديم وُعود في تجمّعاتهم الإنتخابية بتسوية وضعِيات المتضرِّرين من مأساة “العشرية السوداء”.
وانعكست محاولة الإستمالة الجماعية هذه، انقساما لدى النخب، ففيما رفض شق ممّن يُنعتون بـ “الإستِئصاليين” أيّ ظهور علني لـ “جبهة الانقاذ” على الركح السياسي، باعتبارها جماعة محظورة، اعتبر آخرون أنه ليس هناك قرار قضائي سرمدي، أي بلا سقف يُنهي مفعوله، مُشيرين إلى أنه في وُسع أعضاء الجبهة معاوَدة تشكيلها تحت مسمّى جديد. وفي هذا الإطار، قال المحلل السياسي رشيد قريم لـ swissinfo.ch: “إن خرجات الشيخ عباسي مدني مدروسة من حيث التوقيت، وهي طريقة للسيطرة على المجال السياسي والتذكير بأنه ما زال موجودا”.
بيْد أن المحامي والأكاديمي نصر الدين لزار، اعتبر أن “جبهة الإنقاذ” تمّ حلّها منذ عام 1992 وأصبحت جُزءا من التاريخ، “وهو قرار لا يمكن التراجُع عنه”. وأكّد أن قرار الحظر ذاك، اقترن بقرار آخر من المَحكمة بحجْر العمل السياسي على كلٍّ من عباسي مدني وعلي بن حاج. وانتقد بعض التشكيلات السياسية، التي قال إن مطالبتها بمراجعة الإجراءات السابقة في حقّ “الانقاذ”، توقظ نزعات الثأر والإنتِقام. لكنه اعتبر أن الخيار الوحيد أمام أعضائها، يتمثل في تشكيل حزب سياسي باسم جديد، عدا مدني وبن حاج.
أما قريم، فاستبعد إحياء “الإنقاذ”، مشيرا إلى أن الأصولية تتراجع بشكلٍ واضح على الساحة الدولية، ولاحظ أن رموز “جبهة الإنقاذ” يعودون اليوم “بمواقِف أكثر اعتِدالا من الماضي، “لكن هذا ليس من طبْعهم ولا في مصلحتهم، فطبيعتهم عنيفة”، على ما قال. ولوحظ أن هذا الموقِف المُعترض على عودة “الإنقاذ”، تردّد أخيرا لدى بعض التيارات العِلمانية ومنها حركة “صوت الفنانين”، التي أقامت اجتماعا يوم الخميس 3 أبريل 2014 في وسط مدينة تيزي وزو، عاصمة منطقة “القبائل”، انتقدت فيه ما سمّته “عودة صائدي الأنوار”، في إشارة إلى محاولات ردّ الإعتبار لـ “الإنقاذ”، مع تجديد معارضتها انتخاب الرئيس بوتفليقة لولاية رابعة.
الدكتور العياشي عنصر، باحث
الجبهة كانت تجمع الأصوات من الجمهور الواسِع، أما اليوم فلم تعد فيها سوى القيادات
مجرد وعاء خاوٍ؟
هناك فريق آخر من الملاحظين، لا يمكن تصنيفه بين مؤيِّد لعودة “الإنقاذ” أو معارض لها، بل هو يستقرِئ المشهد السياسي في سيرورته التاريخية على مدى العقود الثلاثة الماضية، ومن هؤلاء المحلل السياسي الدكتور العياشي عنصر، الذي قال لـ swissinfo.ch، إن القاعدة الانتخابية للإسلاميين “منقسِمة بين عدّة تيارات وتشكيلات حِزبية مُتصارِعة، أما ما تبقّى من “الإنقاذ”، فهو بلا أهمية من حيث الوزْن الإنتخابي”.
واعتبر عنصر، الذي كتب دراسات سياسية عدّة، بينها دراسة عن “الحركات الإحتجاجية في الجزائر”، أن الموقف الرسمي لـ “جبهة الإنقاذ” غيْر واضح بسبب التضارُب في مواقف قِياديِّيها. وبناءً على ذلك التشخيص، رأى أن محاولات المرشّحين لمُغازلتهم، لا جدوى منها لأن الكلام عن قاعدة “جبهة الإنقاذ” لا أساس له في الواقِع، “لأن الجبهة كانت تجمع الأصوات من الجمهور الواسِع، أما اليوم، فلم تعد فيها سوى القيادات، أما القاعدة، فلم تعد لها ثقة في القيادة” على ما قال. لكنه استدرك موضِّحا أن “الإسلاميين عموما وليست “الإنقاذ” فقط، تراجعوا كثيرا، “خصوصا بعدما أصبح الناس الآن في الجزائر يرفضون الأحزاب ويعزفون عن السياسة، لأنهم أصيبوا بخيبة أمل كبيرة من السياسة والسياسيين”.
وأيا يكُن حجْم الوِعاء الإنتخابي للإسلاميين، فالأرجح أن مدار الصِّراع لن يكون حول الإقتراع يوم 17 أبريل الجاري، وإنما حول النتائج والإستتباعات. فجميع المؤشرات تدلّ على أن خصوم بوتفليقة سيطعَنون في نتائج الإنتخابات، التي ستفرضها “النومونكلاتورا” الماسِكة بمقاليد الحُكم منذ استقلال الجزائر، وأنهم سيخوضون معركة مفتوحة مع صُقور المُعسكر المؤيِّد للرئيس بوتفليقة، وفي مقدِّمتهم شقيقه سعيد. وفي المقابل، سيعمل الفريق الثاني على امتِصاص الأزمة السياسية من خلال تعديل الدستور وإنشاء منصِب نائب الرئيس، الذي سيُسند على الأرجح إلى مُولود حمروش، ليُكمل الولاية في حالة غِياب الرئيس المريض.
اتهم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقه المرشح لولاية رابعة، يوم السبت 12 أبريل 2014 عبر التلفزيون خصمه علي بن فليس بأنه دعا إلى العنف خلال الحملة لانتخابات 17 ابريل.
وتساءل بوتفليقة خلال استقباله وزير الخارجية الاسباني خوسيه مانويل غارسيا -مارغالو مارفيل أن “يُحذر مرشحٌ الولاة والسلطات للإنتباه الى عائلاتنا وأطفالنا في حال حصول عمليات تزوير. فماذا يعني هذا؟”. وكان يشير الى تصريح بهذا الخصوص ادلى به بن فليس للتلفزيون حول مخاطر التزوير.
واعتبر بوتفليقه ايضا أن الحملة الإنتخابية التي انتهت الاحد 13 أبريل “خلت احيانا من اللياقة”، وقال: “كانت هناك دعوات للعنف وتصرفات غير لائقة ومنافية للديمقراطية”. وفي رد على الوزير الاسباني، الذي اعتبر أن هذه الحملة “قاسية”، أجاب بوتفليقة إنها كذلك وأن “هناك مدونة أدبيات لا يجوز الإبتعاد عنها”.
وفي اتصال اجرته وكالة فرانس برس مع حملة بن فليس في وهران (غرب)، لم يشأ المصدر الرد على الفور. وكانت حملة بن فليس نددت في بيان بـ “عنف مستغرب” وبـ “خطر كبير” من قبل خصم اتهمه ايضا بالعنف. واتهمت حملة بوتفليقة انصار منافسه الرئيسي علي بن فليس بارتكاب اعمال عنف. وقالت ادارة حملة بوتفليقة في بيان تلقت وكالة فرانس برس نسخة منه انها اخذت علما باستمرار السلوك العنيف من جانب اطراف معادين لحسن سير الحملة الانتخابية، محملة “ممثلين لبن فليس” مسؤولية ارتكاب أعمال عنف.
من جهته، اكد بن فليس خلال حملة قام بها في غرب الجزائر أحد معاقل الرئيس المنتهية ولايته، “اذا انتخبتُ، فلن اجلب أخوتي وأصدقائي الى الرئاسة”. وبتأكيده انه لا ينوي جلب “اخوته” و”اصدقائه” الى الرئاسة “ليعهد اليهم بمناصب”، يستهدف بن فليس بشكل مباشر الرئيس بوتفليقة الذي يحيط به عدد من أقربائه وخصوصا شقيقه الأصغر سعيد (57 عاما) مستشاره الخاص، الذي تقول الصحف المستقلة إنه “يتمتع بصلاحيات واسعة”. وقال بن فليس في وهران إن “زمن السلطة الفرعونية والمستبدة ولّى”، مُعبّرا عن أسفه لمجتمع ليس أمام الشباب فيه “سوى الإختيار بين المخدرات والهجرة”.
(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ.ف.ب. بتاريخ 13 أبريل 2014)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.