مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

صِـراع الإرادة والرؤية في فلسطين

أحد حراس الرئيس محمود عباس كما بدا وراء باب أحد المكاتب داخل مقر رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية في مدينة رام الله بالضفة الغربية يوم 19 ديسمبر 2006 Keystone

بين لحظة وأخرى، يتغير الوضع الفلسطيني الداخلي تغييرا جذريا، من انفتاح سياسي، إلى مواجهات مسلحة بين نشطاء حماس وفتح، وما يتبع كل منهما من قوات أمنية رسمية أو واقعية..

.. ثم تأتي تدخّـلات خارجية، تصُـب في توجه معيّـن، وينتهي الأمر بتهدئةٍ يعود بعدها المَـدّ والجزر مرة أخرى..

هذه التغيّـرات المتلاحقة، يفوح من ورائها صِـراع على السلطة وآخر على التوجّـه الاستراتيجي العام، وثالث تبرُز منه نَـزعة إقصاء من طرف لآخر، تبدو مستحيلة الحدوث، كما أنها باهظة الثمن، ورابع، ثمة محاولات انتقام تحفِّـزها دوافع شخصية لمن فقدوا السلطة في الانتخابات التشريعية، التي جرت في شهر يناير 2006.

فرحة إسرائيلية

وفي كل ذلك، تظهر الفرحة الإسرائيلية، التي لا يخفيها أحد في تل أبيب أو في القدس المحتلة، وهي فرحة ظاهرة وكامنة، لأن الفلسطينيين، ببساطة شديدة، يقدّمون أسوأ صورة عن أنفسهم للعالم الذي يقف بجانبهم.

فبدلا من شعب موحّـد ضدّ الاحتلال، تتبارى منظماته الأساسية في مواجهات وصِـدامات على كعكة، لم تقدّم بعدُ، حسب قول الرئيس المصري حسني مبارك، وبما يؤكّـد من وِجهة نظر تل أبيب، مقولة أن لا شريك فلسطيني يعتد به من أجل التفاوض وبناء السلام، ومقولة أخرى، تضع العلّـة على الفلسطينيين أنفسهم، وتلغي مسؤولية الاحتلال عمّـا لحِـق بفلسطين وبأهلها، على مدار أكثر من ستة عقود مُـتتالية، لا أفُـق ظاهر لإنهائها قريبا.

الأحداث.. سريعة ومتلاحقة ومؤلمة

سرعة الأحداث وتلاحقها وتبدّلها من حال إلى آخر، بدت في أقل من خمسة أيام. فمن دعوة الرئيس عباس لانتخابات رئاسية وتشريعية مبكّـرة يوم السبت 16 ديسمبر الجاري، أثارت ردود فعل متضاربة، أبرزها التشكيك في شرعية الدعوة من الناحية الدستورية، وتشكيك آخر في إمكانية إجراء الانتخابات دون موافقة حكومة حماس عليها، إلى خطاب تصالحي من رئيس الوزراء إسماعيل هنية بعد ثلاثة أيام، أكّـد فيه على أولوية حكومة الوِحدة الوطنية والدعوة إلى إنهاء المظاهر المسلحة والتحقيق فيما جرى بكل شفافية.

وما بين الدعوتين، جرت صدامات بين مسلحي فتح وحماس في الشارع، رافقها نزول القوات التنفيذية، التابعة لوزارة الداخلية وفي مواجهتها قوات أمن الرئاسة، وفي الخلف من ذلك، عمليات خطف وقتل متبادل لنشطين من هنا وهناك، ورُعب في الشارع وخوف من تدهور أكبر يطيح بالقضية وبأهلها معا.

تقلبات من شأن إلى آخر

وعلى وقع إطلاق النار، جاءت التدخلات، عربية وإسلامية، تمثلت في نشاط مكثف، قام به أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي، أكمل إحسان أوغلو، وجهود الوفد الأمني المصري، والتي انتهت بالتوصّـل إلى أمن له أفق سياسي، أعاد الحديث مرة أخرى عن حكومة الوحدة الوطنية، التي باركها الرئيس عباس علَـنا، في وقت ظهرت فيه تكهّـنات بأن لقاءً سريعا قد يُـعقد بينه وبين رئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت، الذي زار الأردن والتقى عاهلها بصورة مفاجئة، حيث تم بحث موضوع السماح بدخول القوات الفلسطينية الموجودة على الأرض الأردنية إلى الضفة، تدعيما لسلطة الرئيس عباس.

أما اللقاء المُـرتقب بين عباس وأولمرت، فقد يشهد بدوره تفاهمات مالية وأمنية، من شأنها أن تدعم سلطة عباس أمام الشارع الفلسطيني وتخفف من وطأة الحِـصار المفروض عليه.

هذه الصورة الدامية حينا والمنفرجة، نسبيا، حينا آخر، وهذا التقلب من أفق مسدود إلى آخر مفتوح، جزئيا، تمثل إشكالية مركّـبة ومعقّـدة تجمع بين عقائد وتصورات ذهنية جماعية وارتباطات حزبية وعملية في آن واحد، وفي جوهرها وأصلها، صراع إرادات حول من يُـصيغ الحاضر والمستقبل. والحق هنا، أنها ليست إرادات فلسطينية خالصة. فهناك إرادات أخرى لها وجود ظاهر ولا يخفي على أحد.

فهناك إرادة إسرائيل، كقوة احتلال تكبس على الأنفاس الفلسطينية، مدعومة بإرادة أمريكية وأوروبية، وهناك إرادات تأتي من وراء الحدود، بعضها عربي يذهب إلى حدّ الدعم والمساندة للوفاق الفلسطيني ويعمل على رأب الصّـدع أولا بأول، ويمثل تيار التوافق، وهناك إرادات إقليمية تمثل قوة كبْـح وتعطيل، وتقوم بمساندة الجزء الفلسطيني ممثلا في منظمات فلسطينية صغيرة أو متوسطة، ولكن حضورها في الشارع الفلسطيني يوفّـر لها مساحة تأثير ظاهر.

إرادة فلسطينية موزعة

أما الإرادة الفلسطينية نفسها، أو بالأحرى جزأها الأكبر، فهي موزّعة على إرادة الرئيس، ومن ورائه حركة فتح بشقّـيها، السياسي والعسكري المتداخل والمنفصل في آن واحد عن القوات الأمنية الرسمية التابعة لسلطة الرئيس، وثانيا، إرادة رئيس الوزراء هنية وتسنده في ذلك حركة حماس بكل تُـراثها العقيدي وتغلغلها في الشارع، في غزة أو في الضفة الغربية، وشرعيتها الانتخابية. ولكل من هاتين الإرادتين مشروعه السياسي والعقدي الخاص به، مشفوعا بصورة أو بأخرى بامتداد خارجي.

ففي رؤية فتح ومشروعها السياسي والاستراتيجي، تكمن البداية في التكيّـف مع ما يوصف بالشرعية الدولية، وكل ما تطالب به القوى الكبرى، صاحبة القرار الدولي المتعلق بالقضية الفلسطينية، ذلك أن مشروع السلطة الوطنية الفلسطينية هو نفسه مشروع دولي بامتياز، والذي يُعد بمثابة مرحلة وسيطة بين عملية التحرر الوطني وبين إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، حيث تعني السلطة هنا كيانية مؤسسية قيْـد التشكيل أو مشروع دولة قيد التحضير.

وامتدادا لذلك، يعد التعاون والتكيف مع المطالب الدولية، مسألة أساسية في استراتيجية فتح وكل المؤسسات الحزبية أو التابعة للسلطة التي تُـسيطر عليها.

واستطرادا، فإن معارضي هذه الاستراتيجية يُـعدّون لدى فتح معارضين للمشروع الوطني نفسه، ويجب إمّـا إقصاءهم أو محاصرتهم أو إبعادهم عن دائرة التأثير في القرار الفلسطيني.

هذه الرؤية الفتحاوية، ليست محل ترحيب كامل، لا من الشارع الفلسطيني ولا من الفصائل الأخرى، فهي رؤية مشكوك فيها لاعتبارين، أنها جُـرّبت لمدة عقد كامل تحت سقف عملية أوسلو وخطة خريطة الطريق، ولم تؤدِّ إلى شيء أكثر من سلطة وطنية مهدّدة وغير مستقرة ومحاصرة. وثانيا، أنه لا تتوافر ضمانات جدّية بأن العودة إلى الطريق نفسه، قد تجلب منافع أكبر على القضية الفلسطينية أو تقود إلى الحُـلم المشروع، أي الدولة المستقلة.

رؤية حماس المنافسة

أما رؤية حماس المنافسة، سواء قبل دخول السلطة أو بعدها، فتقدم بديلا آخر أقل ما يمكن وصفه، بأنه التعايش مع الضغوط من أجل إفشالها وتقديم البديل المتمثل في عقيدة تَـمزِج بين المبادئ الدينية وبين الحركية السياسية، الساعية إلى إظهار جوانب الممانعة والرفض من جانب، واستثمار الشعبية والشرعية الانتخابية والسلوك العام والشخصي النظيف من جانب آخر.

لكن قلة الخبرة في مجالات التواصل مع المؤسسات الدولية والحكومات وإدارة الحكم، لها مردودها السلبي، كما أن عدم تفهّـم طبيعة الالتزامات الدولية الحكومية، لاسيما من ناحية توارُث الحكومات المتعاقبة لها، حتى لم تكُـن محلّ قبول من الحكام الجدد، فضلا عن التداخل العضوي بين الحركة والحكومة، ناهيك عن المعارضة الدولية والإقليمية لهذه الرؤية، وضعها تحت اختبار هائل، يبدو الخروج منه بأقل الخسائر الممكنة، مرهونا أساسا بتوافق وطني عريض قائم على تنازلات متبادلة، دون أن يعني ذلك بالضرورة التنازل الكامل عن الثوابت.

بعبارة أخرى، إن معضلة حماس الراهنة تكمُـن في التكيف بين الثوابت التي قامت عليها الحركة، وبين الواقع المعقّـد، سياسيا واستراتيجيا.

إرادات متضاربة

ووفقا لهذه الخريطة من الإرادات المتصارعة، والأفكار والرؤى المتناقضة، تبدو الحقيقة ساطعة جلية. فما يحدث في فلسطين المحتلة، هو صراع إرادات محلية وإقليمية ودولية في آن واحد.

وبما يشكّـل شفرة تستعصي على الفك وإعادة التركيب، ما لم يحدث قدر من التوافق الضمني الداخلي، المصحوب بظهير خارجي، إن لم يقبل تماما ما يصل إليه الأطراف المحلية من تفاهمات، فعلى الأقل لا يعارضها أو يعمل على تعطيلها.

وفى هذا السياق، تبدو تصريحات وزير الخارجية الروسي لافروف صائبة، حين اتهم جِـهات خارجية بأنها “تدخلت بشكل متعمّـد ومقصود، لإحباط الحوارات الفلسطينية حول تشكيل حكومة وحدة وطنية”، ومعتبرا أن “فرض عزلة على بلد أو قوة سياسية، يعني وضع عراقيل أمام إعادة إطلاق عملية السلام”.

ومع ذلك، يمكن التأكيد على أن مسؤولية الأطراف الفلسطينية تظل الأكبر من زاويتين، أنها صاحبة القضية الأصلية، وإليها يعود القرار، إن انفراجا أو تأزما. وثانيا، أن فرصة إيجاد توافق وطني عريض، ليست مستحيلة، بل هي ممكنة وسبق التوصّـل إليها بعد مُـعاناة وأخذ ورد كبيرين، وهو ما تجسِّـده وثيقة الوفاق الوطني، والتي كَـتب أصلها مجموعة من القياديين الفلسطينيين المشهود لهم بالوطنية والتضحيات، سواء من هم في السجون الإسرائيلية أو خارجها.

هذا التوافق الوطني على طبيعة المرحلة الراهنة وكيفية التعامل مع معطياتها، لا يعني بالضرورة التخلي التام عن الثوابت الذاتية لكل طرف، بقدر ما يعني الملاءمة والتكيف النسبي من أجل قضية ضحّـى كثيرون من أجلها، وما زال هناك الكثير من التضحيات موجودا في الأفق.

د. حسن أبوطالب – القاهرة

دفعت الاشتباكات المسلحة والغارات الجوية والخطف والاقتصاد المتهاوي، كثيرا من الفلسطينيين إلى التفكير في الفرار من قطاع غزة. المشكلة هي، أنه لا توجد أمام أحد وجهة للفرار.

وفي الوقت الذي يشترك فيه القطاع الساحلي الذي يأوي 1.4 مليون فلسطيني في مسافة قصيرة من الحدود مع مصر، فان المعبر كان مغلقا بشكل دائم تقريبا في الشهور الأخيرة، وتقول إسرائيل إن بواعث القلق الأمنية هي السبب، وباقي القطاع، إما محاط بالبحر أو بإسرائيل ذاتها، ولا يستطيع معظم سكان غزة التوجه إليها. وأفضل الآمال، هو العثور على طريقة للذهاب إلى مصر، إما للبقاء هناك أو للبحث عن ملجأ مؤقت في دولة ثالثة.

ولمّـا كان أكثر من نصف سكان غزة مصنفين بالفعل كلاجئين لدى الأمم المتحدة، فإن هذا يعني أن أولئك الذين يحاولون الخروج سيكونون لاجئين يطلبون اللجوء.

قال عبد السلام (34 عاما) فني الكمبيوتر في مدينة غزة، إنه يفكر بالفعل في المغادرة لكن إلى أين يذهب..لا توجد دولة تقبل أمثاله، وأضاف أنه يريد أن يفعل ذلك من أجل سلامة أطفاله وأنه سيصاب بالجنون إذا أصابهم مكروه.

وفي الوقت الذي يصمد فيه وقف إطلاق النار المؤقت بين النشطاء المتنافسين في غزة بعد عدة أيام من الاشتباكات، فإن سكان غزة يخشون أن تكون مسألة وقت فقط قبل أن تنهار الهدنة، وهم يعتزمون الفرار من الفوضى حتى ولو كانوا لا يعرفون أية دولة من المرجّـح أن تستضيفهم على أساس دائم وأن تأشيرات الدخول نادرا ما تصدر للاجئين الفلسطينيين.

وقال بهاء بلوشة (36 عاما)الضابط الذي فقد ثلاثة من أطفاله في الشهر الحالي، عندما فتح مسلحون النار وهم بالسيارة أمام مدرستهم، إنه يتفهم حاجة الفلسطينيين إلى الهرب. وأضاف أن المواطن الفلسطيني في غزة خائف، لأن أطفاله قد يصابون، لذا، فإن الناس يفكرون في الرحيل لكن أين يذهبون؟

وقال عقيد المخابرات، الذي يعتبر وثيق الصلة بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، إنه بالنسبة له، فإنه لا يفكر في الرحيل لأنه لا يزال في حالة صدمة. فقد أسهم مقتل الأطفال الثلاثة، إلى حد كبير، في تصاعد التوتر في الآونة الأخيرة.

كما أدى العنف، الذي يصل إلى حد الفوضى، إلى قتل 10 أشخاص على الأقل في الأسبوع الماضي، مما دفع بالبعض إلى التعبير عن خِـشيتهم من أن تكون غزة قد تحولت إلى دولة فاشلة بلا قانون، مُـحاطة بالأسوار من كل جانب.

ومع ارتفاع البطالة الى حوالي 65%، أصبح الوضع بعيدا جدا عن الآمال التي جاشت في أغسطس من العام الماضي، عندما بدأت إسرائيل في سحب قواتها ومستوطنيها من القطاع بعد 38 عاما من الاحتلال، وكان المأمول وقتها أن تصبح غزة نموذجا لدولة فلسطينية مستقلة إلى جانب الضفة الغربية. لكن هذا الاحتمال أصبح الآن بعيدا جدا.

وسام رباح (26 عاما)، الذي يعمل في شركة لتأجير السيارات، يقول إنها تضطر أحيانا إلى إغلاق أبوابها عدة أيام، لأن حتى الغابات لها قوانينها، لكن غزة غابة بلا قانون. وقال، انه يود، لو يستطيع الانتقال حتى إلى رام الله، المدينة الرئيسية في الضفة الغربية المحتلة، لكن الإسرائيليين لن يعطوه تصريحا بذلك.

(المصدر: تقرير لوكالة رويترز بتاريخ 21 ديسمبر 2006)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية