مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الحربُ في مالي بين المُنزلقات والتفاهُمات

صورة التقطت يوم 20 فبراير 2013 ووزعها مكتب الجيش الفرنسي للإعلام السمعي البصري يوم 6 مارس 2013 طائرة بدون طيار تابعة للقوات الجوية الفرنسية في قاعدة عسكرية في نيامي عاصمة النيجر لدى عودتها من مهمة فوق الأراضي المالية Keystone

بدأت الأقدام الامريكية تغرق برمال الصحراء الإفريقية، وبعد إيفاد مائة طائرة بدون طيار في شمال النيجر، قررت واشنطن إرسال مائة جندي لتأمين الإحتياجات اللوجيستية لهذه الطائرات، دون أن يظهر السبب الكامن وراء اتخاذ القرار الامريكي، باستثناء ملاحقة عناصر تنظيم القاعدة في منطقة الساحل والصحراء في معمعة الحرب الفرنسية عليه في مالي.

ويوم الجمعة 8 مارس 2013، أعلن الرئيس الأمريكى باراك أوباما أن حوالى مائة عنصر من الجيش الأمريكى سيتم نشرهم فى النيجر، من أجل إقامة قاعدة عسكرية “لتسهيل تبادل المعلومات الإستخباراتية مع القوات الفرنسية التى تقاتل المتمردين الإسلاميين فى مالى، وكذلك الشركاء الآخرون فى المنطقة”. كما أشار أوباما إلى أن القوات الأمريكية التي تم نشرها مزودة بالأسلحة من أجل “توفير الأمن والحماية الخاصة بالطائرات” التي ستزود فرنسا بمزيد من المعلومات الإستخباراتية عن المسلحين الذين تواجههم فى مالى، المجاورة للنيجر.

الأوساط الامريكية أفادت أن نشر الطائرات والجنود في النيجر يأتي فى إطار تعزيز الولايات المتحدة جهودها للحد من انتشار تنظيم القاعدة والجماعات المنتمية له فى هذه المنطقة المضطربة، كما تعكس رغبة أوباما التي أعلن عنها منذ انتخابه رئيسا للولايات المتحدة فى مكافحة التطرف دون المشاركة بأعداد كبيرة من القوات البرية الأمريكية.

في الأثناء، تشير نفس الأوساط إلى أن مهمة القوات قد تتسع بمرور الوقت، لكي لا تقتصر على جمع المعلومات الإستخباراتية الأمريكية فحسب، وإنما للقيام بمهام خاصة لتعزيز قوات الأمن فى النيجر، كما أن تطور تواجد القاعدة فى جمهورية النيجر يشير إلى إمكانية أن تستخدم هذه الطائرات فى نهاية المطاف من أجل “شن غارات جوية”.

أسفرت معارك عنيفة في جبال ايفوقاس بشمال مالي يوم الثلاثاء 12 مارس 2013 عن مقتل جندي تشادي وستة جهاديين، وفق ما أعلنت هيئة الأركان التشادية في بيان.

وأورد البيان “اليوم 12 مارس، خاضت القوات التشادية الناشطة في مالي وفيما كانت تقوم بعملية تمشيط، مواجهة مع جهاديين (…) في جبال ايفوقاس (…) سقط قتيل وجريح في صفوف الجيش التشادي وقتل ستة جهاديين وتم اعتقال خمسة”.

وبذلك، يرتفع إلى ثلاثين عدد الجنود التشاديين الذين قتلوا في هذه المنطقة بمالي.

وبعد بدء العملية العسكرية الفرنسية في مالي في 11 يناير 2013، نشرت تشاد نحو الفي عنصر وتكبدت أكبر خسارة لها يوم 22 فبراير بمقتل 26 من جنودها في جيال ايفوقاس.

وتشكل القوات التشادية جزءا أساسيا من القوة الإفريقية المنتشرة في مالي.

(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ ف ب بتاريخ 12 مارس 2013)

استراتيجية جديدة

في تصريحات لـ swissinfo.ch، يلاحظ الموساوي العجلاوي، الخبير الإستراتيجي المغربي بالشؤون الافريقية ورئيس مركز الدراسات الافريقية بجامعة محمد الخامس بالرباط أن نشر طائرات دون طيار في إفريقيا “يدخل في سياق الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، المرتبطة بوصول أوباما إلى الحكم، التي تعتمد تقنيات الحرب الجديدة من مراقبة دقيقة للمناطق التي تعتبرها الإدارة الأمريكية مهددة للسلم والأمن في العالم، باستخدام طائرات دون طيار سواء للمراقبة التفصيلية أو لتدمير أهداف معينة”.

في السياق نفسه، يوضح العجلاوي أن إقامة قواعد لهذه الطائرات في النيجر (في محيط العاصمة نيامي)، مع ما تتطلبه من تأمين على الأرض “ينسجم مع السياسة الأمريكية في مجال الدفاع الخارجي”، كما أن رفض واشنطن المشاركة في عمليات عسكرية في جبهات إفريقية  يفسر اعتماد الأمريكيين على التقنية الجديدة التي “أثبتت فعالياتها في أفغانستان وباكستان واليمن”.

في الواقع، لم يكن وصول القوات الأمريكية إلى النيجر مفاجئا، فقد سبق أن نشرت صحيفة “واشنطن بوست” في اغسطس 2012 خطة سرية أمريكية لنشر قواعد لطائرات بدون طيار في منطقة الساحل والصحراء، وفي أكتوبر 2012 عُقدت اجتماعات، قيل إنها غير رسمية، بين مسؤولي الدفاع في الولايات المتحدة وفرنسا، أو ما يسمى في الأعراف الدبلوماسية باجتماع الخبراء، تمحورت النقاشات فيها حول “مسألة الأمن في منطقة الساحل” الإفريقي.

الخبير المغربي اعتبر أن الإعلان عن وجود قواعد أمريكية في النيجر يُدخل النصف الشمالي من إفريقيا في دائرة المراقبة الميليمترية لإدارة الدفاع الأمريكي بواسطة تقنيات عسكرية يبدو أن الأمريكان وحدهم قادرون على استخدامها على نطاق جغرافي قاري، وأشار في هذا الصدد إلى تقارير وردت من شمال مالي تتحدث عن إسقاط الجماعات الجهادية يوم 30 يوليو 2012 لطائرة بدون طيار فرنسية (من طراز Harfang) رغم تكذيب مسؤول في وزارة الدفاع الفرنسية، منوها إلى أن فرنسا لا تملك سوى أربع طائرات بدون طيار من الحجم الكبير، وأن دولا كثيرة تستخدم هذ الصنف من الطائرات بدون طيار لكنها صغيرة وتستخدم للتصوير فقط، كما أنها تحلق على علو منخفض وتبقى مردودياتها الإستعلامية محدودة.

العجلاوي أضاف بُعدا اقتصاديا للقرار الأمريكي ورأى فيه إعلانا عن تسويق لصناعة أسلحة أمريكية للأزمنة المقبلة. ففرنسا بدورها تشتري هذا النوع من الطائرات التي تتحكم في إنتاجه دول قليلة جدا كالولايات المتحدة وبريطانيا إضافة إلى إسرائيل. وفي هذا السياق، تتوقع بعض مراكز الدراسات العسكرية أن تصل قيمة سوق إنتاج الطائرات دون طيار إلى حدود 2020 بحوالي مائة مليار دولار. وبحكم أنها طائرات بإمكانها التحليق على علو 7000 متر بشكل مستمر، فهي تصنف ضمن الأسلحة التي ستغير من موازين القوى العسكرية مستقبلا.

عوامل ســرّعت قرار واشنطن

بالعودة إلى التاريخ القريب، يتضح أن الولايات المتحدة بدأت رحلة البحث عن موطئ قدم استراتيجي لها في القارة السمراء منذ بداية تسعينات القرن الماضي، وتحركت باتجاه حل أزمات تعرفها القارة، خاصة في غربها، إلا ان اصطدامها بفرنسا صاحبة النفوذ التقليدي بالمنطقة، إضافة إلى ما حصل في رواندا من مجازر مروعة وإيلاءها معظم الاهتمام لمناطق توتر قريبة (القضية الفلسطينية ثم العراق فأفغانستان واليمن) دفعها إلى إعادة حساباتها، رغم تحقيقها لبعض المكاسب الإقتصادية المهمة (خاصة بالجزائر).

   

اليوم، يعتقد الدكتور الموساوي العجلاوي أن القارة الإفريقية عادت من جديد إلى دائرة الإهتمام المباشر للولايات المتحدة، ويرى أن “الجماعات الجهادية والإنفصالية تهدد مصالح استراتيجية للولايات المتحدة في مجال التزود بالبترول، ويتعلق الأمر بخليج غينيا، حيث يثير بترول نيجيريا شهية الاقتصاد الأمريكي، الذي يحاول نتيجة التوترات في الخليج، التقليل من الإعتماد على النفط الخليجي، إضافة إلى المصالح الأمريكية التي تستغل البترول الجزائري من خلال شركات أمريكية عملاقة، دون نسيان أهمية البترول الليبي، ومن هنا نفهم سبب اختيار النيجر لإقامة قواعد للطائرات دون طيار”، على حد قوله.

وقال العجلاني لـ swissinfo.ch: “إن تحول منطقة الساحل والصحراء إلى منطقة تهديد استراتيجي لمصالح الولايات المتحدة وشركائها كالفرنسيين والبريطانيين والإسبان والإيطاليين، والتخوف من صوملة مالي وسيادة الجماعات الجهادية وشبكات تهريب المخدرات والأسلحة، كلها عوامل سرّعت من القرار الأمريكي، ونعتقد أن القرار اتخذ منذ الصيف الماضي، وأن الترتيبات مع الشريك الأساسي وهم الفرنسيون، أجلت الإعلان عن هذا الأمر، بل إن التدخل الفرنسي في شمال مالي، يوم 11 يناير 2013، ما كان ليتم دون دعم أمريكي، وهو ما أعلن عنه حينه من إرسال طائرات أمركية نقل إلى باريس، بل إن تقارير صحفية فرنسية تحدثت عن تجميع لهده الطائرات في قاعدة تقع إلى الجنوب الغربي الفرنسي، ويتعلق الأمر بطائرات Global Hawks وHale، وربما هي الطائرات التي حملت إلى القاعدة العسكرية في النيجر، وهي طائرات تتطلب مدرجات طويلة نسبيا وقادرة على حمل صواريخ، وهو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يغطي منطقة الصحراء الكبرى، ولهذا السبب تظل محدودية التدخل العسكري البري محدودة جدا، ولعل هذا ما يفسر استعجال الفرنسيين من إنهاء تدخلهم البري وتعويضه بمراقبة جوية أمريكية وفرنسية، مع دعم للقواعد البرية في المدن الكبرى في شمال مالي كغاو وتومبكتو وكيدال، ونشر قوة إفريقية تحت مظلة الأمم المتحدة”.

مصالح مشتركة أم غض طرف؟

الخبير المغربي أضاف أنه “يمكن قراءة قرار تعيين الجنرال ديفيد رودريغز في شهر أكتوبر 2012 في قيادة الأفريكوم في سياق الخطة الأمريكية في منطقة الساحل والصحراء، والرجل معروف كمهندس لكل العمليات العسكرية بهذا النوع من الطائرات والتي جرت في أفغانستان وباكستان”. ومع أنه من المؤكد أن تواجدا أمريكيا مكثفا بالقارة الافريقية سيكون على حساب النفوذ الفرنسي التقليدي فيها، إلا أن المصالح المشتركة بين الطرفين أو الحفاظ على جزء من المصالح بدل خسارتها كلها، يجعل باريس تغض النظر عما ستربحه واشنطن على حسابها.

  

في هذا الصدد، يؤكد  الموساوي العجلاوي لـ swissinfo.ch أن “الأمر يتعلق بسياسة مصالح، فالدولتان (أي الولايات المتحدة وفرنسا) تشعران بتهديد مباشر لمصالحهما الحيوية كالبترول بالنسبة للولايات المتحدة واليورانيوم لفرنسا التي تملك مناجم إنتاج اليورانيوم في شمال النيجر وهناك مشاريع استثمار مناجم أخرى في التشاد ومالي، ذلك أن الصناعة النووية (المحطات النووية) تشكل “جوهرة” الصناعات الإستراتيجية الفرنسية”.

فالأمر يتعلق حسبما يبدو بمصالح مشتركة للبلدين مهددة من طرف الحركات الجهادية والإنفصالية ومن جانب شبكات التهريب والمخدرات، ويبدو أيضا أن تقسيم الأدوار قد تم تحديده بدقة بين الطرفين، حيث نوهت الولايات المتحدة أكثر ما مرة بالدور الفرنسي في المنطقة، إلا أن الباحث المغربي يتساءل عما إذا كان التوافق القائم بين الطرفين، قابلا للإستمرار خصوصا وأن إشكالات منطقة الساحل والصحراء “معقدة وتتطلب زمنا طويلا لحلها من خلال مقاربات سياسية وإنمائية”، لذلك يُفضل ترك الإجابة على ذلك للمستقبل.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية