مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“الحقوق للجميع”.. عُصارة تجربة أنور الغربي في المنفى السويسري

مجموعة من البرلمانيين السويسريين يتظاهرون بشوارع برن للمطالبة برفع الحصار على قطاع غزة، وعلى أقصى يسار الصورة يُوجد أنور الغربي swissinfo.ch

مجبرا غادر أنور الغربي تونس قبل عشرين سنة، ومخيّرا يعود إليها اليوم مستبشرا بما حققه شعبه من ثورة سلمية نموذجية، وهو الذي لم يدخر جهدا خلال الفترة الطويلة التي قضاها بجنيف في العمل من أجل استرداد الحقوق للجميع، ومن أجل صقل تجربته في الحياة.

وبالقدر الذي كان فيه هذا اللاجئ التونسي السابق يطالب بالتغيير والإصلاح في تونس، كان أحد رموز الدفاع عن القضايا الكونية العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

وبقدر ما لدى هذا الناشط السياسي من أصدقاء، لديه أيضا معارضون، وبقدر ما تلقى مبادراته من اعجاب لدى البعض، تثير الجدل والغضب أيضا لدى البعض الآخر. ويبدو هذا أمرا مفهوما إذا علمنا بان أنور الغربي منخرط في عشرات المبادرات والجمعيات، ورفع لواء الاحتجاج والمطالبة بالتغيير أين ما حل، وكأن الصراع والتدافع جينتان من جيناته البيولوجية.

رغم ذلك يصرّ السيد الغربي خلال لقاء مع swissinfo.ch على أن مبتغاه هو الإصلاح والبناء لا أكثر، ويقول: “بالنسبة لي، الإحتجاج ليس مطلبا في حد ذاته، بل هو سبيل لإسترجاع الحقوق، وطوال تجربتي كناشط، والتي يطغى عليها الطابع النقابي في تونس او في سويسرا، كنت دوما داعية بناء لا هدم”. لكنه يقرّ ايضا أنه “عندما يُحال بين الإنسان وحقوقه المشروعة، يضطرّ إلى تنويع أشكال النضال من أجل الوصول إليها، ولكن في إطار القانون دائما”.

ويشدّد في حديثه مع swissinfo.ch على ضرورة احترام القانون، واحداث التغييرات المنشودة وفقا للطرق السلمية، ويقول: “رغم الحملات العديدة التي استهدفتني في العقديْن الأخيريْن، لم أقف يوما أمام القضاء مدانا، وإن حصل ذلك كان من أجل المطالبة باسترداد حقوقي”.

اهتمام مبكّر بالشأن العام

يرى الغربي أن “الظلم بطبعه يجعل النفس الأبية تنفر منه وتثور عليه”، كان هذا جوابا غير مباشر عن سؤال بشأن بدايات اهتمامه بالشأن العام، حيث يضيف: “أنا فرد من الشعب التونسي الأصيل، الذي يقول لمن أحسن إليه أحسنت، ولمن أساء إليه أسأت”.

هذا الاحساس الذي لا شك يشاطره فيه الكثير من أبناء جيله الذين عايشوا فشل دولة الاستقلال في تحقيق تطلعات شعوبها بعد افتكاك حريتها من المستعمر الغربي، هو الذي جعله يتصدّر قيادة الاحتجاجات التلمذية التي شهدتها تونس سنة 1984 بمنطقة الوسط الشرقي بعد الزيادة المشطة في أسعار المواد الأساسية وفي مقدمتها الخبز. ويتذكّر أنور الغربي ذلك كما لو ان الامر حدث بالأمس: “أطردت سنة اجتيازي لاختبار الباكلوريا من المعهد الثانوي بالشابة أسبوعيْن كامليْن بسبب مشاركتي في مظاهرات واحتجاجات”. كان ذلك في السنوات الأخيرة من حكم الحبيب بورقيبة.

وعندما أمسك زين العابدين بن علي بمقاليد السلطة، يقول: “ازدادت الأوضاع تدهورا. وفي أحد الأيام بينما كنت في العمل جاء أحد زملائي بصحيفة يومية تضمّنت أسماء قائمة طويلة من السياسيين المطلوب اعتقالهم، وكنت من بينهم!”، فقرر المعني بالأمر الاختفاء عن الإنظار إلى أن تمكن من مغادرة البلاد على متن إحدى رحلات الخطوط السويسرية، في اتجاه جنيف.

كانت تلك آخر نظرة يلقيها أنور الغربي على الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط في القرن العشرين، وعند وصوله إلى جنيف، المقر الأوروبي للأمم المتحدة سنة 1991، حيث سيقضى عشرين عاما كلاجئا: “كان ينظر إلينا كمجرّد أرقام، ولم يكن أمامنا سوى العمل في حقول الكروم التي تحيط بجنيف لتوفير احتياجاتنا، لابأس في ذلك… ولكن بعد عشرين سنة من الدراسة؟!”.

… وتستمرّ المعركة من جنيف

نفس المعركة والصراع الذي بدأه أنور الغربي في تونس سوف يتواصل ويتخذ أشكالا وأبعادا مختلفة من مقر إقامته الجديد. ومن حلقات هذا الصراع ما حدث في جامعة جنيف أثناء زيارة الأستاذ التونسي محمّد الشرفي لهذه الجامعة سنة 1998 لمناقشة آخر كتاب صدر له أنذاك حول الإسلام والحداثة.

يقول أنور الغربي: “أثناء المناقشة اعترضت على أراء الأستاذ، والذي كان وزير التعليم في حكومة زين العابدين، فتوجّه إلى السويسريين قائلا: نحن تخلّصنا من هؤلاء، وأنتم تقبلون بهم وتستضيفونهم هنا، فرد مدير اللقاء، وكان صحفيا في يومية Le Courrier (تصدر بالفرنسية في جنيف): شرف لسويسرا أن يكون فيها رجال من طينة هؤلاء.. هؤلاء يمثلون اضافة للمجتمع السويسري، ويطرحون أفكارهم بفهم وبوعي”.

هذا الفهم والوعي سوف تصقله الأعوام المتتالية، حيث سيعود مخاطبنا إلى مقاعد الدراسة بالجامعة من جديد، لكي يحصل بعد ثلاث سنوات على دبلوم مهندس في الإعلامية، ويلتحق بصفوف الموظفين بإحدى الشركات الأمريكية الكبرى النشطة في مجال التجارة والأعمال.

وفي أوّل يونيو 1995، نظّم أنور الغربي والعشرات من اللاجئين التونسيين حركة احتجاجية ضد زيارة الرئيس التونسي السابق إلى جنيف لحضور المؤتمر السنوي لمنظمة العمل الدولية وكان مرفوقا بقيادات الإتحاد العام التونسي للشغل، والعديد من رؤساء تحرير وسائل إعلام تونسية، ولكن بفضل تلك الإحتجاجات التي أيّدها ودعّمها المجتمع المدني السويسري بجنيف، إضطر بن على إلى مغادرة المدينة ساعتيْن فقط بعد وصوله إليها، بعد أن كان مقررا أن تستمر الزيارة يوميْن.

ومنذ سنوات الإقامة الاولى في جنيف، انضم أنور الغربي إلى نقابة Unia (أهم الإتحادات العمالية في سويسرا)، ثم شارك صحبة عدد من الناشطين في المجتمع المدني في تأسيس “دار الجمعيات”، ومنتدى التونسيين بجنيف، وفي موفى عام 2010، أسس “تنسيقية دعم الثورة التونسية” خاصة بعد أن تصاعدت الأحداث إثر استشهاد محمّد البوعزيزي.

ورغم أن أنور الغربي محافظ ومؤمن يمارس طقوسه الدينية، فإنه يشاطر الثوريين الراديكاليين من أصحاب الأفكار اليسارية الإحساس المرهف بقضايا المعذّبين في الأرض، ويقول عن نفسه: “أشعر بقرب كبير من المضطهدين والمظلومين، ولديّ تعاطف غير مشروط مع كل أشكال المقاومة”.

القضية الفلسطينية

هذا التعاطف ربما هو الذي يفسّر الجهود والمبادرات الكثيرة والمستدامة التي أقدم عليها أنور الغربي من أجل التعريف بهذه القضية انطلاقا من جنيف، العاصمة الدولية.

وللتعبير عن الحضور القوي لهذه القضية في وجدانه، يقول الغربي: “لما كنا أطفالا ننشط في منظمة الكشافة، لم نكن نتسلى بتمثيل لعبة القط والفار، بل بلعبة الفلسطينيين والإسرائيليين. ولم يكن يوم الأرض الذي يقابل 30 مارس من كل سنة يمرّ دون أن نحييه ونحتفل به”.

ولتنظيم هذا الجهد، قام أنور الغربي بالتعاون مع بعض السياسيين والناشطين السويسريين بتأسيس منظمة “الحقوق للجميع”، وقد تزامن ذلك مع حرب الإبادة التي تعرض لها المسلمون في البوسنة والهرسك.

ويتذكّر هذا الأخير أن أوّل نشاط لهذه المنظمة كان “دعم الطفل الفلسطيني، ونظّمت بالمناسبة مسيرة شارك فيها 2000 طفل، بعثت برسالة واضحة للعالم، ومنذ أكتوبر 2000 إلى اليوم تنظم هذه الجمعية خيمة اعلامية شهرية في جنيف بغرض التذكير بمحنة الشعب الفلسطيني”.

كذلك نجح هذا الناشط التونسي، ومن خلال هذه الجمعية في كسب أنصار كثر إلى هذه القضية من سياسيين وبرلمانيين ومثقفين سويسريين، ومن هؤلاء مثلا الكاتب والموظف السابق بالأمم المتحدة جون زيغلر، ورئيس لجنة السياسات الخارجية بالبرلمان السويسري، كارلو سوماروغا، وزعيم حزب الخضر السابق لوينبيرغر،… وهذا على سبيل الذكر فقط.

هذا الإطار نشط في السنوات الأخيرة في محاصرة ومنع بعض المسؤولين الدوليين من الدخول إلى سويسرا بسبب الجرائم التي ارتكبوها بحق الانسانية، كان من بينهم جورج بوش، وشمعون بيريس،… واحتجت أخيرا على زيارة افيجدور ليبرمان إلى برن، بمشاركة أزيد من 40 منظمة غير حكومية،… كذلك استطاعت فتح ملفات تحقيق حول بعض الثروات المنهوبة من طرف حكام فاسدين مودعة في المصارف السويسرية.

غير ان هذا التفاني في خدمة القضية الفلسطينينة، تسبب لهذا الناشط التونسي في الكثير من صاع الرأس، حيث اتّهم في العديد من المرات بمعاداة السامية، واتهمه آخرون بالتعامل مع منظمات ارهابية، وربط علاقات مع جهات تتبنى العنف وتعادي السلام، في الشرق الأوسط، وهناك من يتهمه بتوظيف القضايا العادلة لأغراض شخصية، وكل ذلك يردّ عليه المعني بالأمر بالتكذيب والمطالبة بالأدلة، ويعتبر ذلك من قبيل الحملات المغرضة.

..عودة إلى البداية

أما التحوّل الذي تمرّ به تونس اليوم، يتمنى الغربي أن تخرج الثورة التونسية من هذه المرحلة الانتقالية بسلام، والا تستمرّ حالة عدم الإستقرار طويلا كما حدث مع الثورة الفرنسية، او ان تفشل في بلوغ شاطئ الأمام، وبعض تجارب أوروبا الشرقية قد انتكست، وعادت الاحزاب الشيوعية إلى الحكم بعد فترة انتخابية واحدة.

ويقول: “يؤلمني ان بعض زملائي السابقين من قادة المعارضة الوطنية قد انخرطوا في مسار تخريبي خطير على مستقبل البلاد، ويحزنني ان ينخرط أعلام مثل نجيب الشابي أو حمه الهمامي اليوم في موازنات قذرة”.

وللمفارقة، يدعو هذا “الصوت الإحتجاجي” اليوم ومن دون أي مواربة إلى “عدم تجاوز صلاحيات الدولة، وأن لا يسمح للخارجين على القانون بالإنحراف بمسار التحوّل الديمقراطي عن مساره”.

وأوضح أنور الغربي في لقائنا معه بعد أن قرر العودة للإستقرار في تونس إلى المشاركة في مسيرة بناء بلده من خلال ملف الأموال التونسية المهرّبة في الخارج، وجلب الفرين وعلى رأسهم بن علي إلى العدالة.

ومن أجل الوصول إلى ذلك كشف محدّثنا على أن جهودا تبذل حاليا لتأسيس منظمة غير حكومية لهذا الغرض، وسيكون هدفها: “التعاون مع جميع الأطراف الوطنية والدولية من أجل ان تعود الحقوق إلى أصحابها… وأن تعود الأموال المنهوبة إلى الخزينة التونسية”.

في السنوات الأخيرة نشطت جمعية “حقوق للجميع” في تعزيز العلاقة بين المجتمع المدني والسياسي السويسري والقضية الفلسطينية وفعالياتها المجتمعية.

وفي هذا الإطار نشطت زيارة الوفود البرلمانية والشعبية لغزة وللضفة الغربية بتأطير من هذه الجمعية. وقام وفد سويسري، ضمّ كلاّ من كارلو سوماروغا وجوزيف زيسياديس وجون شارل رييل وأنطونيو هودجرس، على سبيل المثال يوم الثلاثاء 27 يناير 2010 إلى جنيف بعد زيارة استمرت ثلاثة أيام (من 23 إلى 27 يناير) إلى قطاع غزّة مباشرة بعد انتهاء الهجوم الإسرائيلي على القطاع، والذي أطلق عليه عملية الرصاص المصبوب .

في بيان أصدره فور عودته، أعرب الوفد البرلماني عن اقتناعه بضرورة التوصّـل إلى الحقيقة حول أحداث النزاع، واعتبر أنه لا مفرّ من أن يُـحاسب منتهكو حقوق الفلسطينيين عن أعمالهم، وشدد النواب الأربعة على أنه لن يكون هناك سلام دائم، بدون عدالة، وأكّـدوا على أن لسويسرا، بحُـكم حيادها وتقاليدها الإنسانية، دورٌ يجب أن تلعبه في هذا الاتجاه. عمليا، دعا الوفد البرلماني، الحكومة السويسرية إلى:

– التدخّـل من أجل الرفع الفوري للحصار، الذي تتعرض له غزّة، مع منح الأولوية للمساعدة الإنسانية،

– المساهمة النشطة للمسارعة بتشكيل لجنة تحقيق دولية نزيهة تقوم بتحديد انتهاكات القانون الدولي من جانب أطراف النزاع وجرائم الحرب المحتملة، التي تمّ ارتكابها.

– أن تحصُـل سويسرا على إجراء عملية تقييم للأضرار المادية الناجمة عن النزاع وأن يتحمّـل المسؤولون عنها عملية الإصلاح.

– أن تتوقّـف سويسرا عن أي تعاون عسكري مع إسرائيل، إلى حين اختتام التحقيقات حول انتهاك القانون الدولي.

وكان من بين أعضاء الوفد السويسري الذي تحول لزيارة القطاع:

 

أنطونيو هودجرس
نائب في مجلس النواب عن حزب الخضر منذ عام 2007 بعد أن مثل الحزب على مستوى جنيف لأكثر من 10 سنوات، كما ترأس فرع جنيف لحزب الخضر ما بين عامي 2006 و2008. من المشاركين في العديد من البعثات الدولية لدعم السلام والديمقراطية، خصوصا في دول أمريكا اللاتينية.

جون شارل ريلي
نائب في مجلس النواب عن الحزب الإشتراكي وعضو لجنة السياسة الأمنية ولجنة العفو وإعادة التأهيل بالبرلمان السويسري. هذا الطبيب منخرط في العديد من الأعمال الخيرية والتطوعية، سواء المتعلقة بميدان الصحة أو بعملية الاندماج الاجتماعي، وبالاخص بالنسبة للعمال الأجانب.

كارلو سوماروغا
نائب في مجلس النواب عن الحزب الإشتراكي من جنيف وعضو لجنة العلاقات الخارجيةواللجنة القانونية ولجنة العدالة بالبرلمان الفدرالي. رئيس لجنة الدفاع عن المستأجرين وممثل الحزب الإشتراكي في مؤتمر الإشتراكية الدولية.

جوزيف زيسياديس
نائب في مجلس النواب عن حزب العمل السويسري من كانتون فو وعضو لجان الاقتصاد والمؤسسات السياسية بالبرلمان الفدرالي. وزير سابق للشرطة والعدل والمسائل العسكرية في الحكومة المحلية لكانتون فو ما بين 1996 و1998. شارك في تحرك رمزي لكسر الحصار عن غزة ضمن رحلة على سفينة “الكرامة” رفقة برلمانيين أوروبيين في نوفمبر 2008.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية