مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

عراق الحال.. بين الحقيقة والخيال

عراقيون في حي الجديدة في بغداد يعاينون آثار هجوم انتحاري بسيارة مفخخة في سوق شعبية يوم 1 مارس 2006 swissinfo.ch

لا زالت الهوة سحيقة بين نظرة الأمريكيين الواقعية للحرب على العراق ولحال البلد الذي تخيم عليه اليوم الفوضى وشبح الحرب الأهلية، وبين نظرة المحافظين الجدد المفرطة في التفاؤل إلى ما يتصورونه إنجازا للمشروع الأمريكي في العراق.

سويس إنفو حاورت خبيرين أمريكيين تراوحت رؤيتهما لواقع الحال في العراق بين الحقيقة والخيال.

مع اقتراب الذكرى الثالثة للغزو الأمريكي للعراق، ومع أن نسبة زادت على خمسة وخمسين في المائة من الأمريكيين أعربوا عن اعتقادهم بأن الحرب على العراق كانت خطأ كبيرا أسفر عن تمزيق العراق وتحويله إلى مرتع للعنف والفوضى، فإن الرئيس بوش ألقى بالمسئولية على الشعب العراقي وطالبه بالاختيار بين الاستقرار والديمقراطية وبين الفوضى والحرب الأهلية.

من جهة أخرى، أصبح فشل المشروع الأمريكي في العراق وإهدار أكثر من 275 ألف مليون دولار في تلك الحرب، السبب الرئيسي في انحدار شعبية الرئيس بوش إلى أدنى مستوى لها منذ توليه السلطة في عام 2001 إذ وصلت شعبيته إلى 34 في المائة حيث أعربت نسبة 59 في المائة من الأمريكيين عن عدم رضاهم عن الطريقة التي يدير بها الرئيس بوش شؤون البلاد داخليا وخارجيا.

حول الوضع الراهن في العراق وتقييم المشروع الأمريكي في بلاد الرافدين، استطلعت سويس إنفو آراء الدكتورة تمارا كوفمان الخبيرة بمؤسسة بروكنجز للأبحاث والمتخصصة في السياسة الخارجية في الشرق الأوسط والسيد مايكل روبن الباحث في معهد أمريكان إنتربرايز الذي يعد معقلا هاما للمحافظين الجدد ويفتخر في نبذة المعهد التاريخية بعضوية إيرفنج كريستول الأب الروحي لهم.

اختلاف في التقييم

في البداية أعربت الدكتورة كوفمان عن قناعتها بأن الوضع الحالي في العراق ينطوي على عناصر أساسية قد تدفع بالعراق إلى واقعين مختلفين تماما، أحدهما يشير إلى أمل في أن تتمكن النخبة السياسية في العراق من التفاوض والتوصل في نهاية المطاف إلى حكومة وحدة وطنية قادرة على إدارة شئون البلاد بشكل دستوري يحفظ وحدة العراق، بينما يلوح الآخر بمستقبل تسوده مشاعر الخوف من ضياع الأمن والأمان وفرص العيش الكريمة ويلقي بالكثيرين من العراقيين في أحضان الميليشيات من جهة والمقاومة أو التمرد من جهة أخرى، وخلصت إلى أنه بعد مرور قرابة ثلاثة أعوام على غزو أمريكا للعراق فإن أحدا لا يعرف على وجه اليقين من الذي ستكون له الغلبة من هذين الواقعين المتناقضين.

وقالت الدكتورة كوفمان: “إذا تواصلت أعمال العنف في العراق بعد أن تكون معظم القوات الأمريكية قد انسحبت من العراق فأنه سيكون بوسع الدول المجاورة التدخل فيما يحدث في الداخل العراقي ولذلك فإن هناك مهمة حرجة للقوات الأمريكية الموجودة حاليا تتمثل في ضمان توفير الأمن للمدنيين العراقيين ومساعدة قوات الأمن العراقية على ألا يصبح لجوء العراقيين إلى الميليشيات المسلحة هو الضمان الوحيد لأمن المواطن، وإذا نجحت تلك المهمة فستقلص من فرص التدخل الخارجي من دول الجوار بعد الانسحاب الأمريكي، ولكن يتعين أيضا أن تشرع الولايات المتحدة في حوار مع تلك الدول حتى مع وجود حالة من التوتر في العلاقات الأمريكية مع أكبر جارتين للعراق وهما إيران وسوريا، لتفهم أوجه القلق على مصالح تلك الدول وتشجيعها على المشاركة في إعادة بناء العراق باعتبار أن من مصلحة تلك الدول قيام دولة ناجحة في العراق.”

أما السيد مايكل روبن الباحث في معهد أمريكان إنتربرايز فنفى أن العراق بعد ثلاثة أعوام من الغزو الأمريكي لأراضيه يتأرجح بين التحول الديمقراطي وبين الحرب الأهلية. وقال إن المشروع الأمريكي في العراق سيتمكن في نهاية المطاف من إرساء قواعد الديمقراطية في العراق برغم الصعاب التي واجهت ذلك المشروع وبرغم عدم رغبة الدول المجاورة في رؤية العراق يتحول إلى دولة ديمقراطية في المنطقة.

وأعرب عن اعتقاده بأن ما وصفهم بالإرهابيين داخل العراق يحاولون خلق تناحر طائفي بين السنة والشيعة ولكن غالبية الشعب العراقي تتطلع إلى نظام ديمقراطي بعد أن ذاقوا حلاوة التعبير عن أرائهم واختياراتهم في صناديق الاقتراع.

غير أن السيد روبن أقر بأن حركة التمرد في العراق قد تتواصل لمدة سبع سنوات أخرى في المتوسط وأنه سيلزم اتخاذ خطوات أخرى بالإضافة إلى الحل الأمني لدحر ذلك التمرد. وأعرب السيد مايكل روبن عن اعتقاده بأن القوات الأمريكية تستخدم تكتيكات ناجحة وفعالة في مواجهة التمرد ولكنه قال إن المتمردين تمكنوا على الجانب الآخر من تطوير تكتيكات ناجحة واستعانوا بمتفجرات فتاكة شديدة الانفجار وفرتها لهم إيران.

أخطاء أمريكية فادحة

وترى الدكتورة تمارا كوفمان أن الجزء الأوسط من العراق ذا الكثافة السكانية العالية، الذي شهد منذ دخول القوات الأمريكية إلى بغداد أشرس مستويات العنف والتمرد وانعدام الأمن أعاق جهود إعادة إعمار العراق سواء في الوسط أو في الجنوب. لذلك يتعين على كل من القوات الأمريكية والحكومة التي يتطلع العراقيون إلى تشكيلها أن تركز جهودها هناك لتوفير قدر من الأمن يسمح لجهود البناء بالاستمرار.

ونبهت إلى أن التناحر الطائفي الذي شهده العراق في الآونة الأخيرة قد يدفع بالطرفين السني والشيعي إلى التخلي عن ابتعادهما عن الانضمام إلى صفوف التمرد المسلح، واستشهدت على ذلك بتجربة يوغوسلافيا السابقة في التسعينات حين اضطرت مجتمعات محلية لم تكن تؤيد الميليشيات القومية المتطرفة إلى الانخراط في صفوفها للتمتع بحمايتها الأمنية في غياب قوات أمن حكومية توفر الأمن والأمان للمواطن.

وترى الدكتورة تمارا أن من أفدح الأخطاء التي وقعت فيها الولايات المتحدة في العراق قرار تسريح الجيش العراقي وأجهزة الأمن العراقية وهو قرار أسفر عن خلق فراغ أمني فوري.

وكان الخطأ الفادح الثاني تحويل الدولة العراقية إلى دولة منهارة حين تم استبعاد كل مستويات القيادة العليا في المصالح الحكومية والوزارات العراقية، وسرعان ما انشغلت القوات الأمريكية بمحاولة ملء ذلك الفراغ الأمني وأهملت عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية.

والآن تجني الولايات المتحدة حصاد ما زرعت في العراق فلم يعد كافيا لتوفير الأمن أن تتزايد أعداد ومستويات قوات الأمن العراقية طالما لم تتوفر أجهزة الدولة الكفيلة بدعم دور تلك القوات في حفظ الأمن مثل ميزانية يعتمد عليها لتوفير الموارد والمعدات، وطالما لم يتوفر التسلسل القيادي الذي لا تعوقه اختلافات الأهواء والاتجاهات ولا يتفشى فيه الفساد الإداري ولا التحزب الطائفي في مستويات الحكم المختلفة.

ويتفق السيد مايكل روبن مع الدكتورة تمارا كوفمان في ضرورة الاهتمام بقدرة قوات الأمن العراقية على أداء مهامها من خلال التعامل مع مشاكل المساندة من أجهزة الدولة مثل وزارة الداخلية العراقية التي قال إن الميليشيات العراقية قد اخترقتها وتكونت من خلالها فرق للإعدام وشاع فيها الفساد المالي والإداري.

ويرى روبن أن الخطأ الرئيسي الذي وقعت فيه الولايات المتحدة في العراق هو عدم السماح للعراق بالممارسة الفورية للسيادة بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، مما أدى إلى شعور الكثيرين من أبناء الشعب العراقي بالإحباط خاصة إزاء عدم تمكنهم من الحصول على الخدمات الأساسية دون انقطاع مثل الكهرباء وسقطات أخرى في عملية إعادة بناء الدولة العراقية. كما وقعت الولايات المتحدة في خطأ آخر هو التهوين من شراسة وقسوة المتمردين والإرهابيين وقدرتهم على مواصلة التمرد لسنوات.

صدام آخر ليس هو الحل

وردا على ما نشرته صحيفة صنداي تايمز البريطانية (في عددها الصادر يوم 26 فبراير 2006) ونقلت عن مستشار لوزارة الدفاع الأمريكية قوله إنه لو وصل الوضع في العراق إلى حد نشوب حرب أهلية فإن الولايات المتحدة قد تضطر إلى مساعدة زعيم عراقي في مثل شراسة صدام حسين للتعامل مع سيناريو الحرب الأهلية قالت الدكتورة تمارا كوفمان: “أرفض القبول بفكرة أنه لكي يمكن تحقيق هدف قيام عراق موحد ينعم بالأمن والأمان فإنه يجب البحث عن دكتاتور بديل، وأعتقد أن العراقيين يرفضون تلك الفكرة أيضا، وإذا لم تفلح الولايات المتحدة في تحسين الوضع الأمني وإعادة بناء أجهزة الدولة العراقية ووضع نهاية لإخفاق الدولة العراقية فإنها ستجبر المواطنين العراقيين على الاعتماد على الميليشيات المسلحة التي ستقرر الأوضاع على الأرض وليس في الساحة السياسية مما سيفضي إلى نزاعات داخلية طويلة الأمد قد تسفر عن بروز قائد عقائدي قوي يقحم نفسه كمنقذ للشعب العراقي، ولكن لا زال أمام الولايات المتحدة بعض الوقت لانقاذ العراق من ذلك المصير ولكن ذلك يتطلب تحركا سريعا ومكثفا ومتزامنا على جبهتي توفير الأمن وإعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية.”

واتفق السيد ميشيل روبن الباحث بمعهد أميريكان إنتربرايز مع الدكتورة كوفمان في رفض فكرة البحث عن دكتاتور بديل للتعامل مع الاختلافات العرقية والدينية في العراق وقال: “إن التنوع العرقي والطائفي في لبنان لم يدفع اللبنانيين إلى اختيار دكتاتور ليحافظ على وحدة لبنان، وإذا نظرنا للتاريخ العراقي فإن كل مرة حاول فيها زعيم عراقي قوي فرض إرادته على الأقليات العراقية اندلعت النزاعات الأهلية ولذلك يتعين على العراقيين تجنب تكرار تلك التجارب”.

وأعرب عن اعتقاده بأن الشعب العراقي سيكون قادرا في نهاية المطاف على تشكيل حكومة وحدة وطنية لكن استمرارها سيتوقف على مستوى أدائها”، على حد قوله.

أجندة المحافظين الجدد

وعادت الدكتورة تمار كوفمان إلى أجواء ما قبل شن الحرب الأمريكية على العراق فقالت إن المحافظين الجدد روجوا لفكرة أن دخول القوات الأمريكية سيطيح بنظام صدام حسين وأن تبديل القيادات في أجهزة الدولة العراقية واجتثاث حزب البعث سيكون كفيلا بتحقيق التغيير المطلوب ثم سيكون بوسع القوات الأمريكية العودة خلال عام واحد ولكن ذلك كان محض خيال، وتمخض ذلك التصور عن الوضع المزري القائم الآن في العراق.

ولكنها نبهت في مقابل ذلك إلى أن المشاكل الكبيرة والأخطاء الفادحة التي وقعت في العراق والمآزق التي يواجهها المشروع الأمريكي في العراق لن تتمخض عن استسلام المحافظين الجدد الذين أصبح لهم جذور متعمقة الآن في السياسة الأمريكية. غير أنها أقرت بضرورة إدخال تعديلات على توجهات السياسة الأمريكية في وقت تعددت فيه المشاكل التي تواجهها في المنطقة من استمرار الحرب الكونية على الإرهاب وتمكن تنظيم القاعدة من التسلل إلى جنوب الصحراء الإفريقية وجنوب سيناء ومناطق أخرى في العالم، إلى الطموح النووي الإيراني إلى انهيار عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولذلك سيتعين على الولايات المتحدة فيما تبقى من عهد الرئيس بوش بل وفي الفترتين الرئاسيتين القادمتين إعادة النظر في توزيع جهودها الدبلوماسية ومواردها المالية والعسكرية بشكل يضمن التعاون الدولي معها في مواجهة خطر الإرهاب.

وقالت الدكتورة تمارا: “إن التاريخ وحده هو الذي سيحكم على الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق وما إذا كانت قد تمخضت عن محصلة سلبية أم إيجابية بالنسبة للعراق والمنطقة ولمصالح الولايات المتحدة”. وخلصت إلى أن حلم تحويل العراق إلى نموذج للتحول الديمقراطي تحتذيه الدول العربية الأخرى سرعان ما تحول في نظر المواطن العربي المتطلع إلى الديمقراطية إلى كابوس يخشى منه ويفضل عليه بقاء الدكتاتوريات القائمة، مما شكل تمديدا لعمر نظم الحكم غير المنتخبة في العالم العربي.

أما السيد مايكل روبن الباحث بمعهد أمريكان إنتربرايز الذي يعد معقلا حصينا للمحافظين الجدد فقال إن أجندتهم في المشروع العراقي والتي انطوت على فكرة أن يكون نشر الديمقراطية أولوية من أولويات السياسة الخارجية الأمريكية لن تختفي مهما كانت الصعاب في العراق وهي صعاب دفعت على حد قوله ببعض الساسة وصناع القرار الأمريكيين إلى رفع لواء الانعزال الأمريكي من جديد ولكن الأمن القومي الأمريكي أصبح يتوقف على نجاح عملية نشر الديمقراطية في العالم.

ونفى روبن أن تكون الحروب الاستباقية بندا جديدا أضافته أجندة المحافظين الجدد وقال: “بعد تعرض الولايات المتحدة للهجمات الإرهابية في سبتمبر عام 2001 أيقنت الولايات المتحدة أنها إذا شعرت بوجود تهديد لأمنها القومي فيجب ألا تنتظر حتى يقع الهجوم بل عليها أن تشن الهجوم الاستباقي كاستراتيجية حكيمة للدفاع عن الأمن القومي.”

محمد ماضي – واشنطن

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية