مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

غـزة.. الخـصْـم والـحـكـمُ

الرئيس الفلسطيني ورئيس وزرائه أحمد قريع لدى افتتاح اجتماع طارئ للحكومة صبيحة يوم الثلاثاء 20 يوليو 2004 في مكتب عرفات في رام الله Keystone

تقول الحكمة الفلسطينية إن اشجار غزة تموت واقفة أو سحقا بأسنان الجرافات الاسرائيلية..

وفي إضافة جديدة، يُقال إنها تجف وتسقط ايضا لاسباب داخلية كما في حالة التمرد او العصيان الاخيرة او في تسمية ثالثة: “صراع القوة الآخـذ في الصعود”..

انها المواجهة الاولى من نوعها على ساحة الداخل التي تعصف بحركة فتح صاحبة القلم والسيف والنفوذ في الاراضي المحتلة اسرائيليا والمدارة من مجلس الحكم الذاتي العاجزة امام الرئيس المخضرم ياسر عرفات والمكبلة في وجه الحصار والعدوان.

ربما كانت اسباب الصراع الحالي المتحول الى ادوات العنف الداخلي على صورة حالات اختطاف ضباط الامن ومهاجمة مقرات الاجهزة الامنية في غزة قابلة لترجمة فورية بانها منافسة بين “دعاة الاصلاح” من جهة و “حراس الفساد” من جهة أخرى.

بيد ان قراءة المشهد الفلسطيني، المغرق في التعقيد، لا تتاتى على هذا المنوال ولايمكن ادراكها على اساس معادلة واضحة من طرفين، الرئيس ومناصروه مقابل دعاة الاصلاح ومن والاهم.

وهكذا فان في مواجهات غزة الاخيرة بين ما اطلق عليهم كتائب شهداء جنين وقوات الامن الفلسطينية، ما هو اكثر من مجرد محاولة لاخذ القانون باليد لفرض حكم الشعب عى ثلة حكم فاسدة.

فالشارع الفلسطيني المكلوم غائب عن الصورة الاصلية، حاضر في نتائجها السلبية الباهظة الثمن، والقوى الفلسطينية التي طالما حذرت من مغبة الوقوع في المحظور ودعت دوما الى تشكيل قيادة وطنية موحدة، تجد نفسها غير مؤثرة بل ابعد ما تكون عن التحكم في مجريات الاحداث.

اذ لا يخرج الصراع الحالي عن حدود حركة فتح ولا يتعدى اركان قيادتها، القادرة وحدها على دفع الامور الى هذه الدرجة من الخطورة. وهي في نفس الوقت الممسكة بزمام القدرة على تهدئة الوضع والخروج من الازمة الحالية بسلام.

لكن مثل هذه النهاية باتت غير ممكنة، ولابد من دفع ثمن، ان لم يكن قد تم ذلك بالفعل، من اجل الخروج باقل الخسائر لاسيما وان المسالة تطال صلب النزاع مع اسرائيل وتصب في ادق تفاصيل الحالة الفلسطينية برمتها.

لحظة ما قبل الانفجار

لم تكن الصورة التي خرجت بها غزة على العالم في منتصف تموز/يوليو الحالي وفيها مشهد اختطاف قائد شرطة السلطة الفلسطينة اللواء غازي الجبالي على يد مجموعة من قالوا انهم “كتائب شهداء جنين-الاقصى”، كافية لتدل على تطورات الامور وتداعياتها.

غير انها كانت مفاجئة حتى لاولئك الذين طالما دقوا جرس الانذار واشاروا الى احتمالات وقوع الفلسطينيين في نفق مظلم. لم تكن الساحة الفلسطينية مستعدة لذلك، لكنها وفي نفس الوقت تظل ساحة التناقضات والصدمات.

وفي لحظة سيطرة دعوة الاصلاح واخذ سيادة القانون باليد والتي تجندت لها مجموعات خرجت على حين غـرة، لم يلق احد، غير نفر قليل، بالا لما كان يعتمل وراء مسالة التمرد على الرئيس في غزة المحاصرة والمعزولة عن العالم لاربع سنوات خلت.

ثمة ماهو اكبر من يافطة إصلاح واعمق من صراع الحرس القديم والجديد في حركة فتح. اذ تنام غزة المشتعلة ابدا بنيران القوات الاسرائيلية، على صفيح يغلي من شدة التناقضات الداخلية والخارجية والاقليمية.

انها تراكمات خطة الانسحاب الاحادي التي القاها رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون في غفلة من الزمن، وراحت تدور وتكبر مثل كرة ثلج لم يمنعها صيف قائظ وكئيب من الانفجار نارا في وجه الجميع.

كان الرئيس الفلسطيني المحاصر في مقره المدمر برام الله يطلع على نتائج الانتخابات الداخلية في حركة فتح في غزة، ويقرا بامعان انباء صعود المقربين من العقيد محمد دحلان الى دفة قيادة فتح المحلية في قطاع غزة المنهك المنتظر لحظة انفراج بالانسحاب الاسرائيلي المزعوم.

لم تكن النتائج لتروق للرئيس الرمز المتمترس وراء خندق الوطنية في زمن الحصار والعدوان. وفي المقابل كان العقيد دحلان، احد اقوى الاسماء القيادية الشابة في فتح المرشحة لخلافة عرفات، يواصل صعوده في قطاع غزة.

المفارقة ان دحلان الذي لاذ بالصمت منذ اندلاع احداث غزة الاخيرة، كان ايضا الاسم الوحيد الذي يتردد في الخفاء في كل مرة يُـطـلب فيها الاشارة الى من يقف وراء مجموعات التمرد والاختطاف.

ليست للعقيد دحلان أي صفة رسمية، لكنه ايضا المكلف من قبل الرئيس عرفات بادارة ملف غزة في امور ما يتعلق بقضية ما بعد الانسحاب الاسرائيلي منها، وهو في هذا السياق يعرف على انه من اشد المؤيدين لخطة الانسحاب وللترتيبات المصرية المقترحة بالرغم من رفض الاسرائيليين التنسيق مع السلطة الفلسطينية والاصرار على عدم وجود شريك فلسطيني.

ويشترك معه في ذلك مجموعة وزراء غزة وعديد من اركان حركة فتح فيها اضافة الى رئيس الوزراء احمد قريع الذي اخفق في تسجيل اي انجاز منذ وصوله السلطة في ايلول/سبتمبر الماضي.

على عكسهم ونقيضهم كان الرئيس عرفات، وهو المقتنع ان شارون غير جدي في الانسحاب وان الامر برمته لا يعدو اكثر من محاولة جديدة لتجريده من اخر قلاعه: حصن الامن المتمثل في مختلف الاجهزة الامنية.

الوقوع في المحظور

ظلت قلاع عرفات الامنية حصينة، وبقي الزعيم المجرب، متمسكا بها معتبرا اي تنازل عنها بمثابة اسستلام وتراجع مجاني لا يُـفيد سوى شارون وحكومته فضلا عن انها ستتركه عاريا في حصاره سوى من ورقة توت.

في لحظة واحدة توافرت جميع العوامل المشجعة لتسديد ضربة جديدة للزعيم العجوز، اذ بات فساد السلطة واجهزتها حديث الجمهور الرئيسي مع استمرار جمود العملية السياسية وانعدام أي افق للانفراج والتقدم.

حتى الامم المتحدة، المؤتمنة على الحيادية والموضوعية، خرجت عن تقاليدها، وكالت على لسان المبعوث الاممي الشهير تيرى رود لارسن ابشع الانتقادات والاتهامات، محملة عرفات وقيادته نتائج الوضع الماساوي في الاراضي المحتلة.

مرة اخرة، تلوح فرصة قوية للانقضاض على عرفات وسلبه ما تبقى وتجريده من سلاحه الاخير فتندفع المجموعات المتمردة حاملة لواء الاصلاح ومستخدمة ادوات فتاكة وليقع المحظور الفلسطيني.

انها المواجهة غير المسبوقة على ارض الوطن بين قيادات الحركة الواحدة القوية والقادرة على الامساك بزمام الامور. بدت الامور للحظة وكانها تصب في نار الحرب الاهلية، ثم مالبث وان خبت جذوتها.

لم يكن بالامكان ضم الجمهور إليها في هذه اللحظة، فالمعركة ما زالت تدار داخل حركة فتح وبالتحديد في صفوف المتنفذين فيها بعيدا عن ايقاع الشارع الماخوذ بالصدمات المباشرة .. جراء الاحتلال، وغير المباشرة .. نتيجة الصراع الداخلي.

تحولت القضية مع الاعلان غير الجدي باستقالة رئيس الوزراء أحمد قريع الى حالة جديدة من المساومة الفلسطينية الداخلية حول خلاف الصلاحيات بين الرئيس ورئيس الوزراء لاسيما ما يتعلق باجهزة الامن.

ثمة مسالة، يسقطها الجميع، مفادها ان السلطة الفلسطينية لا تعدو، منذ اكثر من عامين، كونها تحولت الى قناة لتوزيع الرواتب على مئات الموظفين في الضفة الغربية وقطاع غزة وان اجهزتها الامنية قد انهارت منذ وقت طويل.

لكن تشكيلة القيادة ما زالت قائمة، الرتب والمراتب والهيئات والمؤسسات وما يتفرع عنها من قوة ونفوذ محلي وتظل محورا للتصارع على من يقودها الى مرحلة جديدة معالمها غامضة كما هي حالة التناقض القائمة الان.

الاكيد الوحيد، ان فرصة الاصلاح قد تبددت تحت وقع عمليات الاختطاف والعنف، وان الرئيس المخضرم المحنك سيخرج اكثر ضعفا، وان مفهوم فساد السلطة الفلسطينية وعدم استحقاقها لقب شريك سلام قد تكرس مرة اخرى.

هشام عبدالله – رام الله

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية