مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

فريبورغ.. موطن للحقوق الثقافية

يعتبر الحق في التعليم (في الصورة، مدرسة في مقديشو) أحد الحقوق الثقافية الأساسية Keystone

لفترة طويلة، ظلت الحقوق الثقافية مُهمّـشة مقارنة مع بقية حقوق الإنسان الأساسية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكنها قد تجد في "إعلان فريبورغ" الصادر هذا الأسبوع، أداة جديدة للدفاع عنها.

هذه الأداة تبدو ضرورية أكثر من أي وقت مضى في هذا العصر المتميِّـز بالهجرات الكبرى والتوترات الثقافية، التي تضع هوية كل فرد على المِـحك.

وقعت مجموعة من الأكاديميين من جامعات مختلفة يوم 7 مايو الجاري “إعلان فريبورغ” لحماية حقوق الإنسان الثقافية، وسيتم تقديمها إلى المنظمات الأممية المعنية بهذا الشأن وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو).

ويفتح القائمون على هذا الإعلان الباب أمام مختلف الهيئات والشخصيات للمشاركة فيه، حتى يحصل على الدعم الدولي اللازم له.

وفي تصريح للتلفزيون السويسري الناطق بالإيطالية، تقول ستيفانيا غاندولفي، الأستاذة في جامعة بيرغامو (بإيطاليا)، “لقد كانت الحقوق الثقافية على الدوام أشبه ما يكون بالحلقة الأخيرة في السلسلة، إذ يُـتحدث عن الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، لكن الحقوق الثقافية ظلت مُـهملة إلى حدٍّ ما في معظم الأحيان”.

ومع أن هذه الحقوق معترف بها في العديد من القرارات والإعلانات المعتمدة في إطار الأمم المتحدة، مثلما هو الحال بالنسبة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلا أنه لم يتم التعاطي معها على حِـدة.

في هذا الإطار، يأتي إعلان فريبورغ لسدِّ هذه الثغرة، وهو يمثل ثمرة لعمل انطلق قبل عشرين عاما تحت إشراف ما يُـسمى بـ “مجموعة فريبورغ”، وهي عبارة عن فريق دولي من الخبراء تُـنظّـم أعماله انطلاقا من المعهد المتعدد الاختصاصات للأخلاقيات وحقوق الإنسان، التابع لجامعة فريبورغ.

تهميش الحقوق الثقافية.. خطير

على الرغم من تأكيد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة على احترام التنوع الثقافي كجزء أساسي من حقوق الإنسان غير القابلة للتجزئة، إلا أن مجموعة من الحقوقيين والمثقفين ينحدرون من دول مختلفة، رأوا أن انتهاك الحقوق الثقافية هو من بين أحد أهم أسباب التوترات والصراعات التي يمر بها العالم الآن، بل يصل هؤلاء الخبراء إلى أن انتهاك الحقوق الثقافية هي أيضا من أحد أسباب انتشار الإرهاب في العالم.

ويقول الموقعون على (إعلان فريبورغ) في مقدمة الوثيقة “إن الصكوك المتعلقة بحقوق الإنسان قد تعددت وغير متناسقة في كثير من الأحوال، مما يجعل طرح وثيقة جديدة أمرا غير مستحب الآن، لكن الانتهاكات المتواصلة والحروب القائمة حاليا والمحتملة، تستمد جذورها على الأرجح من انتهاكات الحقوق الثقافية”، حسب رأيهم.

ويعتقد أصحاب الإعلان، إن الانتهاكات المستمرة والحروب الجارية والمحتملة تستمد جذورها من انتهاكات الحقوق الثقافية، كما ترى أن استراتيجيات التنمية لا تتلاءم، “بسبب الجهل بهذه الحقوق ذاتها”، ولاحظوا أن كونية حقوق الإنسان وعدم تجزئتها تتضرران دائما من تهميش الحقوق الثقافية.

ويقول البيان، إن هذا الإعلان يجمع الحقوق المعترف بها ويوضحها، والتي يتم النظر إليها على أنها موجودة بالفعل في العديد من الاتفاقيات والمعاهدات ولكن بشكل مشتت، إلا أن إعلان فريبورغ يرى ضروة التوضيح لبيان الأهمية القصوى للحقوق الثقافية.

تحدد الوثيقة المبادئ الأساسية للحقوق الثقافية على أنها “الأكثر ضمانا للكرامة الإنسانية، ولا يتم التعامل معها على أساس اللون أو العرق أو اللغة والدين أو المكانة الاجتماعية، أو جميع المتغيرات التي تؤثر على شخصية الإنسان وتشكل عناصر هويته الثقافية”، كما تؤكد المادة الأولى من الإعلان أن التفعيل الحقيقي لحق من حقوق الإنسان “يقتضى مراعاة ملائمته الثقافية في إطار المبادئ الأساسية التي لا تختلف عليها الأعراف الدولية والمعاهدات والمواثيق”.

ضمانات الهوية الثقافية

وبينما تهتم المادة الثانية بوضع تعريفات وشرح للمصطلحات المستخدمة في الإعلان، مثل (الثقافة) و(الهوية الثقافية) و(الجماعة الثقافية)، تركز المادة الثالثة على الهوية والتراث الثقافيان، التي تنص على حرية الفرد في اختيار هويته الثقافية، وله الحق في تطبيقها في ترابط خاص مع حريات التفكير والمعتقد والدين والرأي، في الوقت نفسه تحث هذه المادة الأشخاص للتعرف على الثقافات المختلفة التي تشكل التراث الإنساني المشترك.

في حين ترى المادة الرابعة أن الانتساب إلى الجماعات الثقافية أمر اختياري ولا يمكن فرض الانتماء إلى جماعة ثقافية بعينها على أحد، كما لا يمكن فرض مرجعية ثقافية على أحد رغما عنه، وعلى الرغم من أن دخول الحياة الثقافية لا يحتاج إلى تصاريح إلا أن المادة الخامسة من الإعلان أوضحت أن حرية التعبير في الحياة العامة أو الخاصة تندرج تحت “باب الحق في ممارسة الحياة الثقافية الذي لا يمكن الحجر عليه”، بما في ذلك ما يضمن إبراز قيمة المخزون الثقافي للفرد، على أن يتضمن هذا استعمال كافة الوسائل المتاحة لدى الفرد للوصول إلى هدفه.

وتشمل نفس المادة أيضا حرية تنمية المعارف والتعبيرات الثقافية وتقاسمها، وتحث على العمل المشترك في مختلف أشكال الإبداع، مع الحق في الحفاظ على المصالح المعنوية والمادية المرتبطة بالأعمال التي تمثل ثمرة النشاط الثقافي.

وتشير المادة السادسة إلى علاقة الهوية الثقافية بالتربية التي يرى الإعلان أنها تساهم بشكل كامل في التنمية الحرة الكاملة، بما في ذلك احترام حقوق الآخر والتنوع الثقافي، ثم تؤكد نفس المادة على حرية أولياء الأمور في توفير التربية الأخلاقية والدينية لأطفالهم وفقا لقناعاتهم الشخصية، في نطاق حرية احترام التفكير والمعتقد والدين للأطفال.

أما المادة السابعة، فهي تختص بالإعلام، وحق الأفراد والمجتمعات في إعلام حر يساهم في النمو الكامل للهوية الثقافية، وأن يتمتع الفرد بحرية البحث عن المعلومات وتلقيها وتبليغها، وحرية المشاركة في إعلام تعددي عن طريق اللغة أو اللغات التي يختارها والمساهمة في إنتاجه ونشره عن طريق جميع تقنيات الإعلام والاتصال، مع الحق في الرد على المعلومات الخاطئة عن الثقافات.

ومن الطبيعي أن كل هذه العناصر يجب أن تفرز إنتاجا ثقافيا غزيرا، ولذا فقد رأت المادة الثامنة أن لكل شخص منفرد أو ضمن مجموعة الحق في المشاركة في التنمية الثقافية للجماعات التي ينتمي إليها، وصياغة القرارات التي تعنيها وإعمالها وتقييمها، مع تنمية التعاون الثقافي في مختلف مستوياته.

أهمية الديمقراطية وتحمل المسؤولية

لكن هذه العناصر مجتمعة لا يصح لها طريق إلا من خلال الديمقراطية، التي تحدثت عنها المادة التاسعة، التي تقضى بالسهر على احترام الحقوق الثقافية وتنمية أنماط التشاور، والمشاركة لضمان تحقيقها وخاصة للأشخاص الأكثر احتياجا، مع ضمان الممارسة التفاعلية للحق في إعلام مناسب.

ثم تنتقل المادة العاشرة إلى الإندماج في الإقتصاد، التي ترى أن من واجب من وصفهم الإعلان بـ”الفاعلين العموميين والخواص” السهر على أن تكون الأملاك والخدمات الثقافية الحاملة للقيمة والهوية لا تؤثر على الحقوق المنصوص عليها في الإعلان، مع التركيز على أهمية العمل الثقافي والمؤسسات التي تقدمه هي من أكثر احتيجات الفقراء، أو من ينتمون إلى اقليات أو مجموعات لها وضعها المتميز.

ثم تهتم المادة الحادية وعشر بمسؤولية الفاعلين العموميين، إذ يجب عليهم أن يدمجوا في تشريعاتهم وممارساتهم الوطنية الحقوق المعترف بها في هذا الإعلان واحترامها وحمايتها والسهر على تحقيقها لتحقيق المساواة.

كما يجب على أصحاب المناصب المسؤولة توفير الفرصة للمتضررين للتظلم مما يعتبرونه انتهاكات لحقوقهم الثقافية بما في ذلك اللجوء للقضاء، مع تعزيز التعاون الدولي للقائمين على رعاية الحقوق الثقافية لتنفيذ برامجهم.

ثم يختتم الإعلان مواده بتوضيح مسؤوليات المنظمات الدولية، في مراعاة الحقوق الثقافية بشكل تام، وضع البعد الثقافي في مجالات حقوق الإنسان الأخرى، وأن تسعى لدمج هذه الآليات في المعاهدات والإتفاقيات ذات الصلة، مع المساهمة في تنمية الآليات المشتركة للتقييم والمراقبة والمتابعة بشفافية تامة.

للوهلة الأولى، قد يبدو الحديث اليوم عن الترويج للحقوق الثقافية مسألة ثانوية، عندما تزدحم الأنباء يوميا بأخبار المذابح والمجاعات والانتهاكات المتعددة لأبسط حقوق الإنسان، لكن أصحاب إعلان فريبورغ يؤكّـدون اقتناعهم بأن “انتهاكات الحقوق الثقافية تُـحدث توترات وصراعات هوية، وتعتبر بعض الأسباب الرئيسية الكامنة وراء العنف والحروب والإرهاب”، أي بكلمة أخرى، تمثل الإهانة الجماعية لمجموعة بشرية ما، أفضل وسيلة لإثارة الكراهية وعدم التفاهم المتبادل.

إضافة إلى ذلك، تؤكد ستيفانيا غاندولفي أنه – في هذا الزمن المتميّـز بهجرات كبيرة وبمواجهات ثقافية – فإن “هويتنا الهشّـة أصلا، تتعرض لاختبار إضافي أشدّ حدّة”، ولهذا السبب بالتحديد، تلاحظ الأستاذة الإيطالية أنه “من المهم جدا التربية على القيم الثقافية”.

سويس انفو – تامر أبوالعينين ودانييلي مارياني

تشكلت منذ بداية التسعينات، كفريق عمل دولي يضم خبراء في القانون وحقوق الإنسان، لإعداد وثيقة جديدة حول العناية بالحقوق الثقافية للإنسان، يشرف عليها المعهد المتعدد الاختصاصات للأخلاقيات وحقوق الإنسان، التابع لجامعة فريبورغ.

أعضاؤها (حسب الترتيب الأبجدي):

ايفون دوندرس – جامعة امستردام- هولندا
ايمانويل ديكو – جامعة باريس – فرنسا
باتريس ماير بيش – جامعة فريبورغ – سويسرا
بيير إمبرت – مدير حقوق الإنسان الأسبق لمجلس أوروبا – ستراسبورغ – فرنسا
جان برنار ماري – جامعة روبرت شومان – ستراسبورغ
الطيب البكوش – المعهد العربي لحقوق الإنسان وجامعة تونس
عبد الله صو – جامعة نواكشوط – موريتانيا
الفرد فيرنانديس – منظمة الحق في التعليم وحرية التعليم – جنيف
فكتور توبانو – أستاذ كرسي اليونسكو بجامعة
أبوماي كلافي – كوتونو – بنين
كلود دلبيرا – مستشار قانوني من واغادوغو – بوركينافاسو
ماركو بورغي – جامعة فريبورغ
ميراي ديلماس مارتي
ميلان بيدو – جامعتي باريس وجنيف

وقعوا جميعهم على إعلان فريبورغ للحقوق الثقافية في 7 مايو 2007 في جامعة فريبورغ.

يتبع هذا المعهد جامعة فريبورغ العريقة ويعتبر أحد الكراسي الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، للتشجيع على البحث العلمي في قضايا حقوق الإنسان والتنوع الثقافي.

يضم المعهد أيضا مرصد التنوع والحقوق الثقافية، الذي ظهر للوجود نتيجة لأعمال ما يُـسمى بـ “مجموعة فريبورغ”، وهي مجموعة دولية من الخبراء، انكبّـت منذ بداية التسعينات على تعريف الحقوق الثقافية وبلورة إعلان اليونسكو حول التنوع الثقافي.

يضم مرصد التنوع والحقوق الثقافية، 30 مراقبا من القارات الخمس، يهتمون بتحليل الوضع في مختلف البلدان وإعداد إستراتيجيات، لحماية وتعزيز الحقوق الثقافية.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية