مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مؤرخان سويسريان: “التعايش والسلام الديني معركة وكفاح لا ينتهيان”

سواء كان الأمر حقيقة أم مجازا، يمثل الطعام الذي اقتسمه الكاثوليك والبروتستانت خلال حروبهم الدينية في القرن السادس عشر رمزا قويا لعقلية التوافق التي تميّز التاريخ السويسري.

توجد قضية أماكن العبادة وحضورها على الساحة العامة في صلب الإستفتاء الذي يصوّت فيه السويسريون يوم الأحد 29 نوفمبر 2009 حول المآذن. لكن التاريخ يذكر أيضا أن هذه القضية كانت بدورها من الموضوعات الحساسة في العلاقة بين الكنيستيْن الكاثوليكية والبروتستانتية في سويسرا خلال القرون الماضية.

“الكنيسة كنيستنا، وليست للسيد البابا. إذا صعد خطيبكم على المنبر، وضعنا حدا لحياته”. بهذه العبارات، وعبر التلويح بالأسلحة والأدوات الحادة، إستقبل سكان لاندرون Landeron، وهي منطقة صغيرة تقع في كانتون نوشاتيل، ومتمسكة جدا باستقلالها، سنة 1562 ممثلي الكنيسة الكاثوليكية بعد أن تحوّلت هذه المنطقة إلى البروتستانتية.

حدث هذا بعد ثلاثة عقود من انضمام كل من زيورخ، وبرن ونوشاتيل، ثم لاحقا جنيف إلى معسكر المذهب البروتستانتي الإصلاحي. وفي تلك المرحلة كان التوتّر على أشده بين أتباع الكنيستيْن: بين من ظلوا على إخلاصهم لحاضرة الفاتيكان بروما، ومن اعتنقوا المذهب الإصلاحي الجديد.

ومثلما حدث في بقية المناطق والأقاليم الأوروبية، انقسمت الكانتونات السويسرية بحسب اختلاف مذاهبها الدينية.

وثمثل لاندرون نموذجا لفهم ما حصل أيضا في مناطق أخرى، مثل أرغاو، وتورغاو، وبازل، أو في كانتون فو مثلا، حيث كان السكان مجبرين على احترام سلطة ديانة مغايرة لمعتقداتهم أو ما يؤمنون به. وغالبا ما كانوا يفعلون ذلك وهم يكتمون الألم والحسرة. وبالنسبة لـ “لاندرون”، يتحدث المؤرخون عن ظاهرة أطلقوا عليها تسمية “التعايش في ظل عدم التسامح”.

ويستذكر مؤرخ الديانة المسيحية بيار أوليفي ليشو “تلك الفترة التي كان يحكمها صراع الأديان، وكانت فيها أحداث العنف متكررة باستمرار، وأدّى فيها الزواج المختلط، وتعميد الأطفال، وإعدام المجرمين إلى إثارة الكثير من النزاعات في القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد”. وأجبر هذا الوضع، الحكومة المحلية في كانتون نوشاتيل، على تقديم حلول عملية ومعالجة كل حالة على حدة.

معارك النواقيس

على خلاف الصورة التي تتداولها الألسن كثيرا خلال الجدل الدائر هذه الأيام حول المبادرة الداعية إلى حظر بناء المآذن، وتُقدّم من خلالها سويسرا بوصفها البلد الذي استطاع تسوية مشكلة التعايش الديني بطريقة سلمية وواقعية، فإن قراءة التاريخ تبرهن على أن ذلك لم يحدث بين عشية وضحاها، أو هكذا من دون عمل وجهد.

كما يتيبّن للناظر أن مسألة أماكن العبادة، والأصوات أو الرموز الدالة عليها، كانت من القضايا المهمة التي طبعت العلاقة بين الأديان في هذا البلد. فالنواقيس مثلا واجهت العديد من الإعتراضات في الكانتونات البروتستانتية. وفي سنة 1618، كادت نوشاتيل أن تقع فريسة حرب ضروس لأن ملكها، الذي كان يعتنق المذهب الكاثوليكي، أراد يوما ما أن يُحيي قدّاسا دينيا بضرب النواقيس.

كذلك مرّت سويسرا في تاريخها بأزمتين خطيرتيْن لعبت فيهما الأطراف الدينية دورا مهما تُعرف الأولى بأزمة “سوندربوند” (Sonderbund) وتُسمى الثانية أزمة كولتوركنف (Kulturkampf)، كما شهد هذا البلد العديد من المعارك بسبب قرع نواقيس الكنائس. ففي عام 1810 مثلا، اعتمد في كانتون فو (ذي الألغالبية البروتستانتية) قانون يحظر على أتباع الكنيسة الكاثوليكية بناء كنائس ملفتة للأنظار. وكان على الكاثوليك انتظار سنة 1948 ليُسمح لكنيسة “فالونتين” في مدينة لوزان بتشغيل نواقيسها.

فرض التكتم والتحفظ

ميدانيا، ساد التوتّر حالة التعايش المفروضة حتى بداية القرن العشرين. ففي سنة 1872، أقدم كانتون جنيف، الذي لم تغادر مخيلة سكانه واقعة كولتوركامبف (Kulturkampf) بسبب العدد الكبير لأتباع الكنيسة الكاثوليكية على إبعاد وطرد القائمين على تعاليم هذه الكنيسة وفرض سلطته على الشؤون الدينية في الكانتون. وفي كانتوني أرغاو وسولوتورن، أغلقت العديد من الأديرة واماكن العبادة. وفي عام 1874، أطردت برن (البروتستانتية) رجال دين (كاثوليك) ينحدرون من كانتون جورا.

التعايش والسلام الديني الذي تنعم به سويسرا منذ ما يزيد عن مائة عام تحقق أيضا من خلال فرض العديد من الإجراءات الهادفة إلى الحد من مطالب بعض الأديان، ومن خلال فرض حدّ معين من التكتم والتحفظ عليها.

من هذه الناحية، يُعد الدستور الفدرالي السويسري الذي أقر سنة 1874 تمييزيا بشكل لا يدع مجالا للشك ضد الكنيسة الكاثوليكية. فهو يحظر على وجه الخصوص بناء أديرة جديدة، كما يفرض الحصول على موافقة فدرالية مسبقة لتكويس أساقفة جدد.

مخاوف تلاحق بعضها

لا ترتاح كثيرا إيرين هيرمان، المؤرخة السويسرية، ومؤلفة كتاب حول الطريقة التي أدارت بها سويسرا صراعاتها بين عامي 1798 و1918، للفكرة التي تتحدث عن خبرة ومهارة طبيعية لدى السويسريين في تصريف النزاعات الدينية.

وبالنسبة لهذه المؤرخة، فإن انتهاء التوترات الدينية مع نهاية القرن التاسع عشر في سويسرا يعود بكل بساطة إلى بروز خطر جديد يتمثل في البلشيفية. وتقول “لا يتجاوز الأمر كونه بمثابة المخاوف التي يطارد بعضها بعضا. في اللحظة التي بدأ فيها يتصاعد الخوف من الشبح البولشفي، تراجع الخوف من اتباع الكاثوليكية، وساد نوع من التعايش الديني، ولكن أي خصومة أخرى حلت مكانها؟”، تتساءل هيرمان لتشير في السياق نفسه إلى أن “المشكلات الدينية قلّ ما تكون دينية بحتة”، فهي دوما “مؤشر على وجود أزمات أعمق بكثير”.

ومن هنا يشدد بيار أوليفي ليشو على أهمية تدخل الدولة لإدارة هذه الصراعات ويقول: “تقدم نوشاتيل البرهان على ذلك. فالدولة تتحمّل مسؤوليتها لضمان السلام الديني”. وهذا أيضا ما يؤكد أن “التعايش الديني لا يمكن أن يكون إلا نتيجة عمل مستمر وسعي دؤوب”.

كيف ينظر إذن هذان المؤرخان إلى مبادرة حظر المآذن التي ستعرض يوم 29 نوفمبر 2009 على الناخبين السويسريين؟ بالنسبة لبيار أوليفي ليشو: “إذا نجح انصار تلك المبادرة في كسب تأييد الناخبين، تكون سويسرا قد تراجعت عن المكاسب التي حققتها إلى حد الآن”.

وأما بالنسبة لإيرين هارمان فإن “هذه المبادرة تعكس عدم ارتياح السكان لوضع سويسرا على الساحتيْن الأوروبية والدولية”، وتذهب إلى أن نوعية الخطاب الذي رافق هذه الحملة “عادة ما يطفو على السطح كل ما كانت هناك أزمة اقتصادية”، بحسب قولها.

كارول فيلتي – swissinfo.ch

(ترجمه من الفرنسية وعالجه عبد الحفيظ العبدلي)

شهدت سويسرا مثل بقية البلدان الأوروبية في القرن السادس عشر، صراعات مع ظهور حركة الإصلاح الديني.

وفي 1525 كانت زيورخ أوّل كانتون سويسري يتبنى البروتستانتية مذهبا دينيا رسميا. ثم تبعته برن (1528)، وفرضت لاحقا على كانتون فو وبازل (1529) المذهب نفسه.

كان من الضروري تسوية العديد من النزاعات الوطنية وفرض السلام (في 1529، و1531، و1656، و1712)، لكي تصل الكانتونات السويسرية إلى مرحلة تحترم فيها الخيارات الدينية المختلفة.

في سنة 1798، لأوّل مرة يُصاغ دستور للجمهورية السويسرية (آنذاك)، ينص صراحة على الحرية الدينية.

بعد هزيمة الكانتونات الكاثوليكية في معركة سوندربوند، التزم الدستور السويسري الجديد الذي ظهر سنة 1874 بحماية حرية الاديان، لكنه لم يمنع فرض إجراءات معيّنة “للحفاظ على النظام العام”.

خلال الفترة المتراوحة بين عاميْ 1860 و1885، كشفت معركة كولتوركومف عن التوترات التي نتجت عن إرادة متشددة من اللادينيين لإعادة رسم العلاقة بين الدولة والكنيسة، وذلك لتعزيز موقع الدولة على حساب الكنيسة.

الدستور السويسري الحالي الذي تمت مراجعته سنة 1874، تبرز في بعض بنوده آثار تلك التوترات. والعديد من مواده تمت صياغتها خصيصا ضد الكنيسة الكاثوليكية، وللحد من حرية الإعتقاد وحريةالتفكير .

(المصدر: القاموس التاريخي لسويسرا)

swissinfo.ch

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية