مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

السلام السيبراني في ضوء الحرب الدائرة في أوكرانيا

إيموجين فولكس

في أواخر العام الماضي، كان من دواعي سروري أن أدير نقاشاً رائعاً نظمته مؤسسة السلام السيبراني في جنيف. كانت مسألة النقاش برمّتها تتعلق بالحرب الإلكترونية: ما نعرفه، وما لا نعرفه، والدروس المستفادة من الصراع المستمر منذ عام تقريباً في أوكرانيا والمتعلّقة بآفاق الحرب.

كان من بين المشاركين ممثلون عن حلف شمال الأطلسي والقوات المسلحة السويسرية واللجنة الدولية للصليب الأحمر ومحللون أمنيون. لقد كان حدثاً مثيراً للتفكير، دفعني إلى تخصيص الحلقة الأخيرة من بودكاست “من داخل جنيف” للتطرّق إلى ذات الموضوع.

لعل بعض قرائنا ومستمعينا يتذكرون أحداث الربيع العربي. في عام 2011، شهدنا تداول مصطلح “مواطن صحفي” وهو مصطلح لعب دوراً مهماً في الإضاءة على بعض الأحداث. نزل آلاف المواطنين، أكثريتهم من الشباب، إلى الشوارع في كل من تونس، ومصر، وفي نهاية المطاف في سوريا، مطالبين بالتغيير، وطالبوا بمزيد من التمثيل في الحياة السياسية، واتخاذ خطوات من شأنها تعزيز الديمقراطية في البلاد.

لقد قام هؤلاء الشباب بتبادل أفكارهم وخبراتهم عبر الإنترنت، ودفعت سرعة انتشار الأخبار حول مستجدات الأحداث الجارية في جميع أنحاء العالم العربي بالكثير منا، بمن فيهم أنا، إلى الاعتقاد بأننا إزاء شكل جديد من الحرية، ووسيلة استحدثها الشباب لتحدي الحكومات الاستبدادية التي كانت تسيطر على وسائل الإعلام.

إلا أنه، وللأسف الشديد، لا يزال العديد من هذه البلدان تحت وطأة الحكام المستبدّين. وفيما استخدم الشباب في هذه البلدان الفضاء الإلكتروني آملين التخلص من حكم الاستبداد، استخدمت ماكاينات الحكام هذا الفضاء نفسه لملاحقة وتعقب وقمع كل صوت مناهض. هذا الواقع، حث القيّمين على الإدارات الدفاعية في جميع أنحاء العالم، على النظر عن كثب في مسألة الفضاء الإلكتروني وتقييم كيفية استخدامه،  سواء لصالح أو هذه الإدارات أو ضدها في حال نشوب حرب ما.

هنا يمكنكم الاستماع إلى البودكاست كاملا باللغة الإنجليزية: 

محتويات خارجية

الكتائب الإلكترونية الروسية

قبل وقت طويل من غزو روسيا لأوكرانيا، توفّرت لدى الدول الغربية معلومات تفيد بأن موسكو تستخدم الفضاء الإلكتروني لنشر معلومات مضللة، قد يكون من شأنها التأثير على مجرى الأحداث السياسية والانتخابات في الديمقراطيات الغربية.

فقد قامت ماكينات الكتائب الإلكترونية الروسية التي تتواصل باللغة الإنجليزية، بإنشاء آلاف الحسابات من خلال هويات مزيّفة، على منصات التواصل الاجتماعي، واستخدمتها بغية الترويج لآراء إيجابية عن فلاديمير بوتين، وزرع الشكوك وتعميق الانقسام بين الدول الغربية التي تواجه قضايا كبيرة، ابتداء من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتهاء بالأحدث العنصرية التي رافقت نشوء حركة “حياة السود مهمة”.

لذلك عندما غزت روسيا أوكرانيا، كانت هناك توقّعات لأن يشمل العتاد المستخدم في عدوان موسكو ما يتخطى الآليات العسكرية مثل الدبابات المعتادة التي تزحف عبر الحدود. لقد كان من الممكن أن تمتد الوسائل المستخدمة في الحرب السيبرانية من التضليل إلى تدمير البنية التحتية الحيوية وتعطيل أنظمة اتصالات العدو استعداداً لشن هجومات ميدانية. ولم يكن هناك شك بأن روسيا كانت ضليعة في استخدام كل هذه الوسائل.

وتقول شارلوت ليندسي، مديرة السياسات بمعهد السلام السيبراني، لـ “من داخل جنيف” : “كنا جميعاً نتوقّع أن استخدام الوسائل السيبرانية في الحرب، سيكون له بعض التداعيات الإنسانية الكارثية الكبرى”.

في الواقع، لم يحدث الاستخدام الكارثي للفضاء السيبراني؛ فرغم أن الهجمات البرية والجوية الروسية على البلدات والمدن الأوكرانية كان لها نتائج مدمّرة على الصعيد الإنساني، إلا أننا لم نرَ هجمات سيبرانية “وخيمة” النتائج، من النوع الذي توقعه الكثير من المراقبين والمحلّلين.

ولكنّ هذا لا يعني، كما يشير كريستيان مارك ليفلندر، رئيس قسم الدفاع الإلكتروني بحلف الناتو خلال النقاش ، أنه لم يكن هناك أي اعتداء سيبراني من قِبَل روسيا. ويقول في هذا الإطار: “لقد كان استخدام الفضاء السيبراني محورياً في الحرب على أوكرانيا، فقد تم استخدامه لتشكيل ساحة المعركة، واستخدمت الهجمات السيبرانية لتمهيد الطريق للغزو الميداني”.

ويضيف قائلاً إنه كانت هناك هجمات على شبكة الاتصالات الأوكرانية، بغية تعطيل قدرة الحكومة على التواصل مع السكان، بهدف نشر معلومات مضللة، كما كانت هناك أيضاً هجمات سيبرانية من البرامج الخبيثة لمسح البيانات في المؤسسات الأوكرانية. لذا فإن التصور بأن نطاق استخدام وسائل الحرب السيبرانية ظل ضيّقاً، هو “خطأ جسيم في التشخيص”، على حد تعبيره.

التحكّم في المعلومات

أما الصورة التي بدأت في الظهور بعد ذلك، فقد كانت أكثر حبكة وخلسة مما كنا نتوقعه، وهي صورة لم تحمل في طياتها إلا التسبب بإلحاق الضرر، أو كما يقول ماكس سميتس من مركز الدراسات الأمنية في زيورخ خلال النقاش الدائر حول هذه المسألة: “في حالة روسيا، ما رأيناه هو بذل جهود محددة للغاية، للتأكد من أن بعض الأجزاء الرئيسية من شبكة الإنترنت الأوكرانية ستكون متصلة بشبكة الإنترنت الروسية، مما يتيح للروس طرقاً جديدة في الاستحواذ على الشبكة الأوكرانية والتحكم فيها ومراقبتها”.

أو، كما تعبّر ليندسي عن المسألة بصراحة أكبر خلال تسجيل بودكاست “من داخل جنيف” ، وتقول “رأينا “محاولة فرض هيمنة روسية عى الأنترنت في أجزاء من أوكرانيا، وهذا يعني أن الرسالة التي جرى العمل على إيصالها ، كانت في الواقع، في أيدي الغزاة.

ويضاف إلى ذلك المحاولات المستمرة لضرب البنية التحتية الحيوية – بطريقة الضربات الحركية التقليدية، عن طريق قصف خطوط الكهرباء أو المستشفيات، ولكن أيضاً إلكترونياً، عن طريق إصابة أنظمة تكنولوجيا المعلومات بالفيروسات والبرامج الخبيثة. ومن المثير للاهتمام، نظراً لأن هذا النوع من الهجمات كان يحدث قبل الغزو الروسي (شنت موسكو هجوماً سيبرانياً على شبكة الكهرباء الأوكرانية في عام 2015)، كانت أوكرانيا تستعد، جزئياً على الأقل، لصدها، وتم إحباط عدد منها.

وماذا عن اتفاقيات جنيف؟

لا يمكن إثارة النقاش في جنيف حول الحرب الدائرة رحاها دون التطرّق بطبيعة الحال إلى اتفاقيات جنيف. إن الهجمات المتعمدة على المستشفيات، أو غيرها من البنى التحتية الحيوية، مثل إمدادات المياه أو الطاقة، هي انتهاكات للاتفاقيات المبرمة – بل في الواقع يمكن تصنيفها كجرائم حرب.

إذن كيف يمكن تطبيق ما ورد في الاتفاقيات على الهجوم السيبراني؟ يعتبر بالتازار ستايلين من اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنه على الرغم من أن أسلحة الحرب السيبرانية قد تكون مستحدثة، إلا أن تطبيق الاتفاقيات لا يزال سارياً.

“نعتقد بوضوح أنه في حالة النزاعات المسلحة، وبغض النظر عن التكنولوجيا التي يتم استخدامها، هناك قواعد واضحة. ويضيف قائلاً خلال النقاش الدائر: “لحسن الحظ لدينا هذه القواعد: قواعد متعلقة بالتمييز بين الأمور ومراعاة مبدأ التناسب وأخذ الحيطة والحذر. إنها قواعد طويلة الأمد في إمكانية تطبيقها، ومن شأنها أن تحدث فرقا كبيراً في مجريات الأمور إذا تم احترامها من جميع الجوانب”.

إذن ما هي الاستنتاجات التي يمكننا استخلاصها من هذا الصراع الأول من نوعه نتيجة الدور الواضح الذي لعبته الحرب السيبرانية؟ ربما يكون الاستنتاج الأول هو ذلك الذي توصّلت إليه اللجنة الدولية للصليب الأحمر: إن كنت بصدد ابتكار واستخدام برامج كمبيوتر من شأنها أن تلحق الضرر بالبنية التحتية المدنية، حتى ولو جرى ذلك على بعد آلاف الكيلومترات من ساحة المعركة، فأنت بذلك تخاطر بانتهاك اتفاقيات جنيف … وفي نهاية المطاف يمكن محاكمتك بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

أما الاستنتاج الثاني، فهو أن الحرب السيبرانية في هذا الصراع على الأقل، لم تأتِ على شكل انفجار مدمر، ولكن عبر ألف هجوم خفي.  وقد كان واضحاً خلال تلك الجلسة النقاشية أن عبارة “نحن بحاجة إلى الاستمرار في توخّي الحذر” قد تكررت كثيراً.

وأخيراً، لا تقتصر ساحة هذه الحرب السيبرانية على ساحة المعركة، أو حتى على البلدان التي تخوض الحرب. منذ بدء الصراع قامت ليندسي وزملاؤها في معهد السلام الإلكتروني بتوثيق مئات الهجمات السيبرانية ، بعضها لم يستهدف أوكرانيا، بل استهدف حلفاءها في أوروبا والولايات المتحدة.

وفي هذا الصدد تقول ليندسي: “ما ظهر جليّاً من خلال الصراع بين أوكرانيا وروسيا، هو مجرد حجم واتساع نطاق العمليات السيبرانية التي تجري خارج حدود هذيْن البلديْن، وتؤثر على العديد من البلدان الأخرى”.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية