مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“المراحل الإنتقالية مصيدة يتعذّر الخروج منها”

رغم تفاوت الأوضاع واختلاف الظروف، تسير الفترات الإنتقالية في دول الربيع العربي (تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا) بوتائر متعثرة. Keystone

أوضح المحلل السياسي أبو بكر الدسوقي أن "المراحل الانتقالية في عدة حالات من دول الربيع العربي، تحوّلت إلى "مصيدة"، يبدو الخروج منها، بدون آلام إضافية وفي وقت ملائم في اتجاه الانتقال من الثورة إلى "الدولة"، متعذرا إلى حدٍّ كبير".

وأشار الدسوقي، باحث الدكتوراه في العلوم السياسية ورئيس تحرير مجلة السياسة الدولية، الفصلية التي تصدرها مؤسسة الأهرام، في حديث خاص لـ swissinfo.ch إلى إن “مراحل ما بعد الثورات، تأتي بمطالب شعبية مُلحّة، تستدعي إجراء تغييرات جِذرية في توزيع القوة والثروة، تلعب طريقة إدارة المرحلة الإنتقالية والقوى المتحكّمة فيها، دورا مِحوريا في تحديد نجاح أو فشل الثورات في تحقيق أهدافها”. مزيد من التفاصيل في نص الحوار التالي.

swissinfo.ch: هل تعتقد أن النّخب في العالم العربي (مصر/ تونس/ ليبيا/…) مهيّأة للتعامل مع مقتضيات وآليات الديمقراطية؟

أبو بكر الدسوقي: نعم مهيّأة بالتأكيد، لكن الظروف غير مهيأة لذلك. فنحن لسنا في تطور ديمقراطي تدريجي طبيعي، وإنما في حالة ثورات أسقطت النُّظم القديمة، إما بقوة السِّلاح، كما في حالة ليبيا، وإما بقوة الإرادة الشعبية، كما في مصر وتونس واليمن. هذه الثورات أوجدت أعداءً لها، هُم بعض أتباع النظام القديم، حيث شعروا بأنهم  أضيروا من هذه الثورات، سياسيا واقتصاديا، ومن ثَـم، فإن هؤلاء لا يمكن أن يقتنِعوا بأية عملية تحوّل ديمقراطي، خاصة في إطار حِرمانهم من ممارسة العمل السياسي، وِفقا لقانون العزل.

ومن ناحية أخرى، فإن القِوى الثورية انقسمت بعد نجاح الثورات، وسعى كل طرف لفرضِ أجندته، دون محاولة التوصّل إلى حلول وسط مع الآخر، مما أدّى إلى وجود حالة من الاحتقان بين النظم الحاكمة وقوى المعارضة (حالة مصر وتونس)، حيث تعثّرت كل محاولات الحوار، بسبب سيادة حالة من عدم الثقة من ناحية المعارضة تجاه الحكومة أو وضع شروط مُسبقة قبل بدء الحوار، على الحكومة أن تستجيب لها أولاً.

كما أن الحكومة الجديدة في تونس، برئاسة علي العريض، لا تمثل التوافق الوطني التي تدعو إليه قوى المعارضة. فباستثناء الوزرات السيادية التي جاءت حِيادية، جاءت الحكومة لتعبِّر عن تحالُف القِوى الإسلامية دون غيرها. وعليه، فإن حالة الإحتقان السياسي تؤثِّر بالسَّلب على عملية التحوّل الديمقراطي وعلى عملية استكمال بناء المؤسسات السياسية.

swissinfo.ch

برأيك.. لماذا لا يُسلّم المنهزمون في الإنتخابات التي جرت في دول الربيع العربي بنتائج الصندوق؟

أبو بكر الدسوقي: ذلك يرجع إلى أسباب كثيرة، أهمّها أنهم من الأساس لم يعتادوا التّسليم بنتائج الصندوق فيما مضى قبل ثورات الربيع، لأن الانتخابات كانت تُـزوَّر علانية، بل وصلت ذِروة الفساد السياسي بأن الحزب الوطني المُنحل في مصر، كان يُزوّر حتى ضد بعض مرشّحيه، حيث شهدت انتخابات مجلس الشعب التي جرت عام 2010  ظواهِر غريبة وشاذّة، حيث رشّح الوطني اثنين أو ثلاثة على المقعد الواحد (إرضاء للأجنحة المُتصارعة داخل الحزب)، وهذه الانتخابات كانت القشة التي قصمت ظهر النظام السابق.

وهناك أسباب أخرى، أن كثيرا من القوى التي شاركت في الثورات العربية ولعبت دورا رئيسيا في إسقاط النظم السابقة، لم تجِد لها فُرصة أو مكانا في دوائر صُنع القرار، يُوازي ما قامت به في الثورة، لأنها افتقدت للتواصل العميق مع قطاع الناخبين، في حين كانت القِوى الإسلامية الفائزة في أغلب دول الثورات، تعرف طريقها جيدا للناخبين، بفعل قُربهم من الشارع والخدمات التي يقدِّموها بشكل مباشر للناخبين وبفعل تأثير الخطاب الديني القوي على غالبية الشعوب (مصر وتونس).

وهناك سبب آخر، وهو أن القِوى الفائزة في الانتخابات التشريعية  أو الرئاسية، لم تفُـز بفارق شاسِع عن المنافسين، الأمر الذي يجعل الحزب أو المرشّح الخاسِر يرى أنه كان أقرب للفوز أو الأحق بالفوز، ومن ثَـم يظل لديْه اعتقاد بأن الانتخابات شابها التزّوير أو المخالفات، وبالتالي، تقل قناعته تماما بنتائج هذه الانتخابات، ومن ثَـم يبدو أنه لا يقبل بنتائج الصندوق.

فضلاً عن أن بعض المرشّحين لديهم رغبة في ارتِداء ثوْب الزعامة، ومن ثم فإنهم لا يقبلون بنتائج الصندوق، إذا جاءت بغيرهم، إضافة إلى أن هناك مَن لديهم غِيرة وطنية على مستقبل الأوطان، ويروْن أن هناك أخطاءً في سياسات النّخب المُنتخَبة، وهُم يخشون من سيْطرة فصيل واحد على السلطة، مما قد يؤدّي إلى إعادة صناعة الاستِبداد، ولذا، فإنهم يُطالبون بإشراك جميع القِوى الوطنية في الحكم.

لماذا تبدو فترة الإنتقال الديمقراطي بين نظام ديكتاتوري سقط وآخر وليد، صعبة للغاية في دول الربيع العربي؟

أبو بكر الدسوقي: لأن الدول العربية افتَقدت الديمقراطية عصورا طويلة، وعندما أسقطت الثورات النّظم القديمة، بدأت في خوض تجارب ديمقراطية وليدة، وقد تمّ اختصار الديمقراطية في التصويت في الانتخابات، مع أن التجربة الديمقراطية، ثقافة وسلوك وانتخابات حرة ودستور يرتضيه الجميع وتوازن بين السلطات وحرية تعبير ومعارضة مسؤولة، وهذه الأشياء لم تحدُث في النظم الديمقراطية الرائدة، إلا بعد ثورات دموية ونضال طويل، ترسّخت بعده القِيم والممارسات الديمقراطية، ونحن تفاجأنا بالثورات ومُعظم القوى السياسية لم تكُن جاهزة لخوْض الانتخابات، كما أن الناس لم تعتد بعدُ ممارسة آليات وأدوات الديمقراطية، ولا تزال نِسب كبيرة من الناخبين في حالة عزوف عن المشاركة السياسية.

ما هي برأيك أبرز الأسباب التي تعوق مرور الفترة الإنتقالية بسلام في دول الربيع العربي؟

أبو بكر الدسوقي: أهَم تلك الأسباب، هي: استغراق المراحل الانتقالية فترات طويلة، بفعل بُطء أو ارتباك الخطوات أو سيطرة الصراعات. إن الصراعات السياسية بدت أعْنف وأكثر عُمقا وجِذرية، مما كان متصورا. كثرة الاحتجاجات والمطالب الفِئوية، فيما تواجه الدول حالة من تقلّص الموارد. التعارضات الخاصة ببناء النظام الجديد، بمؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية.

أضف إلى تلك الأسباب، طبيعة العلاقة بين الثورة والتحوّل الديمقراطي، أي بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية. السلبيات المُزمنة التي خلّفتها النّظم السابقة في كل مؤسسات الدولة الحيوية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإداريا، على نحو تتحوّل معه إلى عقبات هيكلية أمام الثورة. وتصاعد التدخّلات الدولية والإقليمية داخل دول الثورات، بطريقة قد تُربك المُعادلات الداخلية.

المزيد

المزيد

ذاكـــرة الربيع العربي

تم نشر هذا المحتوى على الرسام السويسري اللبناني الأصل لخص بإبداعاته أحداث الربيع العربي منذ أن بدأت تأخذ بعدا دوليا بمرور الأسابيع والشهور. وقد نشرت رسومه المعبرة في صحيفة “انترناشيونال هيرالد تريبيون” الأمريكية التي تصدر من باريس، وفي جريدة “لوتون” الصادرة في جنيف، وأيضا في النسخة الأسبوعية من صحيفة “نويه تسورخر تسايتونغ” الصادرة في زيورخ.

طالع المزيدذاكـــرة الربيع العربي

هل تعتقد أن العرب عاجِزون عن ممارسة الديمقراطية، مثلما يمارسها الهنود والماليزيون وغيرهم؟ ولماذا؟

أبو بكر الدسوقي: الشعوب العربية أصحاب حضارات عريقة ولديهم إسهام كبير في الحضارة الإنسانية، وأن أغلبها يُدين بالإسلام، والإسلام كدين، سبق كل مفكري العصر الحديث في الدعوة للديمقراطية. فقيمة الشورى لا تنفصم عُـراها عن الديمقراطية، وهناك تجارب ديمقراطية ما زالت موجودة، مثل: الحِقبة الليبرالية في مصر، والتي أعقبت دستور 1923، والتي تمثلت في الانتخابات التشريعية عام 1924 وما تلاها من انتخابات، رغم ما شهِدته هذه التجربة من تربّص وتعنّت الملك والاحتلال. وكذلك تجربة الديمقراطية في لبنان.

ويلاحظ أن الشعوب العربية في مُعظمها تتّسم بالتوحّد والانسِجام، الذي تفتقِده الهند مثلا، وهي دولة ذات طوائف ومعتقدات عديدة، لكنهم رغم اختلافهم، ارتضوا الاحتكام إلى شرعية الصندوق، كذلك الفائزون بالانتخابات ارتضوا بشرعية الأداء والممارسة والحُكم الرشيد، على نحو ما فعلت الدول الغربية، ذات الثقافات والقوميات المختلفة.

العالم العربي تعرّض لظلم جسيم تحت نظم استبدادية استخدمت كل وسائل البطش لقهْر الشعوب وتزوير إرادتهم على مدى عقود، حتى ترسّخت لدى الكثيرون ثقافة كراهية السّلطة واللامُبالاة واليأس وعدم الإيمان بالديمقراطية وعدم الثقة في ما تفرزه نتائج الانتخابات الفاسِدة سابقا من نتائج، كما أن النظم السابقة، مثلما قهرت شعوبها سياسيا، قهرتها أيضا اقتصاديا، فأثقلت كاهل الناس بأعباء المعيشة الصعبة، حتى يكون كل تفكيرهم مُنصرفا للبحث عن لُقمة العيش.

وإجمالاً، فإن المشهد السياسي العام في دول الثورات يتلخّص في: طُغيان الصّراع الداخلي، وسيادة حالة من العجز في إدارة التحوّل الديمقراطي، ولا يمكن التقدّم إلا بالعودة الى حالة التوحد التي نجحت بها الثورات.

وما هي في تقديرك سُبل الخروج من هذا المأزق؟

أبو بكر الدسوقي: لابد من  التوصّل إلى حالة من “الوِفاق الوطني” بين كل الفرقاء، بأن يتِم التوصّل إلى ثوابت مُشتركة يُرضي بها الجميع، وأن يتم الحوار حول كل الإشكاليات القائمة بين شركاء الثورة، غير أنه لكي ينجح هذا الحوار، لابد من تجسير فجْوة الثقة القائمة بينهم، واتخاذ الإجراءات التي تخفّف من حالة الاحتقان وأن تتوقف حملات التجريح والتشهير المُتبادلة، وهذه مسؤولية الشرفاء من رجال السياسة والإعلام والدين والعلم والفكر والثقافة.

من الحِكمة الآن، أن يتمسّك الجميع بالديمقراطية كآلية للحُكم والحوار، الديمقراطية التي تكفل حق التعبير والاختلاف، بحيث لا تستأسد الأغلبية على الأقلية، بل تسعى لضمان حريتها ولا تفتت الأقلية على حقوق الأغلبية، بل تسعى لأداء واجبها الوطني في تقويم سياسة الحكومة وطرح البدائل والحلول، على أن يُترك الحُكم في النهاية للشعب. فبدون الديمقراطية، لن نستطيع بناء “الدولة النموذج”، مع ضرورة أن يترفع الجميع عن مصالحه الخاصة، ويغلب المصالح الوطنية العُليا للبلاد والتكاتف حول خارطة طريق واضحة لإنقاذ الأوطان والسير بها نحو مستقبل أفضل لشعوبها.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية