مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“الإنصاف والتعويض واجـبـان على الدولــة”

في مظاهرة نظمتها مجموعة من المحامين التونسيين يوم 15 أغسطس 2011، رُفع شعار "لا مصالحة قبل المحاسبة" Keystone

العدالة، الحقيقة، الكرامة... هذا هو شعار المركز الدولي للعدالة الإنتقالية، الذي يُوجد مقره في نيويورك. كلمات ومفاهيم جميلة، لكن ما مدى القدرة على تطبيقها أو تحقيق جزء منها في الواقع؟

وبحكم أن حيز العدالة الإنتقالية محدود، إذ أنها تقتصر على البلدان التي حدث فيها تغيير كبير أو ثورة أسوة بالديموقراطيات التي أعقبت مرحلة الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية أو يوغسلافيا السابقة، فإنها لا تعني البلدان الأخرى الرازحة تحت نير الأنظمة المستبدة، مثلما كان الوضع في بلدان الربيع العربي قبل اندلاع الثورات.

من هذه الزاوية تعتبر العدالة الانتقالية ضيفا جديدا في نادي الديموقراطيات العربية اليافعة، مع أن بلدا وحيدا هو المغرب كان شهد مسارا من هذا النوع في أعقاب رحيل الملك الحسن الثاني بعهده الدموي واعتلاء نجله محمد السادس عرش المغرب. غير أن تلك التجربة شابتها نقائص جوهرية وغابت منها بعض المعايير الأساسية لأنه لم يحدث تغيير في البلد، ما جعلها تجربة “عرجاء” مثلما قال عنها بعض الإعلاميين المغاربة.

وفي هذا الحوار الخاص الذي أدلى به رئيس المركز الدولي للعدالة الإنتقالية ديفيد تولبار David Tolbert لـ swissinfo.ch، والذي تم بحضور مدير الاتصال بالمركز رفيق خوجيش ومدير البرامج كلاوديو كوردوني، شرح تولبار بعض آليات العدالة الانتقالية وبدايات التطبيق في العالم العربي، خاصة بعد فتح مكتب شمال أفريقيا منذ بضعة شهور ومقره في تونس.

swissinfo.ch: المتابع لنشاط منظمتكم عبر العالم يلاحظ اهتماما كبيرا بأميركا اللاتينية وآسيا وبدرجة أقل أفريقيا، لكن البلدان العربية غائبة تقريبا، لماذا؟

ديفيد تولبار: إذا ما ألقينا نظرة على التجارب التي عاشتها بعض المناطق في العالم مثل أميركا اللاتينية وخاصة الشيلي وبيرو، وكذلك جنوب أفريقيا بعد إنهاء نظام الميز العنصري، نلمح أنها مرت بتجارب قضائية انتقالية رمت لرد الإعتبار لشعوبها التي عاشت مرارة الإضطهاد. أما في الشرق الأوسط فلم يوجد مسار انتقالي بالدرجة نفسها قبل الربيع العربي. ومن الطبيعي أننا أصدرنا تقارير بعد ذلك، وقمنا بعمل في كل من لبنان (بعد انتهاء الحرب الأهلية) وفلسطين والمغرب ولم نركز في تلك الفترة على مصر وتونس وغيرهما. لكن بعد الربيع أصبحنا نركز على تلك البلدان فأصدرنا تقارير وساعدنا الحكومات وقدمنا المشورة الفنية للمؤسسات المعنية بالعدالة الانتقالية، كما أننا نقوم بتدريب اللجان الحكومية المعنية بهذا الموضوع.

وقد قابلت في تونس مثلا رئيس الجمهورية والوزير المعني بالعدالة الإنتقالية من أجل تقديم الخبرة والمشورة. أما في ليبيا فالأوضاع أصعب لأن الإنتخابات لم تُجر إلا مؤخرا ومع ذلك أرسلنا بعثات إلى هناك وناقشنا مع السلطات الانتقالية عدة قضايا من بينها المتمردون على السلطات الجديدة الذين يُقدر عددهم بسبعة آلاف عنصر وقدمنا نصائح حول كيفية التعامل معهم. كما نصحناهم بتقوية المجتمع المدني للمشاركة في مسار العدالة الإنتقالية. وهناك سؤال كبير حول التعاطي مع المحكمة الجنائية الدولية وهل سيُحاكم الشخصان الملاحقان من قبلها (سيف الاسلام وعبد الله السنوسي) في ليبيا أم خارجها، لكن القرار يبقى في الأخير بيد المحكمة الجنائية الدولية. وفي اليمن نعمل بكثافة مع المجتمع المدني كما نقوم بعمل كبير في مصر، وأتوقع أن تكون الأمور أسهل في المستقبل بعد انسحاب العسكر من دائرة القرار. وفي لبنان قمنا أيضا بعمل مهم بالتعاون مع المجتمع المدني لتغطية فترة الحرب الأهلية (1975 – 1990).

ما هي العلاقة بينكم وبين المنظمات الدولية ذات العلاقة بالعدالة مثل هيومان رايتس ووتش، هل تنسقون مع بعضكم البعض؟

ديفيد تولبار: نتعاون مع هذه المنظمة وغيرها لتقديم الخبرة على أساس الحالات التي عرفناها وأهمها التجربة المغربية في العدالة الإنتقالية، وهو تعاون فني من مستوى عال، ويشكل العمل الرئيسي الذي نقوم به، فنحن لا نصدر بيانات ولا تقارير من النوع الذي تصدره المنظمات الحقوقية الدولية خلال حالات الصراع. ليس هناك توازي في عملنا، لكن دورنا يبدأ بعد الأزمات. وبياناتنا هي بيانات صحفية لا ترمي سوى للتعريف بما نقوم به.

ما هو نوع الخبرة الفنية التي تقدمونها للدول في الفترات الإنتقالية؟

ديفيد تولبار: أذكر على سبيل المثال الشيلي وغواتيمالا والأرجنتين ورواندا وجنوب أفريقيا، وأيضا المغرب حيث قدمنا نصائح قبل تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة. كما أبرزنا قضية المرأة التي عانت كثيرا وهي تستحق أيضا تعويضات وردا للإعتبار بعد وقوفها إلى جانب الزوج أو الإبن أو الأب… وهناك فئات مهمّشة أخرى كالأطفال وهي قوى لا صوت لها، وينبغي أن تأخذ موقعها في العدالة الإنتقالية. لكننا نوفق أحيانا ونفشل أحيانا أخرى. وفي ليبيريا مثلا استطعنا القيام بعمل جيد رغم ضعف منظمات المجتمع المدني. المهم أن عملية العدالة الإنتقالية هي كل متكامل من المسارات والآليات التي بغياب ركن منها تختل العملية برمتها.

كيف تُقدرون أن العملية نجحت ومتى تعتبرون أنها أخفقت؟

ديفيد تولبار: في الحقيقة ليس هناك نجاح بالمعنى الحرفي. يمكن أن نسميه نموا أو تطورا. أنظر إلى أمريكا اللاتينية مثلا فبعد ثلاثين سنة من مسارات العدالة الإنتقالية نرى الأرجنتين، التي شهدت اختطاف الآلاف وتعذيبهم أو تغييبهم، وقد غدت دولة ديموقراطية ليست فيها تعديات أو انتهاكات جسيمة. وكذلك الشأن بالنسبة للشيلي فهو مجتمع ديموقراطي يسوسه رؤساء منتخبون بشكل حر وشفاف. إنه مسار طويل وصعب ومعقد. والسؤال بالنسبة للبلدان الأخرى هو: هل هناك هيئة للحقيقة والعدالة وهل يوجد قضاء مستقل واحترام لحقوق الإنسان وإعلام يُراقب وينتقد؟ هذا مهم جدا، فعلى السلطات العمومية أن تتوقع محاسبة عسيرة من الإعلام الحر.

ما هي المشاكل والصعوبات التي تواجهونها في عملكم؟

ديفيد تولبار: هناك استراتيجيا مختلفة في كل بلد بحكم الخصوصيات، لكن يجب أن يكون هناك حد أدنى من مجتمع ديموقراطي أو على الأقل انفتاح لتركيز العدالة الإنتقالية. في الأرجنتين مثلا بعد نهاية الدكتاتورية وفي بلدان مماثلة كانت هناك تجربة صعبة وقد شملت التعاون مع المؤسسات الإنتقالية، وهذه المؤسسات تحتاج إلى عملنا وخبرتنا، فاللجان التي نرسلها تطرح عدة أسئلة فنية وخاصة هل هناك تشريع مناسب في ذلك البلد. وفي البيرو وجنوب أفريقيا كانت هناك أيضا لجان أرسلناها، وقد كنتُ في إحدى اللجان التي أرسلت إلى يوغسلافيا السابقة بعد نهاية الحرب كما كنت ممثلا خاصا في قضية الخمير الحُمر في كمبوديا ونفذنا عدة برامج هناك.

وعندما تكون سلطات البلد غير متعاونة معكم ولا تسمح لكم بالتحرك بحرية ماذا تفعلون؟

ديفيد تولبار: يجب أن يكون واضحا أننا لا نتدخل في البلدان التي تعيش أزمات أو تحكمها أنظمة استبدادية. نحن نقوم بعملياتنا في البلدان التي تشهد انفتاحا سياسيا أو التي فيها تحول فعندئذ تكون الجرائم قد تحددت وتكلمت عنها جمعيات أهلية وشخصيات عامة، فنحن نجمع تلك الوثائق ونأخذ من الدياسبورا (المهاجرون في الشتات) التي لديها أيضا معلومات، وأحيانا يكون من الصعب الحصول على تلك المعلومات في الداخل، وهي وثائق نحتاج إليها، فهذا عمل أساسي.

كيف تتعاطون مع الملف السوري؟ في أيّ خانة تضعون هذه الحالة؟

ديفيد تولبار: أعتقد أن الخطوة الأولى المهمة هي جمع الأدلة الآن، لكي نتمكن عندما يحين وقت المحاكمات من الإستناد على وثائق، وهذا ما حصل من قبل في كوسوفو والبوسنة وغيرهما، لكن لا توجد حاليا محكمة جاهزة بالنسبة لسوريا.

وكيف تجمعون الأدلة؟

ديفيد تولبار: لاشك بأنه من الصعب القيام بذلك في الظروف الراهنة، لكن هناك كثير من الأشخاص الذين يغادرون البلد إلى الخارج وهناك على سبيل المثال سماع المكالمات على جهاز اللاسلكي التي تعطينا معلومات، وهذا ما حصل في كوسوفو إذ اعتمدنا على شهادات من كانوا يدخلون ويخرجون للبلد، كما استمعنا إلى شهادات الضحايا وكذلك الحكومات الأجنبية المعنية التي تراقب الأوضاع في تلك البلدان.

يتطلب هذا التجميع وقتا طويلا وهو عمل مُعقد، ألا تسقط الجرائم بالتقادم في هذه الحالة؟

ديفيد تولبار: إذا كانت جرائم ثبت ارتكابها وكانت من النوع الذي تأكدت المسؤولية عن ارتكابها أمام هيئة قضائية مستقلة فليس هناك تحديد للزمان، والذين ارتكبوها يبقون في نظر المجتمع الدولي عرضة للمحاكمة في أي وقت. وأود أن أركز هنا على مثال أفريقيا الجنوبية الذي أعتبره نموذجا خصبا، بما حمله من دروس يمكن الاستفادة منها في التعاطي مع المجازر والجرائم ضد الإنسانية. وتتمثل المرحلة الأولى في تشكيل اللجان المكلفة بالعدالة الانتقالية وإقرار موازنات لها، أما المرحلة الثانية فهي العدالة الجنائية أي ملاحقة الجرائم، وهذا يمس المستوى الدولي. وقد لاحظنا خلال العشرين سنة الأخيرة جهدا كبيرا لتحقيق العدالة الجنائية في العالم. ومن المهم هنا أن نركز على الضحايا، فمن الضروري من أجل حفظ كرامتهم أن يُعترف لهم بوضع اجتماعي وأن يُردّ لهم الاعتبار، وهذا جزء من واجبات الدولة إزاء الضحايا. الإنصاف والتعويض واجبان على الدولة كي لا يغرق الضحية في النسيان. في المغرب حصل الضحايا على تعويضات واعترفت لجان العدالة الإنتقالية بأن المرأة عانت كثيرا كونها خسرت العائل أو فقدت الإبن أو الأخ أو الزوج.

كيف تُعرّف دور الإعلام في مسارات العدالة الانتقالية؟

ديفيد تولبار: الصحفيون يكتبون المدونة الأولى للتأريخ. هم الذين يشرحون ما يجري. يكتبون رواية لصيقة بالواقع. هم يقولون الحقيقة حول الماضي. حول ما جرى. ويضعون خطا فاصلا مع الماضي من أجل إقرار العدالة وحقوق الإنسان.

أقامت إدارة حقوق الإنسان والحريات في شبكة الجزيرة القطرية حلقة نقاشية في الدوحة يوم الأحد 4 نوفمبر 2012 حول موضوع “العدالة الإنتقالية”.

الحلقة توزعت على حصتين رئيسيتين، تم تخصيص أولاهما لشرح مفهوم العدالة الانتقالية وأبرز تجارب تطبيقها سواء في أميركا اللاتينية أو آسيا أو أوروبا (البلقان أساسا) أو إفريقيا (رواندا وجنوب أفريقيا والمغرب).

إلى جانب مداخلات كل من رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية ديفيد تولبار ووزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في تونس سمير ديلو، تحدث في الحلقة التي أدارها الزميل محمد كريشان، كل من مدير الاتصال بالمركز رفيق خوجيش ومدير البرامج كلاوديو كوردوني ومدير مركز الأمم المتحدة للتدريب (مقره في الدوحة) الدكتور عبيد أحمد عبيد ومدير مكتب المركز في شمال أفريقيا محمد عبد الدايم.

دارت المناقشات حول فكرة مركزية مفادها أن الدولة لن تستطيع استرداد ثقة الشعوب في البلدان العربية التي تمر بمرحلة انتقالية بعد الثورة، إلا بوجود عدالة انتقالية، مشددين على أنه كلما كان هناك ميراث ثقيل من القمع والإنتهاكات، زادت الحاجة إلى العدالة الانتقالية.

تم التأكيد أيضا على أن العدالة الإنتقالية ضرورية من أجل إرساء قواعد القانون وإقرار التعويضات، وهو مسار شمل حتى الآن أربعين بلدا عبر العالم.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية