مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

آلة جـبـّارة لمُطاردة العناصر المُتناهية الصغر

على عمق 100 متر من سطح الأرض، حلقة يبلغ قُـطرها 27 كيلومترا لدفع البروتونات بسرعة تقارب سرعة الضوء Brice/Marcelloni

قبل بضعة أشهر من تشغيل مصادم الهادرونات الكبير "LHC"، دعا المركز الأوروبي للأبحاث النووية "سيرن" في جنيف مؤخرا الجمهور إلى اكتشاف تلك الآلة العملاقة ومحاولة فهم لـِمَ لا يستطيع مطاردة العناصر المتناهية الصغر للمادة سوى مُصادم عملاق بذلك الحجم.

وقد فاق الإقبال كافة التوقعات إذ تجاوز عددُ الزوار 60 ألفا خلال يومين فقط احتشدوا فيها للاقتراب من “الوحش” الذي لم يسبق صنعُ مثيل له في العالم، والذي يعد ثمرة أكبر تعاون علمي على الإطلاق.

بعد أكثر من 20 عاما من البحث والتطوير وسبع سنوات من العمل، اكتست الأبواب المفتوحة التي نظمها المركز الأوروبي للأبحاث النووية “سيرن” يومي السبت والأحد 6 و 7 أبريل الجاري رونـقا خاصا، إذ أتاحت لعشرات آلاف الزوار رؤية بعض الأجزاء المُذهلة للغاية لذلك “الوحش”، أي مصادم الهادرونات الكبير “LHC”، وأيضا مُشاهدة بعض التجارب الفيزيائية المُـمتعة.

لأن وراء الأرقام، وآلاف الأطنان من المعادن، وملايين الكيلومترات من الأسلاك وميغاوات الكهرباء المُستهلكة (بما يعادل استهلاك كافة منازل كانتون جنيف)، ومليارات الفرنكات المُنفقة، ما يجري داخل الآلة العملاقة ليس سهل الفهم والاستيعاب.

على خطى خُبراء الأسلحة البالستية..

تـتمثل مهمة “سيرن” أساسا في محاولة فهم طبيعة المادة التي يتكون منها كل ما هو موجود، لذلك فإن مجال بحثه هو الـ “حبـّات” الأكثر دقة لتلك المادة، تلك الجزيئات الأولية الأصغر من الذرة، والأصغر أيضا من البروتونات والنيوترونات والإلكترونات التي تكونها.

فضلا عن أسمائها الغريبة: ميون، وليبتون، وميزون، وغلوون، وهادرون، أو بوزون، لهذه الجزيئات سلوك غير متوقع. فبعضها لا يعيش سوى لحظة لا تتعدى أجزاء من الثانية، في حين يعمل البعض الآخر كنواقل للقوى التي “تُبقي على تماسك” المادة. أما البعض الآخر، فلا يوجد حاليا إلا على الورق. لكن كافة هذه الجزيئات أساسية ليكون الكون على ما هو عليه اليوم.

ونظرا لعدم وجود مجهر لدراستها، لا يتوفر الفيزيائي على خيار آخر سوى “إطلاق” حزمات من البروتونات ضد بعضها البعض لتصادمها وتحويلها إلى جزيئات؛ وبالتالي يشبه عمله عمل خبير في الأسلحة البالستية الذي يحلل الآثار التي تخلفها الاصطدامات.

ولكي تصبح هذه الأخيرة مثيرة للاهتمام، من الضروري تعجيل البروتونات، بسرعات مُذهلة (قريبة من سرعة الضوء، أي 300000 كلم في الثانية الواحدة) وبناء أجهزة استشعار أعلى من المنازل.

وهكذا، فإن “أطلس”، أكبر تلك المُستشعرات التي رُكبت على مدار مصادم الهادرونات الكبير LHC، يـزن 7000 طن، بينما يبلغ طوله 46 مترا ويعادل كل من عرضه وعلوه 25 مترا، وهو بذلك أكبر كاشف جزئيات في العالم، بحيث يحتوي على 100 مليون جهاز استشعار ستقوم بقياس المعطيات القابلة للمقارنة المتعلقة بالجزيئات الناشئة عن عمليات الاصطدام، وكذلك طبيعتها والطاقة المتولدة عنها، كما ستتيح تلك الأجهزة تحديد مسارات الجزيئات بدقة تعادل سُمك شعرة الرأس.

الهيغز والمادة المضادة والمادة السوداء

ولا يتطلب الأمر أقل من ذلك لتكملة النماذج المقبولة عموما في فيزياء الجزيئات. وبالمُعجل التصادمي العملاق، يأمل الباحثون في التوصل أخيرا إلى الكشف عن أثر “بوزون هيغز”، (نسبة إلى العالم البريطاني بيتر هيغز)، إحدى الحلقات المفقودة في نظريتهم.

لكن قد يتوصلون أيضا إلى استنتاج مفاده أن هذه الجزيئة لا توجد أصلا؛ وهو أمر لن يكون أقل إثارة للاهتمام، حسبهم، بحيث سيجبرهم على إعادة النظر في النموذج.

أما السعي الآخر لهؤلاء الباحثين، فيتمثل في المادة المضادة (التي تشبه المادة العادية تماما في كل خواصها عدا شحنتها، فهي معكوسة) التي يعرف بعد مركز “سيرن” تصنيعها. ويتعلق الأمر هنا بفهم لم، خلال “الانفجار العظيم” (نظرية البيغ بانغ حول تكوين الكون)، خُلقت المادة بكميات أكبر من المادة المضادة.

ويفترض أن يسمح المعجل التصادمي العملاق أيضا بفهم ماهية “المادة السوداء” التي ربما تشكل ما يصل إلى 85% من كتلة الكون، والتي يرجح أن تكون مكونة من جزئيات ثقيلة وغير مرئية.

تخيلات حول نهاية العالم

يكفي ذكر بعض الأهداف التي يسعى إليها بلوغها المركز الأوروبي للأبحاث النووية ليفهم المرء لـم يثير الـ “سيرن” كل أنواع التخيلات. فمنذ نشأته في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حرص العلماء على قول وتكرار أن الحرف “ن” في الاسم المختصر لـ”سيرن” (نووي) لا علاقة له على الإطلاق بقنبلة هيروشيما، ولا، لاحقا، بكارثة تشرنوبيل.

لكن ذلك لم يمنع الكاتب الأمريكي دان براون، مؤلف “شفرة دافنتشي” (2003، إحدى الروايات الأكثر مبيعا) من تخيل مجتمع سري يريد تدمير الفاتيكان بواسطة … قنبلة من المادة المضادة سُرقت من “سيرن” في مؤلف “ملائكة وشياطين” الذي سيتم قريبا تكييف كتابته الروائية للسينما (مع توم هانكس أيضا).

وبأسلوب لا يخلو من الهزل والطرافة، وبهدف التمييز جيدا بين الواقع وخيال الروائيين، رد علماء الـ “سيرن” عبر الانترنت بأنه لا يوجد قنبلة من المادة المضادة؛ مما أدى إلى زيادة كبيرة في الإقبال على الموقع الإلكتروني للمؤسسة.

وقبل أسبوع، رفع مواطن أمريكي وآخر إسباني شكوى ضد الـ “سيرن” أمام قاض في هاواي (!)، بحجة أن المعجل التصادمي العملاق قد يحدث ثقبا أسودا يمكن أن يلتهم الأرض، وحتى الكون كله…

وهنا أيضا، كان رد فعل العلماء هادئا، إذ ذكـّروا بأنه حتى إذا كان اصطدام اثنين من البروتونات يمكن أن يولد بالفعل ثقبا أسودا صغيرا، فإن هذا الأخير سيـُحل قبل أن يتاح له الوقت لابتلاع أي شيء.

ذلك دون إغفال الحقيقة التالية: لابتلاع الأرض، يجب أن يكون الثقب الأسود، على الأقل، أثقل من الأرض. في حين تزن البروتونات التي يستخدمها المعجل النووي العملاق نحو 16 أّس ناقص 27، إلا إذا كان يوجد فأر قادر على ابتلاع النظام الشمسي…

سويس انفو – مارك-أُندري ميزري

(ترجمته من الفرنسية وعالجته إصلاح بخات)

ستدور البروتونات داخل مصادم الهيدرونات الكبير “LHC”، وهي الأحرف الأولى لاسمه بالانجليزية (The Large Hadron Collider)، بأكثر من 99% من سرعة الضوء، وهي سرعة تسمح للجزيئات بالقيام بـ11245 دورة في الثانية الواحدة حول محيط المسار الدائري المخصص لمرور الجزيئات من خلاله والبالغ 27 كلم.

وتُستخرج كل هذه البروتونات من الهيدروجين العادي. ورغم احتواء كل حزمة على كميات هائلة منها، يجب أن تدور الآلة لمدة مليون سنة لـ “حرق” غرام واحد من الهيدروجين.

اصطدام حزمتين من البروتون يُولد مستويات حرارة قد تصل إلى ألف مليار درجة. وفي ظرف جزء من الثانية، تصبح نقطة متناهية الصغر النقطة الأكثر حرارة في المجرّة.

في المقابل، سيكون قلب مُصادم الهيدرونات الكبير (LHC) أضخم آلة تجميد في العالم. 700000 لتر من الهليوم السائل تُبقي المغنطيسات في 271- درجة مئوية، وهي درجة حرارة أدنى من درجة حرارة الفضاء بين النجوم.

وستنتج كاشفات المركز الأوروبية للأبحاث النووية “سيرن” 70000 جيغابايت من البيانات في الثانية الواحدة. ومن هذه الكتلة، لن يُحتفظ للتحليل “سوى” بما يعادل 200000 قرص فيديو مدمج DVD في السنة.

ولكي يتمكن حوالي 7000 عالم فيزياء من كل القارات (باستثناء انتاركتيكا) من المشاركة في تحليل تلك البيانات، ربط الـ “سيرن” (الذي سبق أن اخترع الـ”ويب” أو “الشبكة”) عشرات آلاف أجهزة الكمبيوتر عبر شبكة لا مركزية معروفة بـاسم “غريد”.

يظل المشروع العلمي الاكثر تكلفة إلى اليوم برنامج أبولو: 135 مليار دولار لإرسال الأمريكيين على سطح القمر.

تأتي بعده:

محطة الفضاء الدولية: 100 مليار.

مشروع مانهاتان (أول قنبلة ذرية): 25 مليار.

الأقمار الاصطناعية GPS وITER مفاعل الاندماج النووي الحراري التجريبي الدولي (قيد الصنع): 14 مليار لكل منهما.

مرصد أو تلسكوب هابل الفضائي، والمعجل النووي العملاق (LHC بتكلفة 6 مليار لكل واحد منهما.

(ترجمته من الفرنسية وعالجته: إصلاح بخات)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية