مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

لعنة التعذيب تُـلاحـق الطبقة السياسية في تونس

بعد العملية الإرهابية التي كان منتجع سوسة (الصورة) السياحي مسرحا لها يوم 26 يونيو 2015 وراح ضحيتها 38 سائحا أجنبيا، اعتقلت قوات الأمن المزيد من المشتبه بهم في العديد من مناطق البلاد لاستنطاقهم ومحاولة تفكيك الخلايا النائمة. swissinfo.ch

شهدت تونس مؤخرا ضجة غير عادية، سببها خلاف شق النخبة السياسية والأوساط الحقوقية حول ما وُصف بتعرض خمسة أفراد لشبهة التعذيب بعد أن تم إيقافهم بتهم لها علاقة وثيقة بالإرهاب. ومن مجرد متهمين بالإعداد لتنفيذ عمليات خطيرة ضد مواقع حساسة في البلاد حسبما ذكرته المصادر الأمنية، تحولوا إلى ضحايا " أساليب قمعية كانت تطبق في عهد الرئيس المخلوع "، وفق ما جاء على لسان بعض المحامين المدافعين عن الموقوفين.

في العشريات الفائتة، كان الخطاب الحقوقي يشكل سلاحا قويا لكشف الطبيعة الإستبدادية لنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، أما اليوم فإن البُعد الحقوقي يتواصل بطريقة واضحة ومباشرة على لسان الجميع، لكن البعض يرى فيه وسيلة للحيلولة دون عودة المنظومة القديمة، في حين يستعمله آخرون ضمن الخُصومة السياسية للتشكيك في نوايا من يتولون السلطة اليوم، واتهامهم بأنهم ليسوا سوى جزء من “قوى الثورة المضادة”.

تمت إحالة سبعة أشخاص أمام حاكم التحقيق، وبعد النظر في ملفاتهم والإستماع لأقوالهم بدا له أن التهم الموجهة لهم لا تستند على أدلة قاطعة، فقرر الإفراج عنهم. وفي الأثناء ذكر بعضهم أنهم تعرضوا للتعذيب أثناء استنطاقهم من قبل أعوان فرقة مكافحة الإرهاب. وهو ما سجّله قلم التحقيق، لكن عند اقترابهم من باب مغادرة قصر العدالة، ذهل الأمنيون عندما سمعوا بإطلاق سراحهم، فاندفعوا نحوهم لاعتقالهم من جديد بحجة أنهم “يملكون أدلة قاطعة على خطورة هؤلاء على الأمن القومي” التونسي، فما كان من محاميهم إلا أن احتجوا بشدة على ذلك، واعتبروا الحادثة “عملية اختطاف غير قانونية”، وأطلقوا صيحة فزع، متهمين الأجهزة الأمنية بممارسة “التعذيب” في عهد الثورة.

تحركات ومُرافعات

هكذا انطلقت نقطة الزيت لتتسع رقعتها بسرعة عجيبة. وسرعان ما انتقل الخبر إلى قبة البرلمان، حيث كانت تعقد جلسة يحضرها رئيس الحكومة ووزير الداخلية. كثر الجدل وتعالت الأصوات التي تدين التعذيب وترى فيه خطيئة كبرى. وبسرعة تشكلت لجنة برلمانية توجه أعضاؤها مباشرة إلى مركز إيقاف المتهمين، واستمعوا لأقوالهم، وألقوا نظرات فاحصة على أجسامهم. ولاحظ أعضاء اللجنة أن على جسد رئيس المجموعة الموقوفة آثار ضرب تشبه ما يتركه السوط على الجسم. كما تمت معاينة بقع زرقاء على أجسام موقوفين آخرين، في حين صرح ثلاثة منهم بأنهم لم يتعرضوا للضرب خلال مرحلة الإيقاف. لكن اللجنة البرلمانية اعتبرت أنها ليست مؤهلة لتقديم شهادة كاملة وحاسمة، وأنها في حاجة للإطلاع على تقرير الطبيب الشرعي (تم تسريبه لاحقا ونشره على شبكات التواصل الإجتماعي)، القادر وحده على الحسم فيما إذا كانت الآثار التي تمت معاينتها ناتجة عن التعذيب أو أنها بسبب عوامل أخرى قد تكون قديمة أو جزء من أعراض مرضية.

في الأثناء، تحركت منظمات حقوق الإنسان، التي أصدرت بلاغا مشتركا أدانت فيه اللجوء إلى التعذيب مهما كانت خطورة التهم الموجهة للمتهمين بما في ذلك أعضاء الجماعات الإرهابية. أما رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان عبد الستار بن موسى فقد تم تمكينه من مقابلة الموقوفين، وأكد في تصريحات إعلامية أنه عاين آثار التعذيب على بعض الموقوفين، وأدان بدوره اللجوء إلى التعذيب.

هكذا وجد الأمنيون أنفسهم في موقع المُدان، فما كان من وزير الداخلية إلا أن سارع نحو نفي تهمة التعذيب، ودافع عن رجاله ونفى تهمة “اختطاف الموقوفين”، وأدان ما وصفه بـ “حملات التشويه التي يتعرض لها أبناء المؤسسة الأمنية”، وأكد أن إيقاف عناصر هذه المجموعة “تم بقرار من النيابة العمومية”، بل أعلن أن الوزارة ستقوم بتتبع كل من شارك في “حملة التشويه “.

تصريحات وزير الداخلية دفعت بعدنان منصر المسؤول السابق على الحملة الإنتخابية للمنصف المرزوقي أن طالب وزير الداخلية بالإستقالة، مصرحا لإحدى الإذاعات الخاصة أنّ “أكبر خطر على مكافحة الإرهاب هو تعذيب الموقوفين”، واعتبر أن “إيقاف 100 ألف شخص على شبهة الإرهاب معظمهم تم إطلاق سراحهم، ما يُثبت وجود خلل في طريقة المكافحة”. وبطبيعة الحال، فإن الحديث عن “إيقاف مائة ألف شخص” يحتاج إلى دليل.

وأضاف منصر لنفس الإذاعة أنّ مكافحة الإرهاب “لا تتم بأساليب بالية وقديمة أثبتت فشلها وتزيد في ظهور الظاهرة الإرهابية”، متسائلا عن “الفرق بين الدولة والعصابة الإجرامية إذا كانا يتعاطيان الأسلوب ذاته وهو التعذيب”.

نقاش مجتمعي عميق

ليست هذه المرة الأولى التي يثار فيها موضوع استمرار ممارسة التعذيب في تونس ما بعد الثورة. لكن ما يحدث اليوم هو نقاش في العمق يُخاض في أجواء غير عادية، ويدور حول مدى مشروعية حماية حقوق من يرفعون السلاح في وجه الدولة ويسعون إلى تدميرها والإطاحة بها.

وقد انتقل هذا النقاش إلى داخل الأحزاب السياسية الحاكمة وغيرها. ففي المنتدى الأول لشباب حركة النهضة، الذي عقد مؤخرا بمدينة صفاقس، انتقد بعض المشاركين قيادة حركة النهضة التي رغم تعرضها للقمع سابقا، إلا أن مواقفها الحالية تبدو غير واضحة أو متواطئة مع الحكومة التي هي جزء منها، وهو ما دفع بالبرلماني وعضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة سمير ديلو إلى رفض هذا الإنتقاد، وأكد أنه كان من بين أعضاء اللجنة البرلمانية التي كلفت بالتحقيق في ملف المعتقلين. وأكد بالخصوص على ضرورة عدم الإنسياق وراء ما تتناقله صفحات الفايسبوك وبعض الأوساط من تضخيم للأحداث دون الإستناد على معطيات دقيقة، وذلك لخدمة أجندات حزبية. وكان ديلو واضحا في التأكيد على “أهمية عدم استهداف المؤسسة الأمنية في هذا الظرف الدقيق دون الوقوع في تبرير أي انتهاكات تثبتها مصادر مُحايدة وموضوعية”. 

معادلة صعبة

هناك وجهتا نظر متناقضتين كليا. الأولى يدافع عنها الأمنيون بشكل ضمني وليس بصريح العبارة. هؤلاء يُظهرون تفهمهم لأهمية احترام حقوق الإنسان، لكن تجاربهم السابقة والثقافة التي ترسخت لديهم، وحجم الضحايا الذين سقطوا في هذه المُواجهات، جعلت معركتهم مع الإرهابيين معركة حياة أو موت. لهذا يُطالبون بأن يحاسبوا على النتائج التي يتوصلون إليها وليس بسبب وقوع “انتهاكات” يرى بعض الأمنيين بأنها “جزء من ضريبة العمل”. وهناك جزء لا بأس به من الرأي العام يدعم هذا المنطق الذي يستند عليه بعض الأمنيين.

وهناك أيضا سياسيون لا يبررون ذلك مطلقا، ولكنهم يُقرّون بأن هذه الحرب الدائرة “لا يمكن أن تكون نظيفة بالمطلق”. فقد جاء في تصريح للسيد الأزهر العكرمي، الوزير المكلف بالعلاقات بين الحكومة وبين مجلس نواب الشعب أدلى به لصحيفة يومية أن “الدليل الأساسي لدى الشرطة العدلية هو الإعتراف، وأن الإستنطاق أداة الاعتراف قد تشهد أحيانا معاملة قاسية، ولكن هذه المعاملة ليست مُمنهجة وليست سياسة الدولة”.

مُقايضة الحرية بالأمن تقضي على الإثنين معا زياد كريشان، رئيس تحرير صحيفة “المغرب”

في مقابل هذا الرأي الذي قد يدعمه الكثيرون، يعتقد حقوقيون ونشطاء وآخرون أن هذا الرأي “خطير” إلى جانب كونه خاطئ، حيث أكد زياد كريشان، رئيس تحرير صحيفة “المغرب” اليومية في افتتاحية نشرها مؤخرا أن “مُقايضة الحرية بالأمن تقضي على الإثنين معا”.

إجمالا، يُمكن القول أن ما حدث في الأيام الأخيرة بمناسبة اعتقال مجموعة السبعة ليس سوى عيّنة تكشف إلى حد كبير البحث المضني في تونس عن تحقيق معادلة صعبة بين مكافحة الإرهاب الذي يُهدّد الدول والمجتمعات في ظل تصاعد التنظيمات المسلحة التي نجحت في أن تصبح لها جيوش وأراض تنطلق منها، وبين الرغبة في بناء دولة ديمقراطية قائمة على احترام حقوق الإنسان. وهي معادلة صعبة لن تحسمها التشريعات والخطب السياسية، ولكن تعتبر الثقافة وقوى المجتمع المدني، وفي طليعتها منظمات حقوق الإنسان من الأدوات الحاسمة في بناء وعي نقدي ضروري في هذه المرحلة الإنتقالية الحاسمة.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية