مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مكافحة الفساد في المغرب العربي الكبير.. إلى أين؟

لا يخلو عصر أو مصر من ظواهر الفساد المالي والرشوة لكن وضع الآليات الناجعة والصارمة لمكافحة الظاهرة لا زال يمثل الخلل الأكبر في البلدان العربية عموما وفي المغرب العربي خصوصا swissinfo.ch

تحوّلت مكافحة الفساد إلى أحد الشِّـعارات الرئيسية التي ترفعها الحكومات العربية، وخاصة في المغرب الكبير، بعدما تواترت قضايا الرّشوة والمحسوبية، التي كشفت ضخامة الظاهرة ومنحت مصداقية للتقارير الدولية التي حذّرت من تفاقمها.

ومن المؤشرات الرّمزية اللاّفتة في هذا المجال، أن مجلس وزراء الداخلية العرب أقرّ في ختام اجتماعات دورته السابعة والعشرين المنعقدة مؤخرا في تونس، اتفاقية لمكافحة الفساد.

وفي الجزائر اتّـصلت جهات في وزارة المالية بالشركة السويسرية “أس جي أس” (sgs)، لتكليفها بمراقبة صادرات وواردات البلد، مُستَـبِـقة إقرار تدابير جديدة ضدّ الفساد.

أما في المغرب، فلوحظ أن الموضوع الوحيد الذي نوقش في ندوة أقِـيمت على هامش القمة الأوروبية المغربية الأولى في غرناطة، لم يكن سوى إصلاح القضاء ومكافحة انتشار الفساد في المجتمع المغربي.

والظاهر، أن الإتجاه إلى محاصرة الفساد بات ظاهرة عربية عامة. ففي البحرين والكويت وسِـواهما من الإمارات الخليجية، تطفو على السطح بين الفينة والأخرى قضايا فساد تكشِـف أولا عن حجم الغول الذي ينخُـر المجتمع وتبرهن في الوقت نفسه على أنه اكتسى أبعادا تجعل السلطات غير قادرة على الإستمرار في التستّـر عليه. وكشف أخيرا اعتقال الوزير البحريني منصور بن رجب، المتّـهم بالفساد وغسيل الأموال، عن وجود شبَـكة خيوط ممتدة إلى بلدين خليجيين آخرين على الأقل.

ويمكن القول أن موضوع الفساد أخذ مُـنعطّـفا جديدا في المنطقة المغاربية منذ الكشْـف عن المجموعة التي قيل أنها كانت تُـدير شبكة صفقات مشبوهة في شركة النفط الجزائرية “سوناتراك”، والتي يبدو أن محمد مزيان، رئيس مجلس الإدارة السابق، هو الذي كان يتزعّـمها.

ولوحظ أن الجزائر تعتزِم الإنتقال إلى مرحلة متقدِّمة في مكافحة الفساد، بعدما قرّر أخيرا الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تشكيل لجنة وطنية سيُـكلِّـفها بالتحقيق في الجرائم الاقتصادية الكُـبرى ومتابعة عمل المؤسسات العمومية والوزارات. وسيحصل أعضاء الهيْـئة، الذين اختيروا من ضِـمن العناصر التي سبق لها التحرّي في ملفات ”الخليفة” والطريق السيارة الرابطة بين غرب البلاد وشرقها. أكثر من ذلك، فقد قرر بوتفليقة إرسال الفريق لتلقِّـي تكوين متخصّـص في الولايات المتحدة لدى مكتب التحقيقات الفدرالي ومؤسسات رسمية أمريكية أخرى.

وأكّـد الجامعي بوجمعة بوراوي لـ swissinfo.ch أن أعضاء الفريق المؤلّـف من قُـضاة ومستشارين وخُـبراء من المجلس الوطني للمُـحاسبة وضبّـاط مختصِّـين في التّـحقيقات الجنائية المالية وقُـضاة من عدّة وزارات، تلقّـوا إشعارات في هذا المعنى، أوضحت لهم أن الهيئة الجديدة ستتكفَّـل بالتحقيقات الاقتصادية حول المشاريع الكُـبرى في الجزائر والمؤسسات الاقتصادية، وهي ستحصُـل باستمرار على بيانات من وزارة المالية، تتضمّـن كشوف البنوك وبيانات الأداء الاقتصادي المالي لمُـختلف المؤسسات، ومدفوعات الضرائب وبيانات الوزارات حوْل نشاطاتها الاقتصادية.

وتتكفّـل الهيئة أيضا بالتحقيق في جرائم تبييض الأموال والتّـهريب وتقدِّم تقارير دورية عن عملها لوزارة العدل ورئاسة الجمهورية. وأفاد بوراوي أن جناحا خُصِّـص لها في مبنى وزارة المالية وأنها في بلد نفطي، باشرت العمل هذا الشهر.

وما من شكٍّ أن النزيف المالي الذي يُسبِّـبه الفساد لميزانية الدولة ويؤدّي إلى إرباكات واضطرابات اجتماعية، أسوَة بالإضرابات الأخيرة في بلد غني بالموارد الطبيعية، شكّـل الحافز الرئيسي على إطلاق الحملة الراهنة على الفساد. وكشفت دراسة جديدة أن تحايُـل المُـستورِدين على الجمارك ودائرة الضرائب في الجزائر، يحرم الخزانة العمومية من ملايين الدولارات.

وأشار الإعلامي حفيظ صواليلي إلى أن من بين وسائل التحايُـل، خفْـض قيمة فواتير المُـنتجات مثل المواد الغذائية والفلاحية، لدى استيرادها من الخارج، وحِـرمان الخزينة من ملايين الدولارات من رسوم الإستيراد والضريبة على القيمة المضافة، ووصف خسائر الجزائر بكونها “مُـعتبرة في هذا المجال”، من دون إعطاء تفاصيل أو أرقام.

وشرح لـ swissinfo.ch، أن “من آليات التهرّب الجِـبائي والضّـريبي الأكثر شيوعا، تخفيض قيمة الفاتورة بنَـسبٍ تتَـراوح بين 30 إلى 50%، أحيانا، فيكون الرّابحان، هما الطّـرفان، أي المُـموِّن الخارجي والمُـستورِد”.

وأضاف أن بعض المُـستورِدين المحليِّـين يقومون عادَة بتأمين مَـبالغ مالية، يتمّ تقاسُـمها مع المُـموِّنين الأجانب من خلال تحويلات خارج نطاق البنوك، بعد اللجوء إلى السوق المُـوازية في مجال الصرف. واقترح حفيظ صواليلي أن يتِـم في المستقبل التّـدقيق في قيمة المواد المُـستورَدة ومُـطابقتها مع الأسعار المُـعلنة ومُـتابعة الدوائر المختصّـة، مسار الإستيراد في جميع مراحله.

وأضاف الإعلامي الجزائري “كثير من المواد، وخاصة منها الغذائية، يتمّ التعرّف على أسعارِها في البورصة يوميا. فمن غير المعقول أن يكون الفارق كبيرا بين سِـعر المادة في البورصة وسِـعرها الذي يشتريها به المستورد الجزائري، إذ هنالك موادّ مثل اللحوم والأسماك والخُـضر، تشهد أحيانا فوارق بين السِّـعر المُـعلن للشِّـراء في السوق الخارجية والسِّـعر الحقيقي المسجَّـل في التّـعاملات بالبورصة، والنتيجة، أن الفارق لا يدخُـل الخِـزانة أبدا في شكْـل حقوق جُـمركية أو رسْـم على القيمة المضافة”.

إصلاح القضاء

غير أن خُـبراء ورجال قانون اعتبَـروا أن تعزيز طواقِـم المحقِّـقين وتحسين مُـستوى خِـبرتهم، غيْـر كافِـيين، وشدّدوا على ضرورة إصلاح المنظومة القضائية بأَسْـرها، كي تكون سلاحا فعّـالا ضدّ الفساد. ورأى بعضهم أن إصلاح القضاء نفسه يحتاج إلى إصلاح.

وقال المحامي مُـقران آيت العربي في هذا السياق: “أنا قُـلت وأكَـرّر أن ما حدث منذ سنوات ويحدُث حتى اليوم، ويسمّـى إصلاح العدالة، ما هو إلا إصلاح قُـصور العدالة وإعطاءها إمكانيات أكبر”. وأضاف في تصريحات خاصة: “حقيقة، هناك مدّة أطول لتكْـوين القُـضاة وهناك ترفيع للرواتب… لكن الجوهر يبقى هو المُـتقاضي، وليس قصْـر العدالة في حدّ ذاته. فعندما نتحدّث عن حقوق الدِّفاع، هي في الحقيقة حقوق المواطنين وحقوق الدفاع إلى حدّ الآن، بعيدة كل البُـعد عن مقاييس المحاكمة العادلة”.

وعن سؤال لـ swissinfo.ch عمّـا إذا كان الجهاز القضائي نفسه خاضِـعا لنفوذ أجهزة الأمن والدّرك القوية فأجاب: “الأمن والدّرك الوطنِـيان مهامّـهما معروفة. وما يُـعرف بالاستعلامات والأمن، له مهامّ معروفة أيضا، وهي تتعلّـق بأمن الدولة وتُـصنَّف ضِـمن أسْـرار الدِّفاع الوطني، وهذه المؤسسة لها قِـسم يسمّـى الضّـبط القضائي وله مهامّ معروفة كذلك، ولكلّ جهاز هيْـئة تراقبه، لكن هناك صِـراع بين كل هذه الأجهزة وكل واحد يُـريد أن تكون قضية معيّـنة ضِـمن صلاحياته، وهذا موجود في كل الأنظمة في العالم”.

واستدلّ قُـضاة آخرون، رفضوا الكشْـف عن هوياتهم، على القيود السياسية التي تُـعرقل عمَـل القضاء بملفّ الفساد، الذي نظرت فيه أخيرا غُـرفة الإتهام بمجلس قَـضاء العاصمة الجزائر، والذي اعتبرته وسائل الإعلام المحلية، أكبر ملفّ فساد في تاريخ الجمارك الجزائرية.

وتتمثل وقائع الملفّ، الذي دُفِـن في الأدراج منذ سنة 2000 ولم يُفـرج عنه إلا أخيرا، في أن 12 من عناصر الجمارك و5 مصدّرين تواطأوا لتزوير وثائِـق تصدير نفايات حديدية وغير حديدية، وكلِّـفت العملية الخزانة خسارة قُـدِّرت بـ 3 آلاف مِـليار سنتيم جزائري.

وأفادت صحيفة “الشروق” الجزائرية، أن تفاصيل هذه القضية تعُـود إلى شهر نوفمبر من عام 2000، بعد توقيف بثّ حلقة من البرنامج التلفزيوني “المحقّـق” (الذي لم يتمكّـن الجزائريون من مُـشاهدتها إلى اليوم). وتطرّق البرنامج إلى أخطر ملفّـات الفساد على مستوى الجمارك. وقيل آنذاك، إن الجهات الأمنية المختصّـة تلقّـت أمرا من الرئيس بوتفليقة بمُـتابعة التحقيقات بحزْم، فيما أشارت صحيفة “الشروق” إلى أن رئيس الدولة وجّـه رسالة إلى شخصية أحمد أويحيى، وزير العدل آنذاك لتكليف النيابة العامة بالتحقيق في أربعة ملفّـات، من بينها صَـفقات تصدير النِّـفايات الحديدية وغير الحديدية، والتي تورَّط فيها مدير عام الإتصال والعلاقات العامة في الجمارك ومصدِّرون من القطاع الخاص.

وطلب بوتفليقة من الجهات المعْـنِـية “إحالة المتورِّطين في هذه القضايا على العدالة وإنزال سيْـف الحجّـاج عليهم”. وعلى سبيل المثال، أظهرت أوراق التحقيق، التي كشفت النِّـقاب عنها صحيفة “الشروق” أخيرا، أن قوات الجيش التي ضبطت الشّـحنات المُـعدّة للتصدير وراجعت وزْنها إدارة الغشّ، اكتشفت أن الوزن الإجمالي للحاويات، حسب تصريح المصدر، لا يتعدى 110 طنّـا وأن الوزن المُـضاد، الذي توصّـلت له إدارة الجمارك، هو 142.540 كلغ، أما الوزن الذي توصّـلت له هيئة الضابطة القضائية، فهو 264.460 كلغ. وأظهرت بشكل خاص أن ضبّـاطا في الجمارك تعمّـدوا تزوير عمليات تدقيق الوزن لكي تكون مطابقة لِـمَا أثبتته الضابطة العدلية، بالإضافة للتّـلاعب بالأسعار المرجعية للنفايات غير الحديدية، التي تُحدِّدها وزارة التجارة.

كما تمّ تحرير مَـحاضر بعدما سجّـل التليفزيون الجزائري في أواخر 2000 شريطا خُصِّـص للتحقيق في تصدير النِّـفايات الحديدية وغير الحديدية والتّـلاعبات في ملفّ استيراد الأجهزة الإلكترونية والكهرومنزلية بواسِـطة نظام “أس كادي \ سي كادي”، لكن تلك المحاضر كانت مزوّرة وأرسلت إلى الرئاسة التي أحالتها بدوْرها إلى وزارة العدل والنيابة العامة لمُـعاودة التحقيقات.

3000 ملف

وطِـبقا لقرار الإحالة، أصدَر قاضي التحقيق يوم 23 نوفمبر 2006 أمرا بتعيين خبير أسْـنِـدت له مهمّـة تحديد الأموال المستحقّـة للخزينة العمومية، جُـزئيا، في هذا الملف الضّـخم. وصدر حُـكم ضد المصدِّرين للنفايات الحديدية وغير الحديدية، مع تحديد حجم المبالغ المالية المستحقّـة لكل مصدر، لكنهم طعنوا في قرار المحكمة وقبلت هيئة الإستئناف طعْـنهم، وأحالت الملف برمّـته إلى غرفة الإتهام، لدى مجلس قضاء العاصمة، مع تشكيله تشكيلا مغايِـرا، غير أن الملف ما زال يُـراوح مكانه في أرْوِقة الدوائر القضائية.

وتحدّثت صُـحف جزائرية أخيرا عن “المصير الغامِـض لثلاثة آلاف ملف فساد” في الفترة الفاصلة بين 1994 و2000 فقط… أكثر من ذلك، كشفت أخيرا صحيفة “الشروق” أنه “تمّ إتلاف بعض الملفات الضخمة في كل من ميناء الجزائر وميناء وهران وعددها 25 ملفا، تضمّـنت عشرات مليارات من السنتيمات”، وأشارت في هذا السياق، إلى عثورها على مراسلة مؤرّخة في 3 أكتوبر 2004، صادرة عن مسؤولين بميناء الجزائر، أكّـدت ضَـياع محاضر معاينة قائلة أن عددها بلغ 19 ملفا وقدرت قيمتها الإجمالية، بحسب المراسلة، بأكثر من 30 مليار سنتيم. وأوضحت أن تلك الملفات “أصابها التَّـقادم الجُـمركي والجزائي بقوّة القانون، وهذا ما يؤدّي إلى تبديد المال العام، بفعل الإهْـمال وسوء التسيير”.

غير أن اغتيال العقيد علي التونسي، المدير العام للأمن الوطني في مكتبه يوم 25 فبراير 2010، رفع الغطاء عن الحجْـم المُـتزايد لسرطان الفساد، الذي يبدو أنه ضرَب قِـطاعات حسّاسة، وما القرار الذي أعلن عنه وزير العدل الطيب بالعيز بإحالة قاتل التونسي العقيد شعيب ولطاش على النيابة العامة، سِـوى تأكيد غير مباشر للفرضيات التي راجت في شأن تورّط الأخير في صفقات مشبوهة، ما حمله على التخلّـص من العقيد التونسي، على خلفية أنه كان وراء تحقيق حول الصفقات التي أشرف عليها الجاني بصِـفته مسؤولا على أكبر صفقة لتجهيز هيئات الشرطة في 48 ولاية بمُـعدّات الإعلام الآلي. ولم يكن الجاني يتوقّـع قرار الفصل وربّـما السجن، حسب ما ورد إليه.

ويتوقّـع مراقبون أن تُـرفَـع قضية ولطاش الغطاء عن قضايا فساد كبيرة، قد تكون مُحرجة لأطراف نافذة، ما قد يُعزِّز موقِـع الدّاعين إلى “لفلفة” القضية، والذين لم يرشح شيء عن هُـوياتهم أو مناصبهم.

معركة قديمة

ولا يختلف الوضع في المغرب عن حال الجزائر في هذا المجال ولا عن سائر البُـلدان المغاربية الأخرى، وإن بدرجات مُـتفاوتة وباختلاف في مستوى الكشف عن القِـسم العائم من جبَـل الجليد الضّـارب عميقا في البناء المجتمعي. ويمكن القول أن أول إعلان حرْب على الفساد في المغرب، صدر في أواخر حُـكم الملك الراحل الحسن الثاني، والذي سبق الإطاحة بوزير الداخلية القوي إدريس البصري في أواخر التسعينات، إذ مهَّـد لتنحِـيته بضرب رجاله البارزين، وفي مقدمتهم محافظ الأمن الشهير ثابت الذي ملأت محاكمته الدنيا وشغلت قصَـص الفساد، التي كشفت النقاب عنها الناس أشهرا طويلة.

وتتالت قضايا الفساد بعد الحسْـم القضائي في ملفات ثابت، وتهاوَت رؤوس كبيرة أُطِـيح بها سياسيا أو قضائيا، في مسار اعتُـبر تصفِـية لحِـقبة الحسن الثاني وفتحا لصفحة جديدة اعتُـبرت بيضاء، غير أن الفساد عاد ليطفُـو على السطح مجدّدا، وخاصة من خلال التقارير الدورية، التي دأبت على إصدارها منظمة “الشفافية العالمية”، المعروفة باسم “ترانسبارينسي”، والتي سُـمح لها بفتح فرع في المغرب، وهي خُـطوة لم تتجاسَـر بلدان مغاربية أخرى على قَـطعها.

واعتبرت نوارة باشوش، الصحفية في جريدة “العلم” الناطقة باسم “الإستقلال” حزب رئيس الحكومة، أن ملفّ الفساد ما زال في قلْـب العلاقات بين المغرب وشريكه الرئيسي الإتحاد الأوروبي. وأشارت إلى أن الوفْـد المغربي أكّـد أمام المُـنتدى الإسباني – المغربي، الذي عُـقد في غرناطة أخيرا، على هامش القمة الأولى بين الاتحاد والمغرب، أن إصلاح القضاء “يشكِّـل خِـيارا لا رجعة عنه، بوصفه العَـمود الفِـقري للديمقراطية”.

ويوافق خبراء كُـثر على أن إصلاح القضاء ومنحه مقوِّمات الإستقلال والنظافة، يشكلان المدخَـل الأفضل لمكافحة الفساد. وقال الخبير المالي التونسي محمود البارودي لـ swissinfo.ch، إن استمرار استشراء الفساد يكلِّـف البلدان المعنِـية خسارة صافية تُقدر بنقطتيْـن إلى ثلاث نقاط من نمُـوها. ومعلوم أن متوسط نِـسبة النمو المتوقّـعة في السنة الجارية في البلدان المغاربية، لا تتجاوز تلك النِّـسبة، ما يعني أن المحاربة الجادّة والمنهجية للفساد، ستضاعف من نسبة النُـمو المحقّـقة.

ولكن، ماذا أعَـدّت السلطات المسؤولة في البلدان المغاربية لمكافحة الفساد؟

في الجزائر، حيث يتخذ الفساد حجْـما ضخما بحُـكم أهمية مواردها، أدانت محكمة الجنح في حاسي مسعود مطلع الشهر الجاري في جلسة علنية، أربعة كوادر من مؤسسة الأشغال المتخصّـصة في الآبار النفطية Entpe، وهي إحدى فروع مجموعة سوناتراك. وكانت القضية أسالت الكثير من الحِـبر بسبب تكوين شركة “ألباس” الوهمية، في حين برّأت نفس الهيئة الرئيس المدير العام السابق لشركة Entpe .

بلخادم وأويحيى

غير أن الأوساط المُـستفيدة من الفساد والتّـلاعب بالمال العام، تُعرقِـل أي خطوة إصلاحية، فـ “الهيئة الوطنية للوِقاية من الفساد” لم تَـر النور طيلة سنوات، على رغم تكليف الحكومة بإصدار النصوص التنظيمية، التي تسمح بتكوينها منذ سنة 2005 في عهد عبد العزيز بلخادم. وتمّ تجديد التكليف بعد تسلّـم غريمه أحمد أويحيى رئاسة الحكومة، لكن لم يتقدّم التنفيذ قيْـد أنملة، مع ذلك، تم أخيرا تسريب تقارير سرِية أبلغت إلى الرئيس بوتفليقة وكشفت عن خسائر تكبّـدتها الخزانة العمومية، تجاوزت قيمتها 7 مليارات دولار.

وقال عبد الوهاب بوكروح، إن الكيْـل طفح بعد سلسلة التقارير المفصّـلة التي بلغت بوتفليقة من مصادر مختلفة، أجمعت على خطورة الوضع، على غِـرار حادثة استيراد مائة ألف ثلاجة من أوروبا بأسعار مخفَّـضة جدّا لا تتعدّى 3 يورو أي 300 دينار جزائري للثلاجة، وتمّـت جمركتها على أساس هذا السِّـعر الغريب، بهدف إغراق السوق الوطنية بهذا المنتوج الذي يقدّر سِـعره الحقيقي بـ 280 يورو، ممّـا يسهِّـل لبعض العناصر خنْـق المؤسسة الوطنية للمواد الكهرومنزلية، التي توجد ورشاتها في ولاية تيزي أوزو ودفعها نحو الموْت المؤكد. وأحيلت هذه القضية على محكمة سيدي امحمد بالعاصمة الجزائر، فقرّرت إدانة 20 متورِّطا فيها بالسِّـجن النافذ.

وقدّر خبراء الأضرار التي لحِـقت الخِـزانة العمومية جراءها بـ 180 مليار سنتيم، ما حفَّـز السلطات العليا على تعقّـب مُـرتكبي تِـقنية التصريح المخفّـض بقيمة السِّـلع، بغرض الإثراء غير المشروع عن طريق التهرّب الضريبي والجبائي، لكن المفارقة، أن رجال الجمارك الذين كشفوا عن تلك الجريمة، تعرّضوا للمعاقبة، وهي القضية التي بلغت الرئيس بوتفليقة ليطَّـلع على عيِّـنة من الفساد الذي بلغته إدارة الجمارك.

وحذر معلِّـقون من تأخير صدور المراسيم التطبيقية للمادة القانونية الجديدة، لأن التأخير سيفتح باب التلاعُـب على مِـصراعيه أمام اللوبيات المختلفة المعشّـشة في إدارة الجمارك والإدارة الاقتصادية، على حدّ قولهم. ونفس المصير تلقاه هيئة مهمّـة جدا في حماية المال العام، وهو مجلس المحاسبة، الذي قيل إنه يعيش حالة موْت سريري، إذ جُمِّـدت أعماله على الرّغم من أن له صلاحية الفصْـل في أحكام قضائية قابِـلة للتنفيذ، وتحويل الملفات للقضاء العادي لتنفيذ الأحكام المتعلِّـقة بالسجن أو الغرامات الجزائية. وعزا مراقبون عرقلته إلى إرادة التجميد، الصادرة عن جهات نافذة، لم يريدوا الكشف عن هُـويتها.

ولاحظوا أن الرئيس بوتفليقة التفّ على البرلمان بسَـنّ مرسوم رئاسي، كي لا يضيع التعديل القانوني في متاهات البيروقراطية بين غرفتَـي البرلمان، فتنقَـضّ عليه مجموعات المافيا المتربِّـصة بقطاع التجارة الخارجية، والتي “تحذق التلاعب بالقوانين والتشريعات، لجعلها تصُـب في مصلحتها” حسب تأكيد البعض، وأشاروا إلى محاولة وَأْد التعديل في المهْـد، إذ تحجّـجت المافيات بضرورة فتح نقاش حول تعديل قانون الجمارك وإشراك نواب المجلس الشعبي الوطني (المخوّل دستوريا لتشريع القوانين)، متحجّـجين بأن الإجراء “يشكِّـل تعديا على السيادة الوطنية، بعد ما تصبح تحت رحمة الشركات الأجنبية، التي ستستفيد من مداخيل هامّـة بالعُـملة الصعبة، تتراوح ما بين 500 مليون دولار ومليار دولار سنويا، وهي المبالغ التي كانت تذهب سنويا إلى الخزانة العمومية”.

وتدعم المنظمات والهيئات الدولية المختصّـة مثل هذا الموقف الصارم، وفي مقدِّمتها المنظمة العالمية للجمارك وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة. وفي هذا السياق، قرّر الرئيس بوتفليقة في ضوء الملف الشامل عن الفساد الذي تلقّـاه، تحويل صلاحيات المراقبة من الجمارك الجزائرية إلى شركات أجنبية متخصِّـصة تعتمدها السلطة التنفيذية من خلال مراسيم تضبط لها عملها، وفي حال المخالفة، يتم اللجوء ليُفسخ العقد المُـبرم بينها وبين الدولة الجزائرية، مع إمكانية ملاحقتها جزائيا وإلزامها بدفع التعويض أمام الهيئات الدولية المتخصّصة.

وعلمت swissinfo.ch أن مِـن بين الشركات المتخصصة التي اتّـصلت بها بعض الأطراف الجزائرية، بطريقة غير قانونية وغير شرعية، شركة “أس جي أس” (SGS) المعروفة (مقرها جنيف) ، وتنشط هذه المجموعة في مجالات المراقبة وتسيير المخاطر والاستشارة التِّـقنية والتكوين والتحليل في مجالات الصناعات الغذائية والمنتوجات الفلاحية والسِّـلع الاستهلاكية المختلفة ومجالات البيئة والخدمات المختلفة والصناعة والمنتوجات الصيدلانية، إضافة إلى النفط والغاز والمواد الكميائية والتدقيق والمصادقة على الجودة.

وفي هذا السياق علمت swissinfo.ch أن الوزير الأول الجزائري أحمد أويحيى وجّـه منشورا وزاريا داخليا إلى كامل الشركات العمومية ومؤسسات الدولة تضمن استمارة شاغِـرة عنوانها “تعهـد بالاستقامة”، تلتزم بمُـوجبها الشركات الأجنبية المتعاقدة مع مؤسسات جزائرية، بالامتناع عن منح رشاوى وإغراءات، مهْـما كان نوعها وقيمتها، للأعوان العموميين في الشركات والهيئات التابعة للدولة، سواء كانت تلك الرّشاوى على شكل هدايا وعطايا أو تربُّـصات وتكوينات في الخارج على حسابها أو سفريات استعلامية أو تكوينية. وتوعّـدت الحكومة باتخاذ إجراءات صارمة ضدّ الشركات المخالفة التي يثبت تورّطها في هذه الممارسات، تصل إلى حد تسجيلها في القائمة السوداء للمتعاملين، وفسخ العقد المُـبرم معها ومتابعتها قضائيا.

ما من شك في أن مثل هذه الإجراءات ستُخفّـف من حجم الفساد وتجعل بعض الضالِـعين فيه محلّ ملاحقات قضائية، إلا أن الظاهرة انتشرت في السنوات الأخيرة بأحجام لافتة في جميع البلدان المغاربية واستطرادا العربية، ما جعل مجلس وزراء الداخلية العرب يخصِّـص له بندا مستقلا في دورته الأخيرة، ويُـصادق على اتفاقية عربية لمكافحته.

غير أن الخبراء يؤكِّـدون أن الظاهرة بصدد التوسّـع على نحو جعل اجتثاثها اليوم هدفا صعبَ المنال بسبب غموض لُـعبة اللوبيات وحذاقة المحترفين الذين يُخفون أوراقهم جيِّـدا وقُـدرتهم على شراء تواطئ موظفين عموميين من مستويات مختلفة أو على الأقل ضمان صمتهم.

تونس – رشيد خشانة – swissinfo.ch

أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي / المكتب الإقليمي للدول العربية برنامج إدارة الحكم في الدول العربية أوائل عام 2000.

وتم إنشاء برنامج إدارة الحكم في الدول العربية بناء لطلب الحكومات العربية، وبالتالي فإن البرنامج يتناول تحديدا ويلبي الاحتياجات والقضايا القطرية موضع اهتمام هذه الحكومات.

ويكرّس برنامج إدارة الحكم في الدول العربية جهده لتعزيز وتطوير ممارسات إدارة الحكم الرشيد والإصلاحات ذات الصلة في الدول العربية بالتناغم مع تقارير التنمية الإنسانية العربية.

يعمل برنامج إدارة الحكم في الدول العربية بالشراكة مع مؤسسات إدارة الحكم الرئيسية في المنطقة العربية، بما فيها الهيئات التشريعية والقضائية ومنظمات المجتمع المدني، للتوصل إلى تحديد الاحتياجات وطرح الحلول المتعلقة بتلبيتها أو تحقيقها.

يقدم البرنامج طيفا واسعا من الخدمات والأنشطة التي تدعم ركائز الحكم الرشيد الثلاث وهي: المشاركة وسيادة القانون والشفافية والمساءلة.

تتضمن الموضوعات أو الأبعاد الجوهرية العشرة لإدارة الحكم في الدول العربية المبادئ المعيارية للمشاركة وسيادة القانون والمساءلة والشفافية.

(المصدر: الموقع الرسمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي / المكتب الإقليمي للدول العربية)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية