مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مواطنة سويـسرية .. بـقـلب مغـربي!

swissinfo.ch

قصةٌ مُثيرة لسيدة سويسرية يُناهز عمرها السبعين. تتمتع بحيوية قد تثير غبطة شباب اليوم. ذهبَت إلى المغرب للعمل التطوعي لمدة عام، فشدتها أراضيه لأكثر من 44 عاما.

شاء القدر أن تلتقي بزوجها، السويسري أيضا، في خيام منكوبي زلزال أغادير عام 1960. تتحدث الأمازيغية واللهجة المغربية، وتزاول نشاطات مختلفة من بينها أمانة صندوق “كاريتاس” الخيرية.

كان شوقي كبيرا للقاء السيدة آن دوباسكيي.. فقبل زيارتي لها في مدينة أغادير جنوب المغرب، تحدثت معها عبر الهاتف في ثلاث مناسبات -على الأقل- للاتفاق على الخطوط العريضة لحوارها مع “سويس انفو” وتأكيد موعد ومكان اللقاء…

دهشتي كانت كبيرة أيضا عندما أجابتني هذه المواطنة السويسرية لدى اتصالي الهاتفي الثاني بلهجة مغربية قحة قائلة: “إصلاح، بـِخير؟” (كيف حالك؟). نطقـَت بحرفي الحاء والخاء وبالعبارة أكملها مثل أي مواطن مغربي. وعلمت بالمناسبة أنها تفهم اللهجة المغربية وتـتحدث حتى الأمازيغية.

شعرت ببعض الخجل لكوني لا أعلم إلا ثلاث كلمات بربرية.. أنا المغربية! لكنها تعيش في إقليم سوس الجنوبي منذ 44 عاما، تتنفس هواءه وتعاشر ناسه، فلـِم لا الحديث بلسانه؟

لدى وصولي إلى مطار أغادير، كانت تنتظرني حاملة راية سويسرية صغيرة تحت شمس حارة في أواخر شهر نوفمبر! نظرت إلى بشرتها السمراء والساطعة وقلت لها “نحن لا نحلم بمثل هذا الجو في سويسرا في هذه الفترة، أفهم ربما لم اخترتم العيش هنا”..

زلزال أغادير يغير مجرى حياتها

استضافتني في بيتها للحديث عن مشوار استثنائي. خلف حديقتها الكبيرة التي حولتها إلى مزرعة صغيرة تعيش فيها حيوانات مختلفة، توجد الكنيسة الكاثوليكية التي تعمل فيها، هي البروتستانتية، كأمينة صندوق جمعية “كاريتاس الخيرية”.

إقامتها في المغرب لم تكن مُبرمجة بصفة مُسبقة. فهي قدمت إليه بعد حصولها على شهادة في الهندسة الزراعية بسويسرا عام 1958 للعمل التطوعي لمدة سنة ضمن جمعية تنموية أمريكية الأصل كانت تدير مشاريع لتربية المواشي في مدينتي مكناس ووجدة.

ويوم 29 فبراير 1960، تحركت الأرض بعنف تحت مدينة أغادير التي عاشت أسوأ زلزال شهده المغرب. فاضطر فريق السيدة باسكيي إلى التحول على الفور إلى المدينة المنكوبة لتقديم المساعدات الإنسانية من أدوية وخيام وأغطية، والمساهمة في إصلاح خزانات المياه في القرى المجاورة لأغادير.

وفي إنزغان القريبة من المدينة المُدمرة، دعي فريق السيدة لدى فرنسيين كانوا قد نصبوا خياما كثيرة في حديقتهم لإيواء عدد كبير من المنكوبين. وتحت إحدى هذه الخيام، شاء القدر أن تلتقي السيدة آن، التي كانت شابة في السادسة والعشرين، برفيق عمرها السويسري فانسون دوباسكيي الذي فقد منزله إثر الزلزال.

لقاءهما في تلك الظروف المأساوية انتهى بالزواج. السيد دوباسكيي، أراد الذهاب إلى فرنسا بعد الكارثة، لكن زوجته أقنعته بالبقاء قائلة إن المدينة تحتاج إليهما أيضا لإعادة بناءها خاصة أن السيد دوباسكيي مهندس متخصص في مسح الأراضي. وبعد القرار الذي اتخذه الملك الراحل محمد الخامس عام 1961 ببناء مدينة جدية في نفس المكان، قرر الزوجان المساهمة في إعادة إعمار أغادير وعملا معا كشريكين في مجال الهندسة.

تمسك بـ”التنمية المستديمة”

تستيقظ كل اليوم في الساعة الخامسة صباحا. لا غرابة في ذلك.. فجدول عملها لا يتطلب على ما يبدو أقل من 14 أو 15 ساعة. فضلا عن أنها معتادة منذ أن كانت في سويسرا على الحياة في المزرعة والقيام باكرا.

نشاطاتها متنوعة ومختلفة، تنموية وقنصلية ورياضية. ففي إطار عملها كأمينة صندوق فرع منظمة “كاريتاس” الخيرية في المغرب، ساهمت السيدة دوباسكيي في تطوير أسلوب ومجالات عمل الفرع. وقالت بهذا الشأن: “لقد طورنا كاريتاس التي كانت مشروعا صغيرا لتوزيع المساعدات من مال وأدوية على الفقراء، وقلنا يجب أن ننشط في مجال التنمية المستديمة”.

واستنادا لهذا المبدأ، شرعت كاريتاس في حفر آبار للمياه الصالحة للشرب، وقامت قبل عامين بحفر بئر في منطقة جبلية قرب أغادير لإعادة تنشيط الزراعة الجبلية التي كانت ميته لمدة عشر سنوات بسبب شح المياه.

وأشارت السيدة دوباسكيي أن تلك الخطوة التي سمحت بانتعاش الزراعة مجددا في تلك المنطقة، حثت قرى مجاورة على القيام بالمثل. وكانت النتيجة أن تمكنت القرى من تلبية حاجياتها الشخصية من المنتجات الزراعية، بل وأيضا فتح أسواق صغيرة لبيع الخضر. وخطوة تلو الأخرى، بدأت تسترعي القرى اهتمام الأشغال العمومية ووزارة الفلاحة التي ساعدت المنطقة بتعبيد الطريق وحفر ساقية على طول 200 متر.

وبسعادة ورضا، تشير السيدة دوباسكيي أن كاريتاس تقوم بـ”دور المُحـَفِّز والوسيط، والبذرة الجديدة التي تفتح الطريق”. وتنوه في هذا السياق إلى أهمية عامل الحياد في عمل الجمعية الذي يمنحها ثقة السكان المحليين –الذين غالبا ما يترددون في التعاون من أجل القرية خشية من استيلاء بعض المسؤولين عن الأموال.

لكن المساعدة التي تقدمها كاريتاس مشروطة بمساهمة المعنيين بـ25% على الأقل من إجمالي نفقات المشروع لضمان إشراكهم الفعلي في سيره، ثم تمرير إدارته لهم لاحقا.

مهام قنصلية وهوايات رياضية

لكن المساعدات التنموية، من مساعدة المزارعين وسكان القرى المعزولة عموما، ليست سوى جزء من الأعمال اليومية للسيدة دوباسكيي، فهي مُكلفة أيضا من قبل السفارة السويسرية في الرباط بتنفيذ بعض المهمات القنصلية مثل حل بعض مشاكل الجالية السويسرية في أغادير التي يقطن فيها حسب تقديرها ما لا يقل عن 50 متقاعد سويسري.

مشاكل هذه الجالية كانت تتعلق أساسا في الماضي بالشبان “الهيبي” الذي كانوا يزورون المغرب لتدخين الحشيش وينهون عطلتهم في سجون إنزغان قرب أغادير. وكانت السفارة تبعث للسيدة دوباسكي أوراقا رسمية لزيارة السجناء السويسريين واتخاذ الإجراءات اللازمة لدفع الغرامات والاتصال بأسرهم في سويسرا…

أما مشاكل الجالية اليوم، فترتبط بالدرجة الأولى بالأشخاص المسنين المرضى الذين يعيشون لوحدهم، والذين لا يتوفرون على الإمكانيات المادية الكافية للعلاج والرعاية الطبية. وتتولى السيدة دوباسكيي مهمة زيارتهم والبحث عن السبل الكفيلة لمساعدتهم. وكم استغربت عندما سمعت أن سويسريين يعيشون ضعفاء الحال في المغرب.

وإلى جانب هذه المهام التي تتطلب إجراءات إدارية لا يُستهان بها، خاصة في بلدان معروفة ببطءها في هذا المجال، تجد السيدة دوباسكيي الوقت لهوايتها المفضلة في نادي الفروسية للأطفال الذي أنشأته قبل أربعة أعوام. وكانت قد أسست في عام 1965 نادي فروسية للكبار مع بعض الأصدقاء، لكن مع تقدمها في السن، فضلت تلقين ركوب الخيل للجيل الصاعد.

تغييرات كبيرة

44 عاما في أغادير ليست هينة، بل عمر عايشت فيه السيدة دوباسكيي تغييرات وصفتها بـ”الكبيرة في المغرب” خاصة على مستوى حرية التعبير في وسائل الإعلام، وعلى مستوى تحرك المجتمع المدني وتعزيز حقوق المرأة. وتتذكر السيدة دوباسكيي أولى أيامها في المغرب قائلة: “عندما أتيت، لم أكن أرى امرأة واحدة في الشارع”. وتضيف في سياق الحريات: “الآن هنالك نقاش، والكل يعبر عن رأيه، قبل عشر سنوات كان يُمكن أن يُسجن الشخص (…) لكن هذا لا يمنع من وقوع انزلاقات (من طرف المواطنين)”.

السيدة دوباسكيي التي قالت بكل بساطة إنها لا تحرص على متابعة الأحداث في سويسرا، أعربت، بـ”قلبها المغربي” عن اعتقادها أن الأمور في بلدها المُضيف تسير في الاتجاه الصحيح رغم النقائص.

تحدثت بحزن عن الشباب الذين يغامرون بحياتهم في قوارب الموت، عن سلسلة الرشوة التي لم تُكسر نهائيا بعد مع الإشارة إلى الحملة الحكومية الجارية لمكافحتها، عن ضرورة توفير أجور أفضل وتسهيل الاستثمارات في المغرب للحفاظ على عقوله التي لا تتردد في هجرة موطنها…

وحين سألتها ما الذي يمكن أن نأخذ من سويسرا لكي يكون المغرب بلدا مثاليا، قالت الدقة وإتقان العمل. وماذا يمكن أن يعطي المغرب لسويسرا؟ لم تتردد السيدة دوباسكيي في ذكر دفئ العلاقات الإنسانية والاستمتاع بالحياة دون كثرة القوانين التي تدير كل تفاصيل الحياة في سويسرا، “مثل عدم طرق مسمار واحد يوم الأحد لأنه يوم عطلة”..

سويس انفو – إصلاح بخات – أغادير

تقيم السيدة آن دوباسكيي في المغرب منذ 44 عاما
من مواليد 1935 بمدينة دوليمون بكانتون الجورا الذي كان في تلك الفترة ينتمي لكانتون برن
حصلت في زيوريخ عام 1958 على شهادة مهندسة زراعية
متزوجة من سويسري وصل إلى المغرب قبلها
أم لولدين وبنت، وجدة لثلاثة أحفاد
السيدة دوباسكيي البروتستانتية الديانة تدير خزينة جمعية “كاريتاس المغرب” الخيرية الكاثوليكية
هي مُكلفة أيضا من قبل السفارة السويسرية في الرباط ببعض المهام القنصلية
أنشأت نادي للفروسية عام 1965 مع بعض الأصدقاء
في عام 2000، بسبب تقدمها في السن، أنشأت نادي فروسية للصغار

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية