مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

نحو “حلف مركزي” جديد؟

يمهد الإتفاق التركي الأمريكي في المجال العسكري الطريق أمام اعتماد "الوثيقة السياسية" المتعلقة بمستقبل العراق. في الصورة الجنرال ريتشارد مايرز رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية رفقة نظيره التركي الجنرال حلمي أوزكوك لدى وصوله إلى أنقرة يوم 20 فبراير 2003 Keystone

مثلما كان متوقعا توصلت تركيا إلى الإتفاق مع الولايات المتحدة حول الجانب المتعلق بالتعاون العسكري بشأن الهجوم المرتقب على العراق.

لكن ما يتردد عن مضمون “الوثيقة السياسية” التي جرى بحثها بين الطرفين يثير العديد من التساؤلات حول مستقبل الدور التركي في شمال العراق بوجه خاص.

بعد أن اختتم عبد الله غول رئيس الحكومة التركية جهوده من أجل حل سلمي للأزمة العراقية بقوله إنه “لا جُـنحة بعد اليوم علينا” والتذكير بأنه “لم يبذل بلد جهدا من أجل السلام مثلما فعلت تركيا”، انتقلت أنقرة بما تمثله من فريق عمل متكامل وموحد يشمل “رئاسة الجمهورية-المؤسسة العسكرية–الحكومة” إلى المرحلة الجدية في التعامل مع الملف العراقي.

فبعد أسابيع من رفع شعار معارضة الحرب ومحاولة منعها – وفي ذلك مصلحة تركية أكيدة -كان على أنقرة أن تندرج في مشروع الحرب الأمريكية على العراق إذا كانت حاصلة لا محالة.

لكنها اشترطت أن يتم ذلك في إطار الشرعية الدولية عبر قرار صادر عن مجلس الأمن أو من خلال قرار لحلف شمال الأطلسي. وبما أن الحلف يقف عمليا خارج الحرب المحتملة، بل شهد إنقساما خطيرا لتغليب ما سُـمّي “منطق السلام” على “منطق الحرب”، كان على أنقرة أن تنتظر ما سيقرر مجلس الأمن الدولي في ضوء تقارير هانس بليكس ومحمد البرادعي.

في هذا الوقت، كانت واشنطن تضغط على تركيا للإنضمام إلى الإستعدادات العسكرية من خلال السماح بفتح جبهة شمالية ضد بغداد وتمركز قوات أمريكية على الأراضي التركية. وبما أن التقرير الأول للمفتشين الدوليين لم يحمل إشارات قوية على وجود “خرق مادي” للقرار 1441 من جانب العراق، فقد كان على أنقرة أن تنتظر التقرير الثاني للمفتشين في 14 مارس من أجل حسم موقفها من المشاركة في الحرب ضد العراق.

التحول الجذري

غير أن الموقف التركي شهد بين 27 يناير و14 فبراير تحولا “جذريا” لجهة ما هو معلن عنه.

فتحدث رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم عن أن تركيا “لا يمكن أن تبقى خارج المعادلة” وأنه “إذا بقينا خارج العملية، فلن يكون ممكنا ان نكون في وضع يوجّه التطورات في النهاية. يمكن أن يتعرض أمننا القومي للخطر ويجب أن نفكر في مصالح بلدنا على المدى البعيد”.

وذهب عبد الله غول المذهب نفسه عندما صرح “يجب أن نكون واقعيين إذا نشبت الحرب. بعد الآن لا يمكن لتركيا أن تغفل مصالحها الوطنية. هذا له الأولوية. بعد الآن لا نستطيع أن نكون خارج هذا الشأن. يجب ألا نقول ذلك. ويجب أن نتحرك سوية من زاوية مصالحنا الوطنية، مع الولايات المتحدة، شريكنا الإستراتيجي وحليفنا”.

حسمت أنقرة بهذا الموقف خيارها: المشاركة في الحرب الأمريكية على العراق من جهة وبمعزل عن قرارات الشرعية الدولية من جهة أخرى. فها هو عبد الله غول يتجاوز القانون الدولي بقوله “إننا نفضل صدور قرار عن مجلس الأمن. لكن النظر إلى قرارات الأمم المتحدة على أنها لوحدها مؤشر شرعية هي نظرة ضيقة. الأمم المتحدة ليست محكمة بل هيئة سياسية. الموقف المشترك لدول بأعداد كبيرة، حتى إن لم يتحوّل إلى قرار أمم متحدة، يكتسب مشروعيته”.

المصالح التركية أولا!

ويرى الخبراء أنه إذا شاركت تركيا الولايات المتحدة في حربها ضد العراق، فانها قد تكون متجاوزة للشرعية الدولية بل كذلك لاحكام الدستور التركي الذي تنص مادته 92 على أنه “لا يمكن إرسال قوات عسكرية تركية إلى الخارج وتمركز قوات أجنبية على الأراضي التركية إلا في حالات الحرب التي تكتسب مشروعية في القانون الدولي”.

ويجمع القانونيون الأتراك أن ذلك يعني بالتحديد “إعتداء خارجيا على تركيا أو صدور قرار عن الأمم المتحدة أو تحركا لحلف شمال الأطلسي (حيث أن تركيا عضو فيه).

وبما أن تركيا لم تتعرض لعدوان من جانب العراق، ولم يصدر (لحد الآن) قرار عن مجلس الأمن الدولي ولم يتخذ حلف شمال الأطلسي أي قرار بهذا الخصوص، فإن مواقف تركيا الحالية مشاركة أمريكا الحرب على العراق هو تجاوز للقانون الدولي ولأحكام الدستور التركي وأيضا لقواعد حسن الجوار في العلاقات الدولية. فكيف إذا كان هذا البلد جارا جغرافيا أبديا لتركيا مثل العراق؟

لقد اتخذت تركيا قرار المغامرة وغلبت “المصالح التركية” الخالصة، مديرة الظهر لكل مضاعفات ذلك على العلاقات المستقبلية بين دول المنطقة وشعوبها.

السياسة أولا!

ومن الملفت في هذا السياق أن تركيا تنتهج في مفاوضاتها الحالية مع الولايات المتحدة النهج نفسه الذي رسمه واضعو وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي نُشرت في سبتمبر الماضي، أي خوض حروب إستباقية والقضاء على الخطر قبل أن يظهر أو يستفحل.

وعلى هذا الأساس يتحول العراق، في العين التركية إلى محمية أو إلى “أرض مستباحة” بالكامل، فتتفاوض أنقرة بشأنه مع واشنطن كما لو أنه تحول إلى إحدى المحافظات التركية.

لا يخفى على أحد أن تركيا تعرضت لخسائر إقتصادية كبيرة من جراء حرب الخليج الثانية يقدرها البعض بما بين 40 و50 مليار دولار، ومن حق أنقرة أن تسعى لضمان التعويض المُـسبق من أمريكا عن أية خسائر محتملة من الحرب العراقية المتوقعة. لكن الجانب المالي من المفاوضات التركية – الأمريكية – على أهميته – لا يعكس “عـصُـب” المفاوضات الأساسي وهو الشق السياسي.

الأكراد .. والنفط

إن الهاجس الرئيسي لأنقرة من مجمل مسألة العراق هو وضع الأكراد العراقيين، والمعلومات التي تظهر عن فحوى “الوثيقة السياسية” التي تتفاوض أنقرة وواشنطن عليها تعكس رغبة أنقرة وتصميمها على ألا تترك أي ثغرة قد “ينفذ” منها الأكراد العراقيون.

فتركيا تطالب، بعد انتهاء الحرب، بنزع سلاح الأكراد، إلا خفيفه، وبإنشاء جيش عراقي موحد، وبعدم دخول الأكراد إلى مدينتي الموصل وكركوك، وبعدم تحكم أي فئة عراقية (المقصود هنا الأكراد) بالنفط العراقي. وترفض أنقرة تأسيس عراق جديد على أساس فدرالي، وتطالب بأن يكون التركمان “عنصرا مؤسسا” للعراق “الجديد” مع العرب والأكراد.

وأكثر من ذلك، تريد أنقرة حصة من نفط العراق تحت عنوان “تعويضات الحرب”، وأن يكون لها كذلك عضو مشارك في “الإدارة الأمريكية” التي ستحكم العراق بعد الإطاحة بالنظام الحالي.

تورط كامل

إن “الطبيعة الخطرة” لما يرشح عن “الوثيقة السياسية” التي يجري التفاوض عليها بين واشنطن وأنقرة تعكس تورطا تركيا كاملا في المسألة العراقية، وما يظهر من “خلافات” أو “مقاومة” تركية لبعض العروض الأمريكية، يقع في باب “إخراج” التفاهم التركي الأمريكي على أفضل صوره المقنعة أمام الرأي العام (التركي أساسا) وأمام القاعدة الشعبية ذات التوجهات الإسلامية لحزب العدالة والتنمية الحاكم والتي تعارض بالكامل مجمل نهج الحزب والحكومة تجاه المسألة العراقية.

وإذا اكتمل التفاهم التركي – الأمريكي وهو الأرجح، وإذا أخذ طريقة للتنفيذ الميداني، فإن العراق والمنطقة عموما سيكونان أمام “سايكس بيكو” تركية – أمريكية جديدة تفتح أمام تحولات خطيرة سيكون ضحاياها العرب والأكراد، فيما المستفيد الأول المثلث “التركي – الأمريكي – الإسرائيلي”.

وهذا كله سيحدث في عهد حكومة تركية “إسلامية” الطابع!

د. محمود نور الدين – بيروت

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية