مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

نيال فيرغسون: “سويسرا مُحِقّة في رغبتها بالبقاء خارج نطاق اليورو ولكن..”

في إسبانيا، تظاهر عشرات الآلاف من السكان ضد إجراءات التقشف التي قررتها الحكومة Keystone

أشاد الأخصائي البريطاني في التاريخ المالي والإقتصادي نيال فيرغسون بإلإستراتيجية التي إتبعتها سويسرا في مجال الإنتعاش الاقتصادي، في الوقت الذي دعا فيه الى تعاونٍ دولي أفضل فيما يتعلَّق بأسعار صرف العملات.

وقد حضر الأكاديمي الذي يشغل منصب أستاذ العلوم السياسية والإقتصادية في جامعة هارفارد، ومدرسة لندن في الإقتصاد الى مدينة جنيف في 30 سبتمبر 2010، بمناسبة توزيع جائزة “لاتسيس” السويسرية الرفيعة المُستوى والتي تُمنَح سنوياً الى العلماء الشباب تحت سنّ الأربعين تقديراً لإنجازاتهم العلمية والمُبتكرة في إحد حقول الأبحاث.

وبهذه المناسبة، ألقى فيرغسون الذي يصف نفسه “بالليبرالي الأصولي” محاضرة في جامعة جنيف بِعنوان “السلطة و الموارد المالية – العواقب السياسية للأزمة المالية الحالية” تابعها جمهور غفير من الخبراء والمختصين.

swissinfo.ch: في الآونة الأخيرة قام عشرات الألوف من الأشخاص في جميع أنحاء أوروبا بالإحتجاج ضد تدابير التقشف الحكومية. ما هو ما رأيك في هذه التطورات؟

نيال فيرغسون : ما من شك بأن هناك اضطراب يلوح في الأفق، وهذه مرحلة مُبكرة نسبياً من “اللعبة”، إذ لا يُمكن للحكومات أن تستمر بالإقتراض بالحجم الذي كانت تقوم به الى أجل غير مُسمّى. وقد إكتشف كل من اليونانيين والإيرلنديين والبرتغاليين هذه الحقيقة بالطريقة الصعبة.

وعقب هذه الأزمة، يتعيَّن على الحكومات أن تسيطر على مواردها المالية، و إلّا سيتوجب عليها تحمّل عواقب أليمة في سوق السندات. وفي محاولة لتحقيق الإستقرار في الدَين العام، أظهر صندوق النَقد الدولي وغيره بأن على الحكومات الأوروبية إجراء تعديلات مالية كبيرة تتراوح بين 6 و 12% من الناتج الإجمالي المحلي، و تمثَّل تعديلات كهذه حجم هائل من التَضييق المالي. وسواء قامت الحكومات بهذه التعديلات عن طريق زيادة الضرائب أو خَفض الإنفاق، ستكون هناك أطراف خاسِرة، وسَيَتعين على الناس دفع الثمن، إذ لا توجد هناك وجبات مجانية عندما يتعلق الأمر بتحقيق الإستقرار المالي.

إنَّ ما نراه اليوم هو صراع بين نقابات القطّاع العام – الذي يُشكل أهدافاً واضحة لأي حكومة ترغب في توفير المال – ودافعي الضرائب المُحتملين الذين سَيَتَحتم عليهم دفع الثمن إن لم تُطَبَّق هذه التخفيضات. ولكن التلفزيون يقوم بِتَضخيم هذه الأمور في كثير من الأحيان.

يبدو أن سويسرا قد تجاوزت العاصفة بشكل أفضل قليلا من غيرها…

نيال فيرغسون: في الواقع فإن سويسرا هي إحدى “نجوم” مظاهر الإنتعاش الإقتصادي، وهي بمثابة “إعلان” عن الفوائد المُجتناة من إتِّباع سياسة ماليةٍ مُتحفظة نسبياً. و بدلاً من الإنزلاق في عُجوزات ضخمة وصفقات مالية تحفيزية، سعت الكنفدرالية الى تعزيز موقفها وهو بِرأيي أحد اسباب أداءها الجيد في الواقع – وهو أفضل بكثير مما توقَعه العديد من الأشخاص نظراً الى حجم القطّاع المالي والمشاكل التي واجهتها بنوك سويسرا الكبرى مثل بنك يو بي اس.

وفي إعتقادي فإنّ سويسرا مُحِقّة في رغبتها بالبقاء خارج نطاق اليورو، كما أظنّ بأن هذه التجربة كانت مَحفوفة بالمخاطر بالنسبة لدول الإتحاد الأوروبي. و ستكون المحافظة على هذا النظام والإستمرار به في هذه المرحلة عملية صعبة للغاية، ذلك أنَّ مشاكل الديون السيادية لم تَنتَه بعد.

لكن ثمن القوة والنجاح والبقاء خارج منطقة اليورو هو إرتفاع في قيمة الفرنك السويسري. وفي عالمٍ يسوده التنافس على خفض العملة، وتدخُّل الكثير من الدوَل بشكل مدروس للحفاظ على عملة رخيصة، سيكون من الصعب جدا التكهُن بما يمكن أن تقوم به سويسرا.

حسب إعتقادي فإنِّ الحل الوحيد يكمُن في التنسيق الدولي. ولا أعني هنا أن على سويسرا أن تنضمَّ إلى الإتحاد الأوروبي، ولكن ينبغي على دول مجموعة العشرين الإجتماع لوضع حدٍ لهذا السباق من أساسه، وإنشاء هيكلية عملٍ جديدة تقود الى تحقيق الإستقرار في أسعار صرف العملات.

وفي الوقت الحالي، فإنَّ أكبر خطر يواجه الإقتصاد العالمي، هو كلّ حكومة تَنضَم الى نوع من سباق طباعة الأموال على أمل تأمين بعض المزايا المؤقتة من خلال الصادرات الرخيصة. وهذا الأمر لا يضُرُّ بسويسرا فقط، و لكنه يسيئ في الواقع الى الإقتصاد العالمي برمته.

ما هي العواقب السياسية المُباشرة للأزمة الإقتصادية في الولايات المتحدة؟

نيال فيرغسون: هناك بعض الأبعاد المألوفة مُقارنة بالوضع في أوروبا، ولكن ما هو أقل ألفة يَتمثَّل بتطورحركة مُتشددة ذات اتجاهات شعبوية، أصبحت تتنامى و تؤثر على الساحة السياسية على نحو مُتزايد مع الإقتراب من مُنتصف الفترة الرئاسية في الولايات المتحدة تحت راية “حزب الشاي” (وهو مصطلح سياسي – ثقافي ظهر وتطور في أميركا في إطار حركات اجتماعية وسياسية ترفض تدخل الحكومة الفيدرالية في كل صغيرة وكبيرة، وتشعر بعدم الثقة في أن تتحول الحكومة الفيدرالية إلى “أخ أكبر” يُدير العلاج في المستشفيات والمدارس والإقتصاد والصناعة. ويهاجم الحزب الجناح المُعتدل في الحزب الجمهوري، ناهيك عن الحزب الديمقراطي والرئيس باراك أوباما و سياسته).

وهذه الظاهرة مثيرة للاهتمام، ذلك أننا قد رأينا هذا “الشريط السينمائي” من قبل: فبعد الأزمة المالية الكبيرة التي رافقت الكساد الكبير وأزمة عام 1873، تعطلت السياسة الأميركية من قِبَل حركات شعبوية مُختلفة الاشكال والأحجام والرُتب.

وبالنسبة لبعض الأشخاص فإنّ حزب الشاي يُمَثِل “أخبار عظيمة”، ذلك انه أدّى تَحفيز التصويت للحزب الجمهوري. ولكني أعتقد بأن هذا الحزب يمكن أن يكون إحدى “قطارات الهروب” التي تَفعل أكثر مما تريده مؤسسة الحزب الجمهوري، من خلال حَرف إتجاه هذا الحزب في سلسلة من القضايا صوب اليَمين بما يكفي لإخراجه تماماً من قلب الميدان السياسي.

نُشِر حديثاً كتابك الجديد الذي يحمل عنوان “الرأسمالي الرفيع: حياة ووقت سيغموند فاربورغ”. ماهي الدروس التي يمكن للمصرفيين والبنوك الحديثة إستقائَها من شخص مثل فاربورغ؟

نيال فيرغسون: كان سيجموند فاربورغ الذي أمضى العقد الأخير من حياته في بلدية “بلوناي” في كانتون فو السويسري، تجسيداً لحقبة مختلفة من الخدمات المصرفية. وقد كانت العبارة المفضلة لدى فاربورغ هي “مصرف رفيع المستوى”أو ما يُدعى بالفرنسية “haute banque”، التي تعني وجود أسلوب مُعين راقٍ للتعاملات المصرفية، ولكنها كانت مُختلفة تماماً عن المُضاربة في سوق الأوراق المالية والخدمات المصرفية القائمة على الصفقات التجارية.

وبالنسبة لفاربورغ كانت الأعمال المصرفية عبارة عن علاقات، وكانت العلاقة بين البنك والعميل كالعلاقة بين الطبيب والمريض. ولم يكن فاربورغ شخصاً مهووساً بالأرباح، بل كان تشغيل البنك وفقاً لأرفع المعايير الأخلاقية والجمالية هو مفتاح النجاح بالنسبة له.

وكان لفاربورغ تجارب مميزة في التضخم المفرط، الإنكماش الإقتصادي، وصعود النازية في ألمانيا في حقبة ما بين الحربين العالميتين. ولو إستطاع جيل اليوم من المصرفيين التعلم من النجاح الذي حقَقَه فاربورغ في مهنته، فقد تكون لدينا فرصة لتَجَنُّب عودة هذه الأزمة في السنوات العشر المُقبلة.

ولِدَ نيال فيرغسون في 18 أبريل 1964 في مدينة غلاسكو باسكتلندا. هو مؤرخ بريطاني مُختص في التاريخ المالي والإقتصادي. وقد تلقى فيرغسون تعليمه في جامعة أوكسفورد قبل شروعه في العمل الأكاديمي وفي وسائل الإعلام.

يعمل فِرغسون حالياً كأستاذ للتاريخ في جامعة هارفرد حاصل على منحة “لورانس تيش”، كما يعمل كأستاذ لإدارة الأعمال في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفرد حاصل على منحة “وليم زيغلر”، ويشغل في الوقت نفسه مقعد “فيليب رومان” في التاريخ والشؤون الدولية في كلية لندن للإقتصاد.

قام فيرغسون بتأليف عدد كبير من الكتب التي حققت رواجاً ومبيعات عالية حول تاريخ المال والإمبراطورية البريطانية. ومن بين المؤلفات التي حققت حضوراً جماهيرياً عريضاً لإستاذ التاريخ، كتاب يحمل عنوان “الإمبراطورية: صعود وأفول الامبراطورية البريطانية، والدروس المُستفادة من أجل النظام العالمي” في عام 2003، تبعه كتاب آخر في عام 2004 بعنوان “الصنم: قيام وأفول الإمبراطورية الأميركية”. كما لاقى كتابه ” صعود المال: التاريخ المالي للعالم” الذي نُشِر في عام 2008 رواجاً كبيراً. وبالإضافة الى مؤلفاته العديدة، قدم المؤرخ الأقتصادي أفلاماً وثائقية والعديد من اللقاءات التلفزيونية، كما قام بتحرير العديد من المقالات الصحفية. وقد أثار نهج فرغسون “المغاير لحقائق التاريخ” حسب وصف مُنتقديه العديد من النقاشات.

يعمل فرغسون حالياً على تأليف كتاب حول السيرة الذاتية لوزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر والذي قد يكون “الشخصية الإستراتيجية الأعظم لفترة ما بعد الحرب” حسب وصف المؤرخ الإقتصادي. ومن المتوقع صدور هذا الكتاب بكل ما تحمله شخصية مُستشار الأمن القومي السابق في حكومة ريتشارد نيكسون من “سلبيات وإيجابيات” في عام 2012.

وقد وجَهَّت الحكومة الإئتلافية البريطانية مؤخراً دعوة الى فرغسون من أجل تحديث مناهج التاريخ الوطني البريطاني. ويصف أستاذ العلوم السياسية عمله هذا بـ “التعامل مع التاريخ كما تعامل الطاهي المعروف جيمي أوليفر مع الغذاء في المدارس – بأن حوَّله الى طعامٍ صحي يَرغَب التلاميذ بِتَناوله فعلاً”.

تأسست مؤسسة لاتسيس الخيرية في عام 1975 من قِبل عائلة لاتسيس اليونانية في جنيف.

تعتبر جائزة لاتسيس الوطنية إحدى الجوائز العلمية المَرموقة في سويسرا. وهي تُمنح سنوياً بالنيابة عن مؤسسة لاتسيس التي يتواجد مقرها في مدينة جنيف، من قِبَل الصندوق السويسري للبحث العلمي. وتُكرِّم الجائزة التي تبلغ قيمتها 100,000 فرنك سويسري الإنجازات العلمية البارزة للعلماء العاملين في مجال الأبحاث في سويسرا تحت سن 40 عاماً.

ترعى المؤسسة في الوقت الحالي ستة جوائز تتضمَّن أربعة جوائز جامعية قيمة كل واحدة منها 25,000 فرنك سويسري، وجائزة لاستيس الوطنية، وجائزة لاستيس الأوروبية، التي تبلغ قيمة كلّ منهما 100,000 فرنك سويسري.

وقد إستحق الجوائز الجامعية الأربعة لهذا العام، والتي أعلن عنها يوم 30 سبتمبر 2010، كل من باحث الفيزياء ماريو أغيو من المعهد التقني الفدرالي العالي في مدينة زيورخ، والإقتصادي كريستيان توني من جامعة سانت غالن (شرق سويسرا)، وعالِم الأحياء الجزيئية كارلوس كانتو الفاريز من المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان، وفيوليتا سيريتان من جامعة جنيف عن بَحثها في مجال تكنولوجيا المعلومات اللغويات.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية