مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل أطفأ كأس العالم نيران الأزمات الإجتماعية في الجزائر؟

20 أكتوبر 2009: مواجهات لليوم الثاني على التوالي بين محتجين جزائريين رشقوا قوات الأمن بالحجارة والقنابل الحارقة في ضاحية ديار الشمس قرب الجزائر العاصمة Keystone

اجتاحت أمواج بشرية طُـوفانية شوارع المدن الجزائرية، بعدما انتزع المنتخب الوطني في الخرطوم ورقة الترشح لمباريات كأس العالم لكرة القدم، لكن الجماهير لم تخرج هذه المرّة لتدمِّـر منشآت عمومية أو تحرق عجلات مطاطية وتسد منافذ الشوارع، مثلما اعتاد أن يفعل الغاضبون الذين لا يجدون، على ما يبدو، أسلوبا آخر للتعبير عن غضبهم.

فقبل النشوة التي بعثها الانتصار الكُـروي في شرايين الجزائريين، كانت الأزمات الاجتماعية تجعل الدِّماء تغلي في عروقهم وتُفجِّـر براكين الغضب، حتى في قرى صغيرة نائية، كلما عيل صبرها ممّـا تعتبره إهمالا حكوميا لمطالبها الحيوية.

ولوحظ أن مباريات تصفيات كأس العالم وكأس إفريقيا، التي منحت الجزائر انتصارات مُـتتالية، تحوّلت إلى مهدّئات تسكّـن أوجاع الجبهة الاجتماعية وتخمد نيران الغضب والإحتجاجات الشعبية.

ورأى محلِّـلون أن كرة القدم نجحت في صناعة البهجة والاحتفالات، بينما لم تُنتج الجبهة الإجتماعية طيلة العقود الماضية، سوى أعمال شغب وتخريب تسبّبت في سقوط قتلى وجرحى وتكبيد الخزينة العمومية خسائر فادحة.

وهكذا، صنع مدرِّب المنتخب الجزائري رابح سعدان ما عجزت عنه الحكومات المتعاقبة من مصالحة الجزائريين مع أنفسهم، بعد تفريغ شحنة الغضب المتحفّـزة داخل كل واحد منهم، بسبب تردّي أوضاع السكن والتعليم والتزوّد بالماء الصالح للشرب أو بالتيار الكهربائي أو لسواها من الصواعق الكفيلة بإخراج المواطنين بالآلاف إلى الشوارع فجأة في أحد أحياء العاصمة أو في قرية نائية.

عود ثقاب

لكن يحدُث أن تنقلب مباريات كرة القدم إلى عود ثقاب يُفجّـر غضبا مُدمرا يمر مثل الإعصار في شوارع العاصمة أو مدينة داخلية. ففي وهران سجلت سنة 2008 إصابة 70 شرطيا بجروح و40 متظاهرا وتوقيف 150 متورطا في أعمال شغب هزّت الشوارع، إثر تعادل نادي “المولودية” أمام نادي “الشلف” (1 مقابل 1)، مما انجَـرّ عنه تراجُـع مولودية وهران في الترتيب.

وسجل خلال تلك الأحداث تدمير أكثر من 120 سيّارة، إضافة إلى حرق مؤسّسات عمومية وتخريب محلاّت خاصّة، وهذه الأعمال محظورة طِـبق القانون، إذ ينبغي التذكير بأن الجزائر خاضعة لقانون طوارئ ما زال ساري المفعول منذ فبراير 1992 بموجب مرسوم رئاسي كرّس حظْـر المسيرات والتجمعات، إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الداخلية والجماعات المحلية، أو من الولاية (المحافظة) على الصعيد المحلي.

ما الفرق إذن بين احتجاجات المحرومين الغاضبين وأفراح الكرة؟ وكيف يُـعقل أن تنجح “قطعة من الجلد المُكوّر” في ما أخفقت في الوصول إليه مفاوضات تحسين القُـدرة الشرائية وترفيع الأجور؟ ثم لماذا يخرج مشجِّـعو المنتخب الوطني للإحتفال بالنصر بطرق حضارية رافعين الرايات الخضراء ومُطلقين الأناشيد الوطنية، على عكس الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي أو السياسي، التي يطغى عليها السب والشتائم والشعارات غير الأخلاقية، بل والبذيئة في أحيان كثيرة؟

من الواضح أن مسيرات الفرح ليست سوى لحظات عابرة مثل السحب التي تُغطِّـي المشهد الاجتماعي الحقيقي قبل أن يعود مجدّدا إلى الاحتقان. وفي رأي باحثين جزائريين، أن تلك الحركات الاجتماعية تحمل رسائل واضحة، لابد من قراءتها وفهْـم دلالاتها العميقة.

ويقول الأستاذ زبير عروس، الباحث الاجتماعي الذي ألّـف كُـتبا ومقالات كثيرة عن تلك الظواهر، إنها تحمل مضامين سياسية واضحة، على رغم طابعها التلقائي. ويرى أن الناس الذين يُقاطعون الانتخابات ينحدِرون من بين تلك الفئات الغاضبة، ممّـا يعني أن لديهم وعْـيا سياسيا حادّا وأنهم فكّـروا في مواقفهم مليا.

وعلق عروس على دوافع حركة الإحتجاج الأخيرة في حي ديار الشمس في بلدية “المدنية”، الواقعة في محيط العاصمة الجزائر والتي سبقت انفجار أفراح كرة القدم بأيام قليلة، بالإشارة إلى أن المواطنين يُبصِـرون الثروة أمام أعيُـنهم ولا يستطيعون الوصول إليها. وأكّـد أن غياب التوزيع العادل لثروة البلاد، هو الذي يدفع الناس إلى اللجوء لتلك الأشكال من الاحتجاج، فهُـم يرون أن بعض المواطنين يملكون بيتيْـن أو ثلاثة، بينما هم ينتظرون في الأحياء القصديرية منذ سنوات من دون الحصول على شيء.

وشدّد على أن المشكل القائم في العاصمة الجزائر، هو نفسه في تيزي وزو وقسنطينة ووهران، مشيرا إلى أن تلك الحركات الإجتماعية تتّـسم بطابع تلقائي، فهي غير مُـهيْـكلة ولا منظّـمة، إذ لا يقف وراءها حزب سياسي ولا تنظيم ولا جمعية.

واعتبر عروس في تصريحه لـ swissinfo.ch أن هذا الأمر ينطوي على مخاطر انتشار أي حركة من هذا النوع على صعيد البلاد، في ظل غياب تأطير واضح للاحتجاج، مما يجعل السيطرة على مثل تلك التحركات عملية مُضنِـية وشاقة.

اختيار أم اضطرار؟

بهذا المعنى، يجوز التساؤل عمّـا إذا كان الخروج إلى الشارع اضطِـرارا أم اختيارا لدى أهالي المناطق المحرومة والمهمّـشة؟ في هذا السياق، تساءل بعض الإعلاميين الجزائريين: هل الاحتجاجات وحتى الاحتفالات في الشوارع، تِـلقائية أم موجّـهة ومُـفبركة؟ وهل للمحتجِّـين والمحتفلين “ثمن” أو مقابل يقبضونه، أكان مادِّيا أم معنوِيا، أم أنهم متطوّعون يرقصون ويغنّون ويحرقون ويخرِّبون مجانا ولوجْـه الله؟

وتساءل الإعلامي يحيى الرمضاني “مَـن المستفيد من الاحتجاجات والاحتفالات التي تملأ الشوارع ضجيجا، سواء في الانتخابات أو الإضرابات أو الاحتفاء بانتصارات كرة القدم والرياضة؟ هل الخروج للشارع حتمية لتفريغ المكبوتات وشحنات الغضب، أم أنها مجرّد تفريغ للفوضى والعشوائية واللاّنظام، الذي يسكن عقول وقلوب أغلبية الجزائريين؟ هل ما يجري في الجزائر من “شوشرة” في الشوارع هي “حرب شوارع” وهوليغنز، أم هي مؤشر الإرتباط بين المناضلين والمناصرين وأحزابهم ومنتخباتهم الرياضية؟ لماذا انتقاد حالة الطوارئ التي رفعت في بداية التسعينات شِـعار “العصا لمَـن عَـصا”، لكنها تغمض عينيها عن “مُـنكر” الإحتجاجات وأعمال الشغب والتخريب؟ هل صحيح أن الحكومات المتعاقبة والسلطات المحلية لم تفهم الرسائل المشفّـرة التي يوجّهها المحتجّـون عبر الشارع؟ ومَـن بوسعه وفي صلاحياته تفكيك القنابل الاجتماعية والاقتصادية والنقابية والسياسية والحزبية والانتخابية، التي تفخخ الشارع وتحرّض على الاحتجاج الذي يسلك في كثير من الحالات طريق الحبّة التي تأخذ شكل القبّـة وتكون أحيانا حقا يراد به باطل؟

العنف ثابت من الثوابت الأساسية للهبات الاجتماعية حتى لو كانت هبات فرح وبهجة، مثلما كان الشأن في مظاهرات النشوة بترشح المنتخب الجزائري لمباريات كأس العالم، إذ تعرّضت مؤسسة “أوراسكوم تيليكوم” المصرية، وهي المشغل الأول للهواتف الجوالة، لأعمال تخريب نفّـذتها جماعات من الشباب الغاضب، احتجاجا على ما تعرّض له أنصار المنتخب الجزائري في القاهرة.

وحسب حميد قرين، مدير الإعلام في شركة “جيزي” المملوكة لـ “أوراسكوم”، اقتحم أكثر من خمسة آلاف شخص في حدود الساعة الحادية عشرة ليلا من مساء الخميس 12 نوفمبر 2009 مقرّ المؤسسة ولم توقفهم سوى التعزيزات الأمنية التي تم الاستنجاد بها لاحتواء الوضع، في حين أكّـد أن كافة العاملين في المؤسسة من جزائريين ومصريين وأجانب، لم يتعرضوا لسوء على اعتبار أن الحادثة صادفت يوم عطلة للمستخدمين (الجمعة 13 نوفمبر)، الذين استفادوا أيضا من عطلة مدفوعة الأجر في اليوم التالي (السبت 14 نوفمبر) بمناسبة انتصار المنتخب.

وقدّرت “جيزي” الحصيلة الأولية لخسائرها بملايين الدينارات في انتظار جرد كافة التجهيزات والمُـعدّات المخرّبة، عِـلما أن أعمال التخريب طالت ما يناهز 15 مركزا وفرعا بالعاصمة، فضلا عن الأضرار المسجلة ببقية الولايات (المحافظات).

وتجدر الإشارة إلى أن الشركة تعرّضت لتلك الاعتداءات، على رغم الدّعم الذي خصّـصته لتغطية مصاريف تذاكر الجزائريين الذين سافروا للسودان، إذ تبرّعت بملياري سنتيم للخطوط الجوية الجزائرية لمساندة المنتخب وتسهيل تنقل الأنصار إلى الخرطوم.

عقل مُنفلت من الضوابط

وفي محاولة لفهم ضخامة رد الفعل على المباراة المصيرية بين الجزائر ومصر، تساءل الإعلامي الجزائري فاروق زاهي عن السبب الذي جعل مواطنيه لا يكترثِون لانتصارات رياضية أخرى كبيرة ولا يبتهجون بها مثل هذا الابتهاج المُنفلت من ضوابط العقل. ونفى في تصريح لـ swissinfo.ch أن تكون المسألة مُـرتبطة بالشرف والكرامة الوطنية، مستدِلا بأن كرامة الجزائريين المهاجرين سِـرا تُهدر يوميا على أسوار بلدان الضفة الشمالية للمتوسط.

ومضى يتساءل: لماذا لا نوجِّـه هذه الطاقات الشبابية الجبّـارة إلى ورشات ضخمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تضمن الكرامة لهؤلاء الشباب المُهمشين؟ وقارن ما تعيشه الجزائر من أزمة سكن بآلاف الأبراج السكنية التي يشيدها الصينيون يوميا، على رغم أن أوضاع حقوق الإنسان في بلدهم ليست على ما يرام.

لكن إعلاميين آخرين اعتبروا أن الرئيس المصري حُـسني مبارك قدّم خدمة كبيرة للجزائر بدفعه إلى لحمة مقدّسة لم يسبق لها مثيل بين النظام السياسي والشعب منذ أكثر من عشر سنوات. غير أن الصحفي حبيب الخروبي، وهو من أنصار هذا الرأي، قال لـ swissinfo.ch، مُحذرا “علينا أن نعرف إلى أين سيُوجه الحكم هذه الهِـبة الشعبية العارمة: هل سيُواصل قيادة الشعب الجزائري بالأسلوب السابق، أي إبقائه على الهامش وتجريده من مقتضيات السيادة؟” وأجاب على السؤال بقوله “إذا كان الأمر كذلك في المستقبل، فسيكون إغواء خطرا، لأنه سيقود إلى نتيجة مُدمّـرة وغير قابلة للإصلاح”.

المستقبل… هو الشاشة التي لا يكاد أحد يتبين ما كُتب عليها خلْـف غُـبار مسيرات الفرح التي جابت جميع مدن الجزائر. والأرجُـح، أن نزول درجة حرارة الحماسة والعواطف مع مرور الأيام سيجعل مارد الإحتجاجات الشعبية يستيقظ من قمقمه مجددا، ويستأنف جولاته عبر المناطق الجزائرية.

فقبل “الوحدة الوطنية”، التي صنعها أبناء رابح سعدان في الأيام الأخيرة، اتسم العقد الحالي بتفجر الانتفاضات والهزّات منذ المسيرة التي نظمها ما كان يعرف بـ “عروش منطقة القبائل” في 14 يونيو 2001 بالعاصمة، والتي شكلت أكبر تحدٍّ لمرسوم حالة الطوارئ، إذ كسرت المحظور وسخرت من القانون للمرة الأولى منذ مسيرات “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” المحظورة في موفى ثمانينات ومطلع تسعينات القرن الماضي.

وفتحت مسيرة العروش الشهيرة الطريق واسعة أمام ضحايا سوء التسيير والمهمّـشين والمحرومين من أبناء الجزائر العميقة، كي يعبِّـروا عن معاناتهم بصوت مرتفِـع وبطرق وأساليب تجاوزت حدود حرياتهم وما يسمح به القانون، لأن المتضرّرين من احتجاجاتهم، كانوا مواطنين مثلهم طال ممتلكاتهم التخريب أو حرموا من التنقل لقضاء حوائجهم.

ومع ذلك، تجاهلت الحكومة مطالب هؤلاء، إذ حمل رئيسها أحمد أويحيى المسؤولية لمن أسماهم “أصحاب الريع والسياسويين”، وتعهّـد لما كان بصدد التعليق على الاحتجاجات الأخيرة التي أعقبت آخر قرار برفع أسعار الوقود بـ “تطبيق القانون بصرامة لاستعادة النظام والأمن”.

ولم يكن هذا التصريح مجرّد موقف عابِـر من حركة احتجاج بعينها، فقد عاد أويحيى في تصريح آخر ليهدّد المتسبّـبين في “موضة” الإحتجاج عبر قطع الطرق، بتسليط أقصى العقوبات عليهم. ولم يتطرق إلى مسؤولية الجهاز التنفيذي في التوزيع العادل للثروة والمسؤولين المحليين في تعطيل المسيرة التنموية، مما دفع الناس إلى العِـصيان.

ولم يكن تعاطي الوزير الأول مع الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها الجزائر في السنوات الأخيرة مُـختلفا عن غيره من أفراد الطاقم الوزاري، إذ سبق لوزير الدولة وزير الداخلية والجماعات المحلية، نور الدين (يزيد) زرهوني، أن نحا باللائمة على الجمعيات ومكوّنات المجتمع المدني، متهما إياها بـ “التقصير”، على خلفية عدم مساهمتها، كما قال، في تطويق الأحداث التي عاشتها مدينة وهران، بعد نزول فريقها الأول “مولودية وهران” إلى القسم الثاني.

والأرجُـح أن مشاكل السكن والتوظيف وزيادة الأجور وضعف القدرة الشرائية والجامعة والمدرسة… صواعق تُفجر حركة الشارع بين وقت وآخر وتُهدد الاستقرار الاجتماعي. ويعتبر علماء الاجتماع الجزائريون أن قطاع التربية هو أكثر القطاعات تسجيلا للإحتجاجات وخروج موظفيه إلى الشارع. “فالوضعية المزرية للأستاذ ابتداء من الراتب الزهيد إلى الضغط الاجتماعي إلى أزمة الأساتذة المتقاعدين، دفعت بالمعلّـقين إلى القول بأن الأساتِـذة أصبحوا يقضون أوقاتهم في الشارع للإحتجاج أكثر مما يقضونها في الفصول للتدريس، بل هم نقلوا عدوى الإحتجاج والخروج إلى الشارع لتلامذتهم، إذ صنع تلاميذ الثانويات بمآزرهم البيضاء الحدث خلال السنوات الثلاث الأخيرة بمسيرات تطالب بإصلاح إصلاحات بن بوزيد (وزير التربية)”، كما قالت لـ swissinfo.ch الباحثة طاوس عبد الباقي.

أما الظاهرة الجديدة التي أشارت إليها طاوس عبد الباقي، فهي “التقليد”، الذي أصبح يسبق ويتبع مسابقات التوظيف في مختلف القطاعات، إذ كثيرا ما تندلع مظاهرات المتسابقين من خرِّيجي الجامعات الجُـدد وحاملي الشهادات العليا، بعدما حاصرتهم البطالة والتهميش والفقر وباتوا يعيشون تحت ضغط هاجس قائمات الناجحين في المسابقات، إذ أنهم يشكون في أن تلك القائمات تُـعد قبل إجراء المسابقة وِفق معايير الواسطة والزبونية والرشوة، وعادة ما تكون هذه المظاهرات ناجحة ومنظمة بدقة.

فقد سبق لهذه الفئة من المتظاهرين أن عبّرت عن مطالبها في الشارع، بعد أن ضاقت بها الجامعات أثناء التدرج في ظل مشاكل الخدمات الجامعية وتدني مستوى التكوين وابتزازات الأساتذة، وإن كانت مفردة “الحڤرة” (الإحتقار)، السبب الرئيسي في خروج أغلب الجزائريين إلى الشارع والإجماع على شعار “لا للحڤرة”، الذي كان أهم لافتة ترفع في مسيرات المتظاهرين.

قتلى وجرحى بالعشرات وتخريب بالمليارات

ولئن ثبطت حالة الطوارئ ومنع المسيرات، عزيمة الجزائريين في التعبير عن أفراحهم وأتراحهم في الشارع، فإن العُـدوان الإسرائيلي على غزّة مطلع السنة الجارية، وحّـد المصلِّـين في مساجد العاصمة ليستجِـيبوا لدعوة الشيخ يوسف القرضاوي ويشاركوا باقي المسلمين في عواصم العالم في مسيرات “جُـمعة الغضب”، ويكسِـروا بذلك قرار منع المسيرات في العاصمة بعد أكثر من ثمان سنوات من فرضه، ربّـما لأن مكانة القدس والقضية الفلسطينية في قلوب الجزائريين، تحدّت كل الموانع السياسية.

ويمكن القول أن كثرة المسيرات التِّـلقائية التي تتفجِـر في الجزائر من دون سابق إعداد أو تخطيط، تُـعزى إلى الموانِـع التي يتضمّـنها قانون حالة الطوارئ، وهو يستند على مرسوم رئاسي يحمل الرقم 92 44 ومؤرخ في 9 فبراير 1992 ويتكوّن من 12 مادة. ويحظى وزير الداخلية، حسب نصِّ المرسوم، بصلاحيات واسعة، بحيث يُـمكنه أن “يأمر باعتقال أي شخص راشد يتّـضح أن نشاطه يشكِّـل خطورة على النظام والأمن العموميين أو على السّـير الحَـسن للمصالح العمومية”. ويمنح البند السابع وزير الداخلية والولاة صلاحية “اتِّـخاذ قرار الإغلاق المؤقّـت لقاعات العروض الترفيهية وأماكن الاجتماعات، مهما كانت طبيعتها، وبمنع كل مظاهرة يُـحتمل فيها الإخلال بالنظام والطُّـمأنينة العمومية”.

وبحسب صحيفة “الوطن”، بلغ عدد ضحايا أعمال الشغب والتخريب والإنزلاقات، التي تحدُث خلال الاحتجاجات والمظاهرات، أكثر من 200 جريح في صفوف قوات الأمن وخسائر بالمليارات تتكبّـدها الخزينة العمومية سنويا، بينما تجاوَز مجموع الموقوفين لتورّطهم في أحداث الشغب والتخريب 150 موقوفا، إضافة إلى عشرات الجرحى في صفوف المواطنين في احتجاجات مختلفة ومتفرِّقة عبْـر ولايات الجزائر خلال بضعة أشهر، انطلاقا من وهران إلى بريان إلى العاصمة والبليدة وغيرها من الولايات، وكانت آخرها، أحداث ديار الشمس في ضواحي العاصمة التي خلّـفت 15 جريحا في صفوف قوات حِـفظ الأمن خلال مواجهات بين السكان والشرطة، من بينهم رئيس أمن دائرة بئر مراد رايس، الذي نقل مباشرة إلى العناية المركّـزة.

وانتهت الأحداث بتوقيف 15 متورّطا في الأحداث وإحالتهم على القضاء، ومن بينهم أربعة قُـصّـر أطلِـق سبيلهم، وخمسة أشخاص آخرين من ذوي السوابق العدلية وُضِـعوا رهْـن الحبس، في حين استفاد الباقي من الإفراج المؤقت. وقال وزير الداخلية يزيد زرهوني حينها إنه “لم يتم تسجيل أي جريح بين المواطنين”، متأسِّـفا لوجود عدد كبير من الجرحى في صفوف قوات حفظ الأمن.

هكذا سقط 168 جريحا عبْـر البلاد خلال احتفالات الأنصار بفوز الخُـضر على الفريق الرواندي قبل نحو أسبوع من الإنتصار على المنتخب المصري، كما خلّـفت تلك المظاهرات مقتل 15 شخصا، منهم 9 في كل من العاصمة ووهران وتيارت وسعيدة وعين الدفلى، وأصِـيب عدد من المُـتابعين لهذا الحدث الكُـروي بنَـوبات قلبية، أفضت إلى وفاة 6 مناصرين، بينما تحدّثت وكالة الأنباء الجزائرية عن إصابة 71 شخصا، من بينهم ثلاثة أعوان من الأمن الوطني بجروح مباشرة عقِـب اللقاء الكروي، وتم نقل الأشخاص المصابين نتيجة تعرّضهم للسقوط أو الاعتداءات بواسطة السِّـلاح الأبيض إلى مصلحة الاستعجال، كما تعرّضت عشر وسائل نقل وآليات أشغال عمومية تابعة لمؤسسة كورية جنوبية بالمديّة للتّـخريب على يد مجموعة من الشباب الذين استغلّـوا الفرحة الشعبية العارمة التي تلت فوز الفريق الوطني لكرة القدم، لارتكاب أعمال تخريب.

كذلك سجّـل جرح 30 عُـنصرا في صفوف قوات الأمن في انزلاقات خطيرة ومواجهات عنيفة شهدتها مظاهرات التضامن مع غزة، عندما حاولت قوات الأمن منْـع المتظاهرين من تنظيم مسيرة في الجزائر العاصمة، وتفجّـر غضب المتظاهرين الذين حاولوا اختِـراق الحاجز الأمني بالقوّة، وصعد عدد من المراهقين فوق بناية ما تزال قيْـد الإنجاز تابعة لأحد الخواص، وبدؤوا يرشِـقون عناصر الأمن من أعلى البناية بأعمدة من القُـضبان الحديدية، وأمطر المتظاهرون عناصر الأمن بقِـطع القرميد والحجارة والقضبان الحديدية والآجر والألواح وأعمدة النوافذ والأبواب ومختلف مواد البناء وأجزاء من الكراسي المهملة، وكل ما وجدوه أمامهم، ممّـا خلّـف أكثر من 30 جريحا في صفوف عناصر الأمن، وكلهم مُـصابون على مستوى الوجْـه والفكّ والأرجل والبطن والصّدر، كما سجِّـل عشرات الجرحى في صفوف المتظاهرين أيضا.

الخروج إلى الشارع.. ثم ماذا بعد؟

وقال شهود عيان لـ swissinfo.ch “إن مقابلات كُـرة القدم، وخاصة مباريات الدربي (أي بين الأجوار)، تستنفر قوات مكافحة الشّـغب وجميع السكان في مُـحيط الملاعب الرياضية، حيث عادةً ما تشتعِـل حروب مفتوحة بين المُـناصرين بمجرّد خروجهم من الملعب وتدفُّـقهم إلى الشوارع والأزقة، حيث تُـخلِّـف المواجهات الدّامية بين المشِّـجعين فيما بينهم ومع قوات مكافحة الشغب خسائر بشرية ومادية فظيعة.

وأفاد زين العابدين جبارة، إن قوات مكافحة الشّـغب وعناصِـر حفظ الأمن العمومي، تُـصنِّـف المقابلات التي تجمع مولودية الجزائر باتِّـحاد الحراش أو نصر حسين داي بشباب بلوزداد، في الخانة الحمراء، حيث تُـطوّق قوات الأمن الطرق المؤدِّية للملاعب التي تحتضِـن هذه المقابلات الرياضية، بعد أن أسقطت عنها المواجهات غير الرياضية بين المناصرين صفة اللِّـقاء الرياضي.

وكما هو الحال في شمال البلاد، فإن منطقة الشرق الجزائري تشهَـد اشتِـباكات حادّة بين مناصري وِفاق سطيف وشباب أهلي برج بوعريرج، والأمر سيان قبل وبعد دربي شباب قسنطينة ومولودية قسنطينة. أما مواجهة مولودية بْـجاية، لشبيبة بجاية، فتستدعي استنفارا كامِـلا لقوات مكافحة الشغب لتفادي ثورة شعبية بين المناصرين، يذهب ضحيتها جيران الملعب والقاطنون على حافتَـيْ الطُّـرق المؤدِّية له.

قُـصارى القول، أن الخروج إلى الشارع بات أداة أساسية للتّـعبير عن الغضَـب والاحتجاج أو الفرحة، وأصبح يطبع حتى المواعِـيد السياسية، غير أن اللّـجوء إلى الشارع في أعقاب المواعيد والإستحقاقات الانتِـخابية يختلِـف في مضمونه وشكْـله عن الحالات الأخرى.

فلئن أصبح الشارع وِجهة المنتفِـضين والغاضبين الجزائريين للتّـعبير عن احتجاجاتهم على وضع معيَّـن، والتي غالِـبا ما تكون ذات علاقة بالأوضاع الإجتماعية، كأزمة السكن والبطالة والفقر، فإن الشارع أصبح كذلك الوِجهة المفضّـلة لأعضاء الأحزاب والمشاركين في المواعيد السياسية والإستحقاقات الانتخابية، وربما يعود في يوم ما ساحة تتردّد فيها أيضا أصداء التيارات الإسلامية المنكفِـئة على نفسها الآن.

رشيد خشانة – تونس – swissinfo.ch

أبريل 1980، أحداث القبائل سُـميّـت بـ “الربيع الأسود”، وهي انتفاضات للشبيبة وسكان الأحياء الهامشية بالمدن الكبرى، وأعقبتها احتجاجات بالمنطقة سنوات (1986 – 85 – 83 – 82)، التي توِّجت بانتفاضة أكتوبر 1988.

5 أكتوبر 1988، شهِـدت الجزائر العاصمة مظاهرات عنيفة للمطالبة بالديمقراطية والانفتاح السياسي وإلغاء نظام الحزب الواحد، مما اضطر الجيش إلى التدخّـل والتّـصادم مع المتظاهرين، ما أدّى إلى سقوط 153 قتيلا وعددا من الجرحى، وعقب الأحداث، أعلن الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد عن تعديل دستوري يُـتيح إنشاء الأحزاب السياسية والصحف الخاصة، وفي 23 فبراير 1989، وافق استفتاء شعبي على تعديل الدستور وإلغاء نظام الحزب الواحد.

20 أبريل 1990، مسيرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة باتجاه رئاسة الجمهورية، تفاعل معها أنصار الحزب، وقد ضرب الحزب موعدا آخر مع أنصاره بعد توقيف المسار الانتخابي في 11 يونيو 1992.

سنة 2000، شهدت منطقة سيدي بلعباس احتجاجا على فساد السلطة المحلية وتوزيع السكنات، مما دفع السلطة إلى التخوّف من امتداده إلى مدن أخرى وإعادة أكتوبر 1988 آخر.

أبريل 2001، كان اغتيال التلميذ قرماح ماسينيسا، 17 سنة، سببا في اشتعال منطقة القبائل كلها في انتفاضة شعبية حقيقية.

14 يونيو2001، سكان منطقة القبائل ينقِـلون احتجاجهم إلى العاصمة، حيث اندلعت أحداث راح ضحيّـتها الصحفيان نجمة وعادل، اللذان دحستهما حافلة النقل الحضري، كان يقودها شاب محتجّ في حالة غضب وعصبِـية بساحة أول مايو.

14 يوليو 2001، حظر المسيرات في العاصمة عقب مسيرة سكان منطقة القبائل بالعاصمة.

مارس 2007، اشتعال أحداث مأساوية ببريان في غرداية، بسبب ألعاب نارية أدّت فيما بعد إلى تطور الأمور إلى تنازع اجتماعي بين الأباضيين والمالكيين، حاولت جِـهات إظهاره بشكل نِـزاع فكري وعقائدي، ونُـقل الصِّـراع إلى الشارع المزابي، ليخلِّـف في النهاية ثلاثة قتلى وآلاف الجرحى ومدينة مشلولة.

منتصف مايو 2008، تسبّـب تجدّد أحداث بين شباب بريان وقوات مكافحة الشغب في مقتل شاب و20 جريحا، وعزّزت وحدات الشرطة والدّرك بالمنطقة بسبب عدم قُـدرة قوات الأمن المحلية، السيطرة على الوضع، وكانت الشرارة الأولى قبل شهرين، بسبب مُـناوشات بدأت بين تلاميذ المدارس وامتدّت إلى الاعتداء على حافلات النقل الجماعي. وفي مطلع مايو 2008، حينما قتَـل الشاب، صيفية مروان.

مارس 2008، غَـليان شعبي هزّ ولاية الشّـلف احتجاجا على استمرار مُـعاناة سكان شاليهات المُـقيمين بها منذ زلزال 10 أكتوبر 1980، وخلفت الاحتجاجات خسائر فادِحة واضطرّت السلطات إلى تغيير والي الولاية محمد الغازي، كإجراء أولي لتهدئة الوضع، وهي الأحداث التي لم تحصُـل منذ 20 عاما بالغرب الجزائري.

مايو 2008، اندلاع الاحتجاج في وهران لسبب رياضي، شارك فيه أنصار فريق مولودية وهران، ثم تحوّل إلى مطالِـب اجتماعية واحتجاجات انتقلت لأحياء أخرى على غرار الصنوبر ورأس العين وكوكا.

يناير 2009، سقوط العديد من الجرحى وسط الشباب الذي شارك مع مئات المصلِّـين بالعاصمة في “مسيرة غزة”، انطلاقا من باش جراح إلى ساحة الشهداء، والذين خرجوا عقِـب صلاة الجمعة في مسيرة كانت الأولى من نوعها، منذ عام 2001، بعد الحظر المفروض على المسيرات، بسبب أحداث “الربيع الأمازيغي”.

9 أغسطس 2009، اشتعال الاحتجاجات بأحياء دمد والسعيفي وأولاد سعد وما جاورها، من بلدية مسعد جنوب ولاية الجلفة، حيث خرج المواطنون إلى الشارع للتّـعبير عن غضَـبهم إزاء تجاهُـل مشاكلهم اليومية من السلطات المعنية، والمتعلقة بانقطاعات التيار الكهربائي ونُـدرة المياه الصالحة للشرب وانعدام التهيئة والإنارة العمومية وقاعة علاج وتعبيد الطرقات داخل الأحياء.

مطلع أغسطس 2009، اندِلاع الاحتجاجات بولاية تلمسان، بسبب حادِث مرور بالغزوات، أدى إلى مقتل 12 شخصا، حيث احتجّ السكان على السلطات المحلية محمِّـلين إيّـاها مسؤولية مُـراقبة شاحنات تهريب الوقود المتسبِّـبة في الحادث، وفي البيض وبشار وغليزان، احتجاج المنكوبين من الفيضانات.

سبتمبر 2009، شكّـلت ولاية برج بوعريرج، عاصمة الاحتجاجات بولايات شرق البلاد، بسبب الظروف الاجتماعية لسكان القرى، تزامُـنا مع الدخول الاجتماعي، بسبب انعدام الغاز والكهرباء والطرق المعبّـدة.

أكتوبر 2009، شباب عنّـابة يثور بساحة الثورة، احتجاجا على وضعه الاجتماعي.

سنوات 2005 إلى 2009، عرفت مناطِـق الجنوب احتجاجات عارِمة، بسبب ملفّـات التشغيل والصرف الصحي والمشاريع العِـملاقة، المتمثلة في الصرف الصحي على غِـرار مشروع القرن بِـوَرڤلة، فضلا عن المطالبة بالتّـغيير، بعدما ظل غالبية المسؤولين في مناصِـبهم لأكثر من 5 سنوات.

منذ سنة 2007 إلى سنة 2009، احتجاجات متكرِّرة أمام مكاتب الوُلاة المنتدََبين بالعاصمة، يقودها سكان الشاليهات، وعددهم يتجاوز 5 آلاف عائلة موزّعة على 25 موقِـعا، أغلبها يقع في الرغاية وبرج الكيفان وبرج البحري والدار البيضاء وعين طاية وهراوة، والذين تمّ إسكانهم في الشاليهات ما بين 2003 و2004.

منذ صائفة 2009: الشارع الجزائري يتفاعَـل مع تصفيات المونديال، حيث خرج المُـناصرون بالآلاف للشارع للاحتفال بفوز الخُـضر خلال مواجهته لفِـرق مصر وزامبيا ورواندا، وخاصة بعد معركة الحسم في السودان.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية