مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل تحرك “الإنتفاضة” التونسية المياه الراكـدة في المنطقة العربية؟

صورة التقطت يوم 10 يناير 2011 في أحد أحياء مدينة سيدي بوزيد التي انطلقت منها شرارة الإضطرابات التي شملت معظم المدن والجهات التونسية Reuters

ثمة قانون تاريخي رسّـخ أقدامه في الشرق الأوسط منذ ألف عام، قِـوامه التالي: كلّـما ارتكس المشرق العربي، انتفض المغرب العربي وأمسك بالمبادرة التاريخية، وهذا على كل الأصعدة، الفكرية والفلسفية والسياسية والإستراتيجية.

وهكذا، حين برز الإمام الغزالي في المشرق ليُـعلن “تهافت الفلاسِـفة” وليليه الأشاعرة وإبن تيمية، ليغلقوا باب الاجتهاد، برزَت في المغرب العربي كوكبة من كِـبار المفكِّـرين الذين لم يُـعيدوا إلى الحضارة العربية – الإسلامية وهْـجها فحسب، بل هُـم كانوا أيضاً الأساس الحقيقي لعصرَيْ النهضة والتنوير في أوروبا: إبن رشد، الذي أطلق الفكر الأرسطي من عِـقاله، وإبن خلدون، مؤسِّـس علم الاجتماع الحديث، وإبن طُـفيل، الذي سبق تشارلز داروين بألف عام في نظرية النشوء والارتقاء.

وعلى الصعيد السياسي – الإستراتيجي، كان المغرب العربي يزوّد المشرق بأسُـس إمبراطوريات عدّة، كانت على رأسها الإمبراطورية الفاطمية التي وصلت منه إلى مصر، مُحقِّـقة نهضة عِـلمية وفِـكرية وعمرانية مشهودة.

فهل نحن الآن، في القرن الحادي والعشرين على أبواب “تطعيم” مغاربي تاريخي جديد، لمشرق يتهاوى بشدّة منذ نيف ونصف قرن تحت ضربات التفتيت والاحتلالات والانحِـباس السياسي والفكري والحضاري؟

تونس تتكلّم

انتفاضة تونس الشعبية تَـشي بذلك. فهذه الانتفاضة التي فاجأت الجميع في توقيتِـها وشكلِـها وحجمِـها، قرَعت أجْـراساً صادِحة في كل أرجاء المشرق العربي، ناهيك ببقية دول المغرب، مُبشّـرة بأن فجراً جديداً ربّـما ينبثِـق مجدّداً لكل الشرق الأوسط العربي – الإسلامي، إنطلاقاً من الشّـرارة التونسية.

الحِـراك الشعبي التونسي كان مفاجِـئاً وِفق كل المعايير، لأن الانطِـباع الذي ساد في المشرق طيلة العقود الثلاثة الأخيرة، هو أن تونس كانت رائِـدة في ثلاثة مجالات.

الأول، “المُـعجزة الاقتصادية” التي كان يُفتَـرض أن تُحوّلها إلى نمْـر جديد يزأر هذه المرّة، ليس في آسيا، بل على سواحل شمال إفريقيا. والثاني، الإصلاحات الاجتماعية التي بدأت مع الحبيب بورقيبة والتي أسْـفرت عن نشوء طبَـقة وُسطى قوية مُعزّزة بحقوق واسعة للمرأة. والثالث، استقرار سياسي تحرسه أجهزة استخبارات قوية تُمارس السيطرة والهيْـمنة بكل أشكالهما.

بيد أن الانتفاضة الشعبية بدّدت كل هذه الافتراضات التي تبيّن أنها انطباعات مغلوطة. فالمُـعجزة الاقتصادية تكشّـفت عن كونها “مُـعجزة” فقط لطبقة محدودة من أصحاب السلطة والنفوذ، فيما تعيّن على غالبية الشعب التونسي أن يدفَـع الأثمان الباهظة لـ “إجماع واشنطن” المستند إلى الليبرالية الاقتصادية المنفلتة من عِـقالها، وكذلك للأزمة الاقتصادية العالمية الرّاهنة.

والإصلاحات الاجتماعية، على أهميَّـتها القُـصوى في المنطقة العربية كنموذج، بدَت أنها قاصِـرة حين افتقدت إلى مسألة العدالة الاقتصادية. أما الاستقرار السياسي، فقد تكشّـف على أنه استقرار وهْـمي، لأنه ارتكَـز على الخوف والتّـخويف وإرهاب الدولة، وليس على المقبولية وشرعية حقوق الإنسان.

عوْدة الطبقات؟

بالطبع، من المبكّـر للغاية الآن التنبُّـؤ بما ستَـؤول إليه الأمور في تونس وما إذا ما كانت ستتحوّل إلى ثورة سياسية تُسفِـر عن قيام أول نظام ديمقراطي في الشرق الأوسط العربي، كما يأمل الخبير المغاربي الحسن عاشي.

ومع ذلك، الأيام القليلة التي عاشها العالم العربي مع الانتفاضة التونسية، كانت كافية لطرح السؤال الكبير فيه: هل بدأت الصراعات الاجتماعية – الطبقية تحُـل مكان النزاعات الأديولوجية كأولوية في البلدان العربية؟

تونس، التي ربّـما شهدت للمرة الأولى في تاريخها قِـيام شاب من خرّيج الجامعات بإحراق نفسه، احتجاجاً على البطالة، أكّـدت أن هذا ما قد يحدُث بالفعل. والدليل، أن نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وجد نفسه للمرة الأولى مُـضطراً إلى القيام بسِـلسلة خُـطوات إصلاحية سريعة لوقف تظاهُـرات الاحتجاج العفوية، التي تنقّـلت من حيٍّ إلى حي كالهَـشيم في النار.

في الجزائر، لم يكُـن المشهد مغايِـراً. فالتَّـظاهُـرات الشعبية التي تلوَّنت في الكثير من الأحيان بأعمال العُـنف الغاضبة، اجتاحت العديد من المُـدن من دون أي يبدو أن ثمّـة قِـوى حزبية منظّمة تقِـف وراءها، وهذا أمر أخطَـر، لأنه يعني أن أحداً (بما في ذلك الأجهزة الأمنية!) لم يعُـد يُسيطر على الشارع، حتى ولو تأكدت التسريبات التي تحدّثت عن صراعات بين أجنحة السلطة تمدّدت إلى الشارع.

المغرب، ربّـما يكون حالة استثنائية بسبب المشروع الناجح الذي طبّـقته الحكومة خلال السنوات القليلة الماضية لاستِـئصال الفقر. بيْـد أن هذا لا يعني خاتمة الأحزان هناك.

أما الدول العربية الأخرى، عدا دول الخليج، على غِـرار مصر وسوريا ولبنان والأردن، فالأرجُـح أن تصيبها العَـدوى التونسية قريباً، لأن الأزمات المشابهة تُولّـد محصّـلات مُشابهة.

السبب المباشر للاضطرابات الشعبية المتوقّـعة في البلدان العربية، هو الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية، إذ أوضحت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، التي تُـراقب العديد من السِّـلع الزراعية في السوق العالمي، كالقمح والذرة والأرز والسكر واللحوم، أن أسعار هذه المنتوجات قفزت في الآونة الأخيرة إلى مُـستويات قياسية.

وبما أن معظم البلدان العربية تستورِد كل حاجياتها من المواد الغذائية من السوق العالمي وبما أن روسيا وأوكرانيا، وهما المصدِّران الرئيسيان لهذه المواد، فرضتا قيُـوداً على التصدير بسبب الجَـفاف، فقد كان محتَّـماً أن تنشأ أزمة غِـذاء حقيقية في المنطقة العربية.

بيْـد أن المشهد لا ينتهي عند هذا الحد. فعلى رغم الإنجازات التي حقّـقتها العديد من الدول، خاصة المغرب والجزائر ومصر، في مجال تقليص معدّلات البطالة من 20-30% إلى 10-15% الآن، إلا أن دخول ملايين الشبّـان إلى سوق العمل سنوياً، يُهدِّد بإطاحة هذه الإنجازات، ما لم تُـتّـخذ سريعاً إجراءات تتمثّـل في تطوير قِـطاعات الصناعة والزراعة وجعْـلها أكثر تنافُـسية في الأسواق العالمية، والانتقال من توفير الأعمال جديدة الكمِـية إلى الأعمال النوعية وانتهاج إستراتيجيات جديدة لخلْـق وظائف ذات قيمة مُـضافة وتطوير مناهِـج التعليم والتّـدريب المِـهني.

خطوات ضرورية.. لكنها غير كافية

كل هذه الخطوات ضرورية ومطلوبة، لكنها مع ذلك، لن تكون كافية وحدَها لمُـواجهة ما حذّر منه تقرير التنمية البشرية العربي لعام 2009 حول تدفّـق عشرات ملايين الشبان (الرقم قد يصِـل إلى 50 مليوناً عام 2025) إلى سوق العمل. هنا، ستكون الحاجة ماسّـة إلى تضافُـر كل الجهود  العربية لتطوير إستراتيجيات مُـشتركة للأمن الغذائي، ولخلْـق بيئة ملائمة لتشجيع الأموال العربية على الاستثمار في المنطقة، لا في الغرب، وأيضاً لإيجاد حلول منسّـقة لمسألة البطالة.

بالطبع، كل ذلك يحتاج إلى قرارت سياسية شُـجاعة من جانب سائِـر الحكومات العربية. فهل هي في وارِد اتِّـخاذها؟

من الأفضل لها أن تفعَـل. فحين تصبح الأولوية للصِّـراعات الاجتماعية – الطبقية وحين يُصبح رغيف الخُـبز مغمّـساً بالدم، لا تعود الشجاعة مُجرّد صِـفة أخلاقية مطلوبة، بل تصبح مسألة بقاء أو لا بقاء، وانتفاضة تونس، المؤشر الأول على هذه الحقيقة.

8 و9 يناير 2011: الإضطرابات في تونس تتطوّر وتتخذ منحى مأساويا مع وقوع مواجهات عنيفة في مدن بوسط البلاد أسفرت عن سقوط 23 قتيلا بحسب الحكومة، وأكثر من 50 بحسب مصدر نقابي.

الإثنيْن 10 يناير: الرئيس زين العابدين بن علي (74 عاما) يتحدث للمرة الثانية خلال أسبوع عبر التلفزيون واعدا بتوفير 300 ألف وظيفة في خلال سنتين. وندد في الآن نفسه ب”عصابات ملثمة” و”مناوئين مأجورين، ومسيّرين من الخارج” اتهمهم بالوقوف وراء الاضطرابات.

الثلاثاء 11 يناير: وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون تعبّر عن “قلقها إزاء الاضطرابات وعدم الاستقرار” في تونس. وقالت كلينتون “نحن قلقون بالإجمال من عدم الاستقرار في تونس، يبدو أن الاحتجاجات خليط ما بين الاقتصادي والسياسي وللأسف فإن رد الفعل الحكومي أدى لمقتل البعض، ونأمل في حل سلمي”.

الأربعاء 12 يناير: رئيس الوزراء التونسي محمد الغنوشي يعلن عن إقالة وزير الداخلية رفيق بلحاج قاسم والإفراج عن جميع الموقوفين بسبب الاضطرابات وعن تشكيل لجنة للتحقيق في حالات الفساد.

 بعد مدن القصرين والرقاب والمكناسي وتالة، وحدات من الجيش التونسي تنتشر للمرة الأولى في تونس العاصمة وضواحيها الغربية وغداة اندلاع مواجهات عنيفة في بعض الاحياء الشعبية.

المتحدثة باسم وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين اشتون تدين استخدام القوة “غير المتكافىء” من قبل الشرطة في تونس، وقالت الناطقة بإسمها: “العنف الذي واجهت به قوات الأمن التونسية المتظاهرين غير مقبول، ولابد من تحديد المسؤولين عنه، وتقديمهم للمحاكمة. كما دعت السلطات التونسية إلى “احترام الحقوق الإنسانية الأساسية مثل حرية التعبير، وحرية الرأي، واستقلالية القضاء”. وينأى الاتحاد الأوروبي بهذا الموقف عن موقف فرنسا الذي تميّز بإستخدام لغة أكثر دبلوماسية بدعوى “عدم التدخّل في الشؤون الداخلية التونسية”.

لإي أول تعليق لها، أعربت وزارة الخارجية السويسرية يوم الأربعاء 12 يناير عن “انشغالها للأحداث التي شهدتها الجزائر وتونس في الأيام الأخيرة”.

وفي سياق الرد على أسئلة توجهت بها إليها swissinfo.ch أعربت برن عن “الأسف لكون الاضطرابات أدت إلى سقوط قتلى وجرحى”، كما “قدمت خالص تعازيها إلى العائلات وإلى أقارب الضحايا”. وفي الوقت نفسه دعت الخارجية السويسرية إلى “احترام الحوار والحقوق الإنسانية التي تشمل حرية التعبير والاجتماع”.

يشير الموقع الرسمي لوزارة الخارجية السويسرية إلى أن “العلاقات بين البلديْن يشوبها من حين لآخر بعض التوتّر بسبب اختلاف وجهات النظر حول قضايا حقوق الإنسان” كما شهدت العلاقات الثنائية تطوّرات متلاحقة في العشريتين الأخيرتين:

1987: برن ترفض نقل مقر إقامة سفيرها في تونس إلى مكان آخر، بعد سعي الرئيس بن علي إلى توسعة قصره في ضاحية قرطاج عبر ضمّ المساحة الملاصقة له التي أقيم عليها بيت السفير السويسري. ولا زال مقر إقامة السفير في مكانه حتى الآن.

1995: تعرض الرئيس التونسي خلال زيارة قام بها إلى جنيف كضيف شرف على مؤتمر لمنظمة العمل الدولية إلى الشتم والتوبيخ من العشرات من المتظاهرين المحتجين، وفي نفس الوقت رفض وزير الخارجية السويسري آنذاك فلافيو كوتّي استقباله، مما دفع تونس إلى  سحب سفيرها من برن منذ ذلك الحين وإلى حدود سنة 2000.

2005: في افتتاح القمة العالمية للمعلومات الملتئمة في تونس، انتقد سامويل شميد، رئيس الكنفدرالية آنذاك، بشكل غير مباشر سجل تونس في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير. وبعد أسابيع قليلة، استقبلت ميشلين كالمي- ري في برن بعض المعارضين التونسيين الذين شارك بعضهم في إضراب شهير عن الطعام. فقامت تونس من جديد بإستدعاء سفيرها في برن.

رغم هذه العلاقات المشوبة بعدم الإستقرار، فإن عدد السياح السويسريين الذين يسافرون سنويا إلى تونس يتجاوز 100.000 سائح، وتريد السلطات التونسية مضاعفة هذا العدد بحلول نهاية 2016.

في عام 2007، احتلت سويسرا المرتبة السادسة ضمن المستثمرين الأجانب في تونس التي تعتبر سابع شريك تجاري لسويسرا على مستوى القارة الإفريقية.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية