مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل هي بداية الطريق؟

صورة لبعض المارة في أحد شوارع المدينة العتيقة في العاصمة التونسية (تاريخ الصورة: 23 أكتوبر 2004) Keystone

أعاد العفو الرئاسي على 79 من المساجين السياسيين في تونس الأمل في احتمال تسوية قريبة لملف المعتقلين من كوادر حركة النهضة المحظورة وأنصارها.

ويسود اعتقاد بأن هذا الملف قد طال، حيث قضى العديد منهم ولا يزالون في السجون قرابة 14 عاما، وهي حالة تكاد تكون نادرة في تاريخ الاعتقال السياسي بتونس.

فقد سبق للمعتقلين من أنصار الزعيم صالح بن يوسف، الخصم التاريخي لبورقيبة، أن تعرضوا لأسوإ الظروف والتنكيل طيلة سنوات طويلة من الحبس حتى كاد الكثير منهم أن يهلكوا ويطويهم النسيان. كما مر سجناء اليسار والتيارات القومية بتجارب قاسية، وإن تمّـت في ظروف تاريخية مختلفة.

لقد أصبح كثير من التونسيين يعتقدون بأن معاقبة الإسلاميين قد طالت، ولهذا السبب بالذات، أصبحت مسألة العفو التشريعي العام تحتل مكانة رئيسية في جدول أعمال الجمعيات الحقوقية التونسية، وفي طليعتها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وكذلك الشأن بالنسبة للأحزاب والتيارات الديمقراطية طيلة السنوات الأخيرة، رغم خلافاتها السياسية والأيديولوجية مع المعتقلين.

وقد طالب بعض المرشحين من أحزاب المعارضة خلال حملة الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة بإطلاق سراح سجناء الرأي، كما أصبحت قضية المساجين السياسيين في مقدمة المشاكل المزمنة التي تستند عليها المنظمات الحقوقية الدولية وحتى بعض الحكومات الغربية، وفي مقدمتها حكومة الولايات المتحدة، للتشكيك في سلامة الأوضاع التونسية من زاوية حقوق الإنسان. كل هذه العوامل ساعدت على تنضيج الملف ووفرت المناخ الملائم لاتخاذ قرار العفو الأخير.

تفكيك متدرج للملف

في مقالنا السابق الذي خصصناه لتحليل نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي نظمت بتونس يوم 24 أكتوبر الماضي، قلنا أن ملف المساجين السياسيين يأتي “في مقدمة الملفات التي أحدثت ولا تزال ضررا فادحا بسُـمعة النظام وتونس على الصعيد العالمي، ومع ذلك، فإن قرار غلقه نهائيا هو بيد الرئيس بن علي”.

وفي اللحظة التي يفصل فيها هذا الموضوع بين بعديه السياسي والإنساني، فإنه قد يأخذ طريقه نحو الحل، ولو بشكل تدريجي وعبر مراحل. ويبدو أن القيادة السياسية قد قررت تفكيك هذا الملف معتمدة على أسلوب التدرج، دون أن يعني ذلك حدوث تغيير جوهري في موقفها السياسي من قضية الإسلاميين. وتكفي الإشارة في هذا السياق، إلى أن بعض المسرحين وجدوا في انتظارهم قضايا أخرى قد تعيدهم من جديد إلى عالم السجن.

لقد سبق أن حاول محمد الهاشمي الحامدي، صاحب قناة “المستقلة” (تبث من لندن) دون أن يحصل على موافقة قيادة حركة “النهضة”، القيام بمساع لدى الرئيس بن علي من أجل تسوية ملف المعتقلين الإسلاميين. وقد كللت تلك الجهود بتسريح مئات من المساجين في موفى عام 1998، لكن سرعان ما توقفت تلك الجهود بسبب عوامل عديدة، لعل من أهمها اتهام “النهضويين” صاحب المبادرة كونه غير مفوض للتفاوض باسمهم، وأنه قد “استغل قضيتهم لتحقيق مآرب أخرى”.

وحتى يقع إجهاض تلك المساعي، انتهجت قيادة “النهضة” أسلوب التصعيد السياسي ضد النظام ورمزه الأول، وهو ما استثمره دعاة الاستئصال والحل الأمني لوضع مزيد من العراقيل أمام تسوية ملف المعتقلين وتمديد فترة بقائهم في السجون.

الفصل بين البعدين

لقد أثبتت الوقائع بأن تسوية مثل هذا الملف الشائك عن طريق الضغط والحملات السياسية لم يؤد إلى نتيجة ملموسة، ويضاف إلى ذلك أن أحداث 11 سبتمبر كان لها أسوأ الأثر على السجناء السياسيين وعلى مجمل الملفات السياسية في تونس أو في بلاد عربية أخرى لها مشاكل مشابهة.

وهكذا، استقر الموضوع من جديد في نقطة الصفر، وذلك بالرغم من أن قسما من كوادر “النهضة” وأنصارها أبدوا استعدادا للقيام بـ “تنازلات سياسية” من أجل التوصل إلى تسوية هذا الملف المعقد، الذي عجزت قيادتهم عن معالجته أو حتى التخفيف من وطأته.

وقد ازداد إلحاح هؤلاء على قيادتهم في الفترات الأخيرة لدفعها نحو تعديل خطابها ومواقفها، والعمل على توفير “مناخ أفضل”، عسى ذلك يساعد، حسب اعتقادهم، على تخفيف حدة التوتر والاحتقان بين السلطة وحركتهم.

ورغم أن “النهضة” اعتبرت تاريخ 24 أكتوبر، الذي جرت فيه الانتخابات الأخيرة “يوما حزينا في تاريخ تونس”، فإن السلطة لم تتراجع عن قرار العفو، وفصلت بين البعد الإنساني لموضوع المساجين، والبعد السياسي ممثلا في البحث عن تسوية جذرية لملف حركة النهضة الذي قد يبقى ينتظر طويلا.

وبالمقابل، تعاملت قيادة الحركة بكثير من الحكمة والمرونة والإيجابية مع هذه الخطوة الرسمية، حيث قامت بتثمينها والتعبير عن الأمل في أن تعقبها خطوات أخرى في نفس الاتجاه. كما تمنت فتح حوار “جاد”، مما يفترض ضمنيا الاعتراف بشرعية السلطة القائمة، والاستعداد للتفاوض معها، وهو أمر قد لا يثير ارتياح أطراف عديدة، بما في ذلك أطراف المعارضة.

في انتظار حل شامل

لا شك في أن قرار إطلاق سراح دفعة هامة من المساجين يحمل أكثر من دلالة سياسية، دون التقليل من أهمية العامل الإنساني. فالسلطة لم تتمكن بعد كل هذه السنوات من إقناع أصدقائها من الغربيين بأن من تعتقلهم من الإسلاميين هم عناصر إرهابية.

لهذا، استمرت تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية، وحتى بيانات عدد من الحكومات الغربية تصفهم بكونهم سجناء رأي أو مساجين سياسيين، وهو ما يفسر تمتع الكثير من المغتربين من حركة النهضة باللجوء السياسي، خاصة في معظم الدول الأوروبية، وكذلك تبرئة محاكم أوروبية قيادة النهضة من تُـهمة الإرهاب التي وجّـهتها لها صحف عربية وأوروبية، وهو ما كلف هذه الأخيرة دفع غرامات ثقيلة.

ومن هذه الزاوية، تأتي أهمية الدلالة السياسية لتعليق الخارجية الأمريكية على قرار تسريح الدفعة الأخيرة من المساجين، حيث شجعت في بيانها، الحكومة التونسية على “إصدار عفو عن جميع السجناء السياسيين المحكومين أو المعتقلين لأسباب ليس لها علاقة بالعنف ولا تمت للإرهاب بصلة”، وهو موقف اعتبرته وكالة الصحافة الفرنسية “خطوة عكست تغييرا في موقف واشنطن من المعارضة الإسلامية في تونس”.

وبناء عليه، ورغم نفي الحكومة التونسية وجود مساجين سياسيين لديها، فإن بقاء حوالي 500 معتقل من ذوي التوجهات الإسلامية، يُـعتبر قضية سياسية تنتظر حلا شاملا.

صلاح الدين الجورشي – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية