مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أبُ الصليب الأحمر.. وجُـوه متعددة لمسيرة استثنائية

Keystone

غالبا ما يُنعت هنري دونان بالرجل الإنساني المثالي إلى درجة القداسة. لكن تفاصيل قصة حياته المليئة بالتناقضات لازالت تغيب عن ذهن الكثـيرين..

وبمناسبة عيد ميلاده يوم الجمعة 8 مايو الذي يُخلـّد فيه اليوم العالمي للصليب والهلال الأحمر، تـُسلط سويس انفو الضوء على الرجل الذي يقف خلف الأسطورة، والذي ساعد على إنشاء الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر وعلى وضع اللبنات الأولى لمُعاهدة جنيف.

“تحمل الشوارع والساحات إسمه في جميع أنحاء العالم، لكنـّنا لا نعرفه حق المعرفة”. هذه الملاحظة جاءت على لسان جيرار أ. جايغر، المؤلف السويسري لسيرة ذاتية جديدة بعنوان: “Henry Dunant l’homme qui inventa le droit humanitaire” (هنري دونان: الرجل الذي ابتكـر القانون الإنـسانـي”).

ويتفق السويسري ميشيل بيريتي، مؤلف مسرحية عن هنري دونان، على أن التعريف بالـرجل مـهمة صعبة، مُضيفا في حديث مع سويس انفو: “إن كان قديسا، فإنه قديس من نوع غريب بما أن شخصيته وحياته في غاية التناقض، إذ توجد أوجه مختلفة كثيرة لدونان”.

ولد هنري دونان في جنيف يوم 8 مايو 1828 في أسرة مُتديـّنة وإنسانية ومـُلتزمة بالتفكير المدني. لكنه لم يكن موهوبا جدا في المجال الأكاديـمي إذ اضطُر لمغادرة كلية كالفن بجنيف بسبب ضعف حصيلته الدراسية، ليبدأ لاحقا تكوينا في شركةٍ للصرافة.

وفي سن السادسة والعشرين، دخل عالم الأعمال بصفته ممثـِّلا لـ “شركة جنيف للمُستعمرات” في مدينة سطيف قلب الجزائر وجزيرة صقلية جنوب إيطاليا. وشرع في وضع خطـة مالية لتكوين ثروته بحيث مُنصـِّبا نفسـه رئيســا لشركة “مطاحن جبل جميلة” المالية والصناعية في الجزائر لاستغلال جزء كبير من الأراضــي.

غير أن مشروعه كان يقتضي الحصول على حقوق استغلال المياه أيضا. وسرعان ما خطرت عليه فكرة جريئة تمثلت في تقديم طلبه مباشره للإمبراطور نابوليون الثالث الذي كان في ذلك الوقت يقود الجيوش الفرنسية في ساحات المعارك عندما كانت تحاول، مدعومة من الإيطاليين، بطرد النمساويين من إيطاليا.

صــدمــة عنــيفــة

دونان شدَّ الرِّحال باتجاه مقـر إقامـة نابوليون قـُرب مدينة سولفيرينو شمال إيطاليا، وصادف وصولـُه إلى هناك نهاية معركة سولفيرينو ليكون شاهدا على مُخلفات مواجهة عنيفة بين التحالف الفرنسي-السرديني والجيش النمساوي من أجل استقلال إيطاليا؛ اقتتال دار يوم 24 يونيو من عام 1859 بالقرب من بُحيرة شمال إيطاليا.

وعندما هدأت المعارك، كان أكثر من 40000 جندي يحتضر على ساحات القتال، من بينهم عدد كبير من الجرحى الذين كانوا يعانون من إصابات مُروعة.

كان تأثـُّر رجل الأعمال دونان عميقا بمشهد سفك الدماء الذي عاينته، فسارع، بمساعدة من السكان المحليين، إلى تنظيم أولى المساعدات للـجرحى والمرضى.

ويُعلق باريتي عن هذا الحدث قائلا: “لقد كان (ذلك المشهد) بمثابة صدمة وجـُرح نفسي عميق لن يُشفى منه (دونان) أبدا”.

وبعد عودته إلى جنيف، ألـّف دونان كتابا عن تجاربه بعنوان: “ذكرى من سولفيرينو”، وطوّر فكرة إنشاء منظمة لمساعدة جرحى الحرب كمساهمة نحو خلقِ عالم أكثر حضارة وتخفيفِ معاناة الحرب.

لـــجنــة جنيــف

في عام 1863، بينما كانت تجربته في مذبحة سولفيرينو لا تزال ماثلة في ذهنه، أنشأ دونان رفقة مًعارفه السويسريين الأربعة لجنة ستصبح لاحقا اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

عن هذه النشأة، يقول بيريتي ضاحكا: “إن بداية الصليب الأحمر تفتقد للمنطق إذا ما تأملت فيها. خمسة رجال قرروا الالتقاء في شقة في المدينة القديمة بجنيف لتأسيس منظمة دولية. إنه أمر لا يُصدق..”.

وبعد مرور عام، نظمت الحكومة السويسرية بدعم الأعضاء المـُؤَسسين الخمسة للجنة الدولية للصليب الأحمر مؤتمرا دبلوماسيا حضرته 16 دولة، وأفضى إلى توقيع أولى اتفاقيات جنيف.

هذه المعاهدة حـدّدت قواعد الحرب، ووضعت أسس المعاملة الإنسانية لضحايا ميادين القتال، كما اعتمدت شارة التعريف الخاصة بالعاملين لحساب اللجنة: صليب أحمر على خلفية بيضاء (في أغلب الحالات تقريبا).

الإفــلاس المشؤوم…

وكانت السنوات الثلاثون اللاحقة من حياة دونان تقف في تناقض صارخ مع الفترة التي سبقتها، إذ أن أعماله في الجزائر تضررت جزئيا بسبب تكريسه الوقت الكثير لمساعيه الإنسانية.

وفي أبريل من عام 1867، تسبـّب إفلاس الشركة المالية “كريدي جونوفوا” في فضيحة تورط فيها دونان، ليُجبــَر على إعلان إفلاس شركته، ثم يُدان من قبل محكمة جنيف يوم 17 أغسطس 1868 بممارسات خادعة ترتبط بعمليات إفلاس.

وبعد وقوع الكارثة التي تورط فيها الكثير من أصدقائه بجنيف، أصبح دونان شخصا منبوذا في مُجتمعه وعاش لمدة بضعة أعوام مثل المُتسولين تماما.

“[المؤسس المشارك] غوستاف موينيي اعتقد أن الإفلاس وسمعة دونان السيئة في جنيف قد يسيئان لصورة الصليب الأحمر الجديد، لذلك أبْعد دونان من اللجنة”، مثلمـا يُذَكِّر جايغر.

وفي عام 1875، غادر دونان المدينة وهو مصاب بخيبة أمل عميقة، ليستقر في نهاية المطاف في بلدة “هايدن” الصغيرة بكانتون أبنزل أوسير هودن. ويضيف جايغر أن “هذا كان بمثابة جـُرح عميق بالنسبة له لأنه كان على قناعة بصـِدق عمله الإنساني والحاجة إليه”.

وبعد إصابته بالمرض، نُقل دونان إلى مُستشفى هايدن، وأمضى السنوات الثماني عشر المتبقية من حياته في الغرفة رقم 12. “اعتقد الناس أنه قد مات”، يستطرد جايغر مُضيفا “خلال تلك الفترة، واصلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عملها وتطويرها بنفسها بدونه”.

… ثـم ردّ الاعتــبار

لكن هنري دونان لم يكن مجهولا تماما. ففي عام 1895، كتب الصحفي الألماني جورج بومبيرغير مقالا عنه نقلته الصحافة العالمية، ما سمح بعودة إسـم دونان في حُلة إيجابية لدى الجمهور. وفي عام 1901، مُنحت لدونان أول جائزة نوبل للسـَّلام على الإطلاق اعترافا بدوره في تأسيس الحركة الدولة للصليب الأحمر وظهور معاهدة جنيف.

وكان 30 أكتوبر 1910 آخر يوم في حياة هنري دونان الذي دُفــن في زيورخ بدون أية مراسيم، لكن التهاني الرسمية التي تلقاها من اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للسلام بدت وكأنها ضمانة لــرد الاعتبار نهائيا لسمعة دونان.

وكتبت اللجنة: “ليس هناك رجل يستحق هذا الشرف أكثر (منك)، فأنت من أقام، قبل أربعين عاما، أسس المنظمة الدولية لإغاثة الجرحى على أرض المعركة. ومن دونك، لما انطلقت ربما نشاطات الصليب الأحمر، أسمى إنجاز إنساني في القرن التاسع عشر”.

أما جايغر فقال: “بدون دونان لما استطاع المؤسسون الأربعة الآخرون للصليب الأحمر الذهاب إلى ذلك الحد البعيد”، مضيفا في الختام أن “الحركية والتصميم الشديد اللذين كان يتحلى بهما دونان جعلا الأمور تسير بسرعة أكبر، فربما كان الصليب الأحمر سيظهر (على كل حال) في مكان آخر بعد خمسين عاما، لكن وببساطة، سرّع دونان من وتيرة سير التاريخ. لقد كان مثاليا (في تفكيره)، لكنه أراد أيضا التعبير عن مُثله بشكل ملموس”.

هي حركة مكونة من ثلاثة عناصر.

اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي تأسست في جنيف في عام 1863، تنشط في جميع أنحاء العالم، لمساعدة ضحايا الحروب والعنف الداخلي، وتعمل كوسيط محايد في حالات النزاع، كما تشجع التعريف بالقانون الإنساني واحترامه.

يوجد مقر هذه اللجنة في جنيف وتوظف أكثر من 12000 شخصا في 80 بلدا حول العالم.

توجد 186 جمعية للصليب الأحمر والهلال الأحمـر في جميع أنحاء العالم، وهي بدأت تتشكل بعد إنشاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وتمثل هذه الشبكة الفريدة العمود الفقري للحركة الدولية للهلال الأحمر والصليب الأحمر.

تتكون كل جمعية وطنية من متطوعين وموظفين يقدمون مجموعة واسعة من الخدمات، بدأ بالإغاثة في حالات الكوارث ومساعدة ضحايا الحروب، إلى التدريب على الإسعافات الأولية، واستعادة الروابط الأسرية.

تنضوي الجمعيات الوطنية تحت مضلة الفدرالية الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر التي تأسست في باريس عام 1919 من قبل الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر في كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة.

تـُشجع الفدرالية النشاطات الإنسانية للشـّركات الوطنية لمساعدة الفئات الأكثر ضعفا. وبتنسيق عمليات الإغاثة في حالات الكوارث وتشجيع دعم التنمية، تسعى الفدرالية إلى تخفيف المعاناة الإنسانية والوقاية منها.

يوجد المقر الرئيسي للفدرالية في جنيف أيضا، وتـُشرف على عمل 1300 موظف في جميع أنحاء العالم.

يبلغ عدد أعضاء ومتطوعي الصليب الأحمر والهلال الأحمر قرابة 100 مليون شخص حول العالم.

(ترجمته من الإنجليزية وعالجته: إصلاح بخات)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية