مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

وعـود ليبية بمزيد من الإنفتاح ..

يحكم العقيد معمر القذافي ليبيا منذ حوالي 35 عـاما Keystone

بخطى متتابعة وشبه ثابتة، يتجّـه العقيد القذافي ببلاده نحو مرحلة سياسية جديدة قد تغير المشهد الليبي بشكل واسع.

وكانت آخر مفاجآته، إعلانه قبيل زيارته “التاريخية” إلى بروكسل يوم الثلاثاء 27 أبريل عن الانفتاح على منظمات حقوق الإنسان الدولية، وفي مقدمتها منظمة العفو الدولية.

الأهم، هو اعتراف العقيد القذافي بأن النظام القضائي “الثوري” وكامل الترسانة القانونية التي أصدرها مجلس الثورة لم تحقق، بعد كل السنوات الطويلة الماضية، الهدف الذي وضعت من أجله، وبناء عليه دعا إلى إلغائها واستبدالها بتشريعات ومحاكم عادية.

لقد بدأ التحول في السياسة الليبية، عندما قررت طرابلس تسليم اثنين من رعاياها المتهمين بحادثة لوكربي لكي يحاكما خارج البلاد ووفق الشروط التي وضعتها واشنطن ولندن، وكان ذلك إدراكا من العقيد وبعض الذين من حوله بأن نظامه لن يستطيع أن يصمد أكثر في مشادته السياسية مع الولايات المتحدة، كما أدرك أن الوقت الضائع قد انتهى، وأن الهامش السابق الذي كان يتمتع به قد تلاشى كليا، خاصة بعد تصفية نظام صدام حسين، واحتلال العراق.

واللافت للنظر هو أن النظام الليبي اختار ملف حقوق الإنسان كمدخل للإصلاحات التي قرر القيام بها. لقد أدرك أن ذلك يشكل أفضل الوسائل لإقناع الغرب بصدق توجهه. فليبيا كانت باستمرار تعتبر أحد البلدان “المارقة في مجال حقوق الإنسان”، وهو ما اعترف به العقيد القذافي في خطابه الأخير.

لهذا، تتابعت القرارات المتعلقة بإصلاح أوضاع السجون، والتوقف عن ممارسة التعذيب، والشروع في معالجة ملفات عدد من المساجين السياسيين، والآن تم فتح ملف القضاء، وتغيير التشريعات الخاصة بالحريات الفردية، وهي إجراءات لا يُـستهان بقيمتها السياسية والرمزية.

سياسة واقتصاد .. وأمـن

وبالرغم من أن العقيد لا ينوي المساس ببنية نظامه السياسي، حيث لا يزال متمسكا باعتقاده أن “الأحزاب موضة قديمة”، ولا يزال أيضا مُـصرا على رفض ما يعتبره “الديمقراطية الغربية”، لكن ذلك لم يمنع حصول اتصالات مع بعض فصائل المعارضة الليبية.

وفي هذا السياق، دافع الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين الليبية الدكتور الأمين بلحاج عن فكرة الحوار مع النظام الليبي، خلافا لتنظيمات أو مجموعات ليبية أخرى لا تزال تشكك في مصداقية التوجه الرسمي وفي نوايا النظام.

وقال بلحاج في تصريح لصحيفة عربية تصدر في لندن إن “الجماعة حاورت النظام وحاورت مسؤولين فيه من أجل المصلحة الوطنية العليا، وليس من أجل مصالح تخصّ الجماعة وحدها”. وأضاف في نفس التصريح أن “الحوار أحد أدوات العمل السياسي، وأنه لمن الخطأ والأسف أن يتم تخوين هذا المبدأ والملتزمين به”.

هذا ولا يقف التحول الليبي عند الجانب السياسي أو الحقوقي، وإنما يشمل أيضا الجانب الاقتصادي، حيث تشهد البلاد خطوات متسارعة نحو تركيز اقتصاد السوق.

وإذا كان الجانب السياسي من النظرية الثالثة محببا جدا لقلب العقيد، لأنه كان أشد “رومنطيقية” مع مضامينها الاقتصادية التي جعلته يعتقد بأنه يقترح بديلا عن الرأسمالية والاشتراكية، ويقدم حلا، ليس فقط لليبيا، بل لمشاكل الإنسانية كلها.

وقد أنفق الزعيم الليبي مبالغ طائلة لشرح هذا الجانب من أفكاره لسكان المعمورة، أما اليوم فقد تهاوى الحلم، وأصبحت “الجماهيرية” تستعيد ملامح وجهها القديم عندما كانت في العهد الملكي سوقا يقبل عليها الأجوار لشراء بضائع أرخص. وكانت آخر الإجراءات الإعلان عن إنشاء سوق رسمية للأوراق المالية، وقرب الشروع في بيع ما لا يقل عن 360 مؤسسة تابعة للقطاع العام، إضافة إلى الاستعداد للتفويت في اثنين من بين أكبر خمسة بنوك تابعة للدولة.

وقد نقلت مؤخرا وكالة أنباء دولية عن أحمد منيسي، محافظ مصرف ليبيا المركزي تصريحا أكد فيه أنه “يجري تقييم بعض العروض الاستثمارية من بنوك أوروبية وعربية”.

أكثر من ذلك، تتراكم المعلومات حول إمكانية حدوث تحول نوعي في علاقات ليبيا بالغرب، وأن هذا التحول قد لا يتوقف عند المجال الاقتصادي والأمني، بل يمكن أن يشمل أيضا البعد العسكري.

قرار مُـؤجـل

فعلى الصعيد التجاري، بدأت الشركات الأوروبية تتسابق منذ فترة نحو احتلال موطئ قدم داخل ليبيا وافتكاك الصفقات الضخمة مع حكومتها.

وقد تأكد يوم الجمعة الماضي ما أوردته صحيفة “الفايننشال تايمز” الاقتصادية البريطانية مؤخرا من أن الولايات المتحدة سترفع العقوبات الاقتصادية التي تفرضها على ليبيا، حيث وقع الرئيس الأمريكي على قرار يقضي بتخفيف العقوبات المفروضة على طرابلس مما سيتيح للشركات الأمريكية التوقيع على عقود نفطية جديدة في هذا البلد.

غير أن واشنطن لن تتخذ القرار النهائي الذي تريده ليبيا، أي سحب اسم الجماهيرية من على اللائحة الأمريكية للدول التي تدعم الإرهاب، حيث سيتم إجراء هذا التحرك إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، وهو ما جعل طرابلس تمهل واشنطن ثلاثة أشهر لرفع العقوبات عنها.

شريك جديد لواشنطن؟

أما على الصعيد الأمني، فإن التعاون بين ليبيا وأمريكا عن طريق بريطانيا قد ذهب شوطا هاما، وهو ما جعل الإدارة الأمريكية تطمع في الارتقاء بعلاقتها المستقبلية بالنظام الليبي إلى مستوى التعاون العسكري.

وفي سياق الحرص المتزايد الذي تبديه الولايات المتحدة من أجل أن تكون لها نافذة في شمال إفريقيا، أعرب القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا في تصريحات أدلى بها لصحيفة عربية دولية عن تفاؤله بأن ليبيا “على الطريق لتصبح شريكا عسكريا قيما لأمريكا في الحرب على الإرهاب”.

كما نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن جونز قوله “مع افتراض أن هذا التحول جدي ودائم، فإن ليبيا قد تصبح بالتأكيد لاعبا مهما، خصوصا لجهة وضعها الجغرافي الاستراتيجي، وفي النهاية ستكون لها علاقات معنا مثل علاقاتنا مع الدول الأخرى”.

وكانت ليبيا قبل وصول القذافي إلى السلطة مقرا لقاذفات القيادة الإستراتيجية لسلاح الجو الأمريكي.

ثـوب جـديـد..

وفي ضوء المعطيات السابقة، يتضح أن ليبيا مرشحة لكي تعيش تغييرات هامة وعميقة على أكثر من صعيد، وهي تطورات ناجمة بالأساس عن صعود فريق جديد من داخل الأجهزة الليبية، وبدعم قوي من سيف الإسلام القذافي، الذي تزداد أهميته وقوته يوما بعد يوم.

كما يبدو واضحا أن الإدارة الأمريكية، رغم بعض الشكوك التي لا تزال تساورها حول النوايا الحقيقية للقيادة الليبية، قد شرعت في تنفيذ سياسة مغايرة تهدف إلى تحويل ليبيا من “عدو مارق” إلى “حليف حيوي”.

وإذا ما تحقق ذلك، فسوف تعود ليبيا إلى ساحة المغرب العربي بثوب جديد شعاره هذه المرة “الحريات وحقوق الإنسان”، بعد أن كان طيلة العشريات الماضية “الثورة والقضاء على الرجعية وعملاء الاستعمار”.

صلاح الدين الجورشي – تونس

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية