مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

بورقيبة ينتقـم من بن علي.. وقطار الثورة يُوضع على السكة

السيد الباجي قائد السبسي، الوزير الأول في الحكومة الإنتقالية التونسية Keystone

شاءت دورة التاريخ أن ينتقم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة – وهو في قبره – من بن علي، الذي انقلب عليه ذات يوم من أيام شهر نوفمبر 1987 ووضعه تحت الإقامة الجبرية. وعندما وافاه الأجل، حال بين التونسيين ومواكبة جنازته حتى عبْـر التلفزيون.

فالباجي قايد السبسي، الوزير الأول لثاني حكومة انتقالية تتشكل في تونس بعد فرار بن علي، ليس سوى أحد المعجَـبين كثيرا ببورقيبة، تربّـى على يديه وتشرب فكره وأسلوبه في مخاطبة الرأي العام، حيث بدا وكأنه صوت الماضي القريب يعود ليلغي الرئيس السابق من ذاكرة التونسيين.

وفي الواقع، أحدثت استقالة الوزير السابق محمد الغنوشي رجّـة قوية تجاوزت حدود الأوساط السياسية، لتشمل قطاعات عريضة من التونسيين الذين أطلق عليهم صفة “الأغلبية الصامتة”، لكن لم تمض على تلك الاستقالة سوى ساعتان فقط، حتى فوجِـئ الجميع بتكليف السياسي المُـخضرم الباجي قايد السبسي بتشكيل حكومة جديدة. وقد تعدّدت التعليقات على هذا القرار ولم يطمَـئِـن التونسيون لهذا التعيين، إلا عندما نطق الرجل وأشعرهم في خطاب دام أربعين دقيقة، بأنه قد يكون الرجل المناسب في اللحظة المناسبة.

وإذا كان البعض قد استخفّ بسنِّـه، حيث بلغ من العمر خمسة وثمانين عاما، إلا أن ذلك كان مِـيزة، ليس فقط بما يختزنه السِـن من نُـضج وخبرة، ولكن أيضا بحُـكم أن الرجل لم يعد لديه شيء يطمع فيه، سوى أن يختم حياته ومسيرته السياسية بالمساعدة على تحقيق انتقال ديمقراطي هادئ وسِـلمي في بلاده.

لقد أعاد الوزير الأول الجديد الإعتبار إلى الخطاب السياسي الذي اختفى تماما منذ تولّـى بن علي السلطة في تونس. فالرئيس السابق لا يُـحسن الحديث مُـطلقا ولا يملك القدرة على الإرتجال وشرح الأفكار أو التحكُّـم في مفردات اللّـغة. كما أن بن علي، حرِص منذ الفترة الأولى من حُـكمه على التخلّـص من مختلف الشخصيات السياسية التي يمكن أن تشكِّـل تهديدا معنوِيا لانفراده بالبقاء وحدَه في الصورة.

الإنتقال من الشرعية الدستورية إلى الشرعية الثورية

من جهة أخرى، اقترن تعيين الباجي قايد السبسي بخارطة طريق كشف عنها الرئيس المؤقت فؤاد المبزّع، وذلك عندما أعلَـن في كلمة توجّـه بها إلى التونسيين، عن تغيير الأجندة والعمل على تنظيم انتخابات مجلس تأسيسي يوم 24 يوليو 2011، بدل الانتخابات الرئاسية التي سبَـق وأن اتَّـخذتها الحكومة السابقة هدفا لها.

وبمقتضى ذلك، تم تعليق الدستور وأسدِل الستار عملِـيا على مجلسيْ النواب والمستشارين، رغم استمرار التساؤل حول أسباب عدم حلِّـهما بشكل نهائي. وهكذا، تم الإنتقال من الشرعية الدستورية إلى الشرعية الثورية، دون التخلي النهائي عن المنطق المؤسساتي، وذلك بالحفاظ على استمرارية الدولة من خلال الإبقاء على الرئيس المؤقت، الذي كان يُـفترض أن تنتهي مهمته حسب الفصل 57 من الدستور بتاريخ 17 مارس الجاري، وهو أمر لو تمّ لَـحَـدَث الفراغ الذي بموجبه تنتقل السلطة مباشرة إلى المؤسسة العسكرية.

لقد تجاوز الوزير الأول الجديد عَـقبة القصبة، حيث كان يعتصِـم المئات من الشبّـان والفتيات، رافعين عدّة مطالب، في مقدمتها رحيل الحكومة السابقة. فبعد أن تبنّـت السلطة الإعداد لانتخابات مجلس تأسيسي، اعتبرت قوى المعارضة إلى جانب قطاع واسع من الرأي العام، أن قطار الثورة قد وُضِـع على السكة، وهو ما ولَّـد حالة ارتياح وخفف كثيرا من حالة الاحتقان الأمني الشديد، التي ميزت الأيام الأخيرة من حكومة السيد الغنوشي وتسببت في سقوط عدد من القتلى، وذلك في ظروف لا تزال غامضة.

الخطوة الأخرى التي اعتبرت استجابة للمطالب التي رُفعت في الفترة الأخيرة، تمثلت في اختيار حكومة تكنوقراط، حيث تمَّ تعيين خمسة وزراء جُـدد من غير السياسيين، بدلا عن الوزراء المستقيلـين، وذلك بحجّـة أن الحكومة الحالية مهمّـتها، تصريف الأعمال إلى حين انتخاب مجلس تأسيسي، وهو الأمر الذي اعترض عليه البعض، مثل الحزب الديمقراطي التقدّمي وحركة التجديد، وهما الحزبان اللذان يعتزمان إقامة تحالُـف بينهما خلال المرحلة القادمة، وذلك بعد الحملة القوية التي تعرّضا لها بسبب مشاركتهما في حكومة الغنوشي.

هذه الحملة التي لم تكتفِ باتِّـهامهما بالعمل على “إنقاذ نظام بن علي” والحكم على كلّ السيدين نجيب الشابي وأحمد إبراهيم بالإنتحار السياسي، بل تجاوزت ذلك بإقدام بعض خصومهما السياسيين على إفساد بعض اجتماعاتهما في جهات مثل بنزرت وجندوبة (شمال) وصفاقس (جنوب).

وإذ يُـعتبر الحديث حاليا عن خاسِـرين ورابحين بعد أقل من شهرين من نجاح الثورة، أمرا لا يزال سابقا لأوانه، بحُـكم أن السياسة، مثلها مثل عالم البورصة في حالة صعود ونزول مستمِـرّيْـن، إلا أن ذلك لا يمنع القول بأن مشاركة هذين الحزبين في الحكومة الإنتقالية قد جعلتهما يدفعان ثمنا سياسيا قاسيا على الصعيدين، النخبوي والشعبي.

حل البوليس وجهاز أمن الدولة

الخطوة الثالثة جاءت نوعية، سواء من حيث طبيعتها أو من حيث طابعها المفاجئ، وذلك بإعلان حل البوليس السياسي وجهاز أمن الدولة. هذا الجهاز الذي نشأ وترعْـرع في عهد الرئيس بورقيبة، لكنه توسع وامتد خلال حُـكم الرئيس بن علي وأصبح بمثابة القاعدة الصّـلبة لنظام اتَّـسم بالاستبداد المُـطلق والهيمنة الكلِـية على المجتمع. يضاف إلى ذلك، أن البوليس السياسي قام بجرائم خطيرة طيلة الخمسين سنة الماضية، وذلك بتعذيبه للآلاف من المعارضين والنشطاء، وهو ما أدّى إلى موت بعضهم داخل أقبِـية وزارة الداخلية.

ولم يكن الجلادون يميِّـزون في تنكيلهم بالمعارضين بين يساريين أو قوميين أو إسلاميين، وإن كان أعضاء حركة النهضة هُـم الذين دفعوا ثمنا أكثر كُـلفة من غيرهم في عهد الرئيس المخلوع. ولهذا، ارتفعت الأصوات حاليا بضرورة مُـعاقبة الجلاّدين وكذلك المسؤولين الذين أعطَـوْهم الأوامر وقاموا بحمايتهم. وتملك منظمات حقوق الإنسان التونسية والدولية في هذا السياق قائمات إسمية في هؤلاء، وستقوم بملاحقتهم قضائيا.

الآن، وقد كسبت الحكومة الجديدة كلّ هذه النقاط لصالحها، لم يبق سوى أن تتفرّغ الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني للتركيز على المرحلة القادمة، وذلك من خلال فتح نقاشات واسعة حول النظام الانتخابي الأفضل، الذي من شأنه أن يوفر شروط قيام مجلس تأسيسي ممَـثل لجميع مكوِّنات المجتمع التونسي.

مؤشِّـر حيوي

هل سيتواصل العمل بنظام القائمات الذي تستفيد منه عمليا الأحزاب القوية أم سيتم الانتقال إلى نظام الأفراد، الذي من شأنه أن يفتح المجال أمام الشخصيات ذات القيمة الاعتبارية داخل الدوائر الترابية المحلية، في مقابل مخاطر تذرير المشهد الحزبي، الذي بلغت مكوِّناته حاليا أكثر من 48 حزبا، حصل منها حتى تاريخ كتابة هذا المقال 21 على التأشيرة؟

لم ينطلق بعدُ الصراع السياسي في تونس حوْل الأفكار والمشاريع المجتمعية المتباينة، وذلك بالرغم من تحرك أوساط من العِـلمانيين بالمطالبة بدولة لائِـكية في محاولة لقطع الطريق أمام الإسلاميين، لكن الجدل السياسي قد لا يتأخر كثيرا مع اقتراب موعد مناقشة وثيقة الدستور الجديد، الذي سيتضمن المعالم الرئيسية لهوية المجتمع والدولة.

وقد انطلقت فعلا صياغة العرائض، سواء المدافعة عن اللائِـكية أو تلك المطالبة بالمحافظة على الفصل الأول من الدستور المعلَّـق. كل ذلك مؤشِّـر حيوي على أن التونسيين قد بدؤوا يشقّـون طريقهم نحو بناء نظام سياسي سيكون في كل الاحتمالات مغايِـرا بشكل واسع عن النظام السابق، الذي كان قائما على الانفراد بالقرار.  

حل القضاء التونسي الأربعاء 9 مارس الجاري، التجمع الدستوري الديمقراطي، حزب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، بطلب من السلطات التي تفكك تدريجيا النظام السابق الذي حَـكم تونس 23 عاما.

وأعلنت محكمة البداية في العاصمة التونسية أنها “قررت حلّ التجمع الدستوري الديمقراطي وتصفية ممتلكاته وأمواله” عن طريق وزارة المالية، مما أثار فرحا عارِما في القاعة، حسب مراسل وكالة فرانس بريس.

وفوْر إعلان الحُـكم، ضجت القاعة التي كانت تضم مئات الأشخاص، بتصفيق حادٍّ، بينما علَـت هُـتافات “التجمع الدستوري الديمقراطي.. إرحل” و”تونس حرّة”.

واحتاج الأمر إلى أسبوع فقط لتخليص البلاد من هذا الحزب، الذي تنتشر فروعه في جميع أنحاء تونس، وكان في أوج قوّته يضم حوالي مليوني عضو من أصل عدد سكاني إجمالي قدره عشرة ملايين نسمة. وكانت المحكمة بدأت في الثاني من مارس النظر في الدعوى التي رفعتها وزارة الداخلية ضد الحزب.

وفي بداية الجلسة، طالب محامي الوزارة فوزي بن مراد “بحل التجمع الدستوري الديمقراطي ومصادرة ممتلكاته داخل وخارج البلاد، التي حصل عليها بنهب أموال الشعب”.

ومنذ فرار بن علي في 14 يناير، يتظاهر التونسيون باستمرار للمطالبة بحل الحزب، الذي أصبح رمز الدولة الأمنية في حكم بن علي الذي استمر 23 عاما. وكان مقر الحزب في وسط العاصمة التونسية أحد الأهداف الرمزية الأولى للثورة التي أطاحت بالنظام ورئيسه.

وبعد ستة أيام من سقوط النظام، أعلنت الحكومة الانتقالية برئاسة راشد الغنوشي في 20 يناير أن الدولة ستصادر “الممتلكات المنقولة وغير المنقولة” للحزب وتعلن فصل الدولة عنه. وعلقت نشاطات واجتماعات الحزب في السادس من فبراير “بهدف حماية المصلحة العليا للأمة”. فقد أعلنت الحكومة الانتقالية التونسية حينذاك الأحد “وقف” نشاطات الحزب من أجل “الحفاظ على المصلحة العليا للأمة وتفادي أي انتهاك للقانون”.

وقرر وزير الداخلية فرحات الراجحي “وقف كل أنشطة التجمع الدستوري الديمقراطي وحظر أي تجمع أو اجتماع يقوم به أعضاؤه وإغلاق كل المراكز العائدة إلى هذا الحزب أو تلك التي يديرها”.

واتخذ وزير الداخلية التونسي فرحات الراجحي هذه التدابير “في انتظار تقديم طلب رسمي إلى القضاء بهدف حلّ” الحزب.

وكان زين العابدين بن علي أسس في 27 فبراير 1988 التجمع الدستوري الديمقراطي على أنقاض حزب الدستور الجديد، الذي قاد البلاد إلى الاستقلال برئاسة الحبيب بورقيبة.

وطالبت الانتفاضة في تونس بإقالة الوزراء من عهد بن علي، منذ تشكيل أول حكومة في مرحلة ما بعد بن علي ترأسها الغنوشي. وكان الغنوشي نجا من أول تعديل حكومي في نهاية يناير، لكنه تخلّى عن منصبه بعد شهر من ذلك. وشكل الباجي قائد السبسي يوم الاثنين فريقا حكوميا جديدا، لا يضم أي وزير من عهد بن علي.

وفي الوقت نفسه، سقط معقل آخر مهِـم للنظام السابق هذا الأسبوع. فقد أعلنت وزارة الداخلية الاثنين 7 مارس إلغاء إدارة أمن الدولة و”أي شكل من أشكال الشرطة السياسية”. وقالت الوزارة في بيان إنها “شرعت في اتخاذ إجراءات تتمثل في إلغاء إدارة أمن الدولة”. وقررت الوزارة “القطع نهائيا مع كل ما من شأنه أن يندرج بأي شكل من الأشكال تحت منطوق +الشرطة السياسية+ من حيث الهيكلة والمهمات والممارسات”. وأكدت الوزارة “التزامها بالقانون واحترام الحريات والحقوق المدنية”.

وفي اليوم نفسه، عقدت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، التي تعرضت لمضايقات في عهد بن علي، مجلسها الوطني للإعداد لمؤتمر وطني، لم ينظم منذ عشر سنوات.

وفور إعلان نبإ حل حزب بن علي، عمَّـت مظاهر الفرح في بَـهْـو قصر العدل في تونس العاصمة، حيث بادرت حشود متراصة إلى إنشاد النشيد الوطني.

وقال المحامي عياشي حمامي في حمأة الاحتفالات، وهو الذي انضم إلى زملائه بالرداء الأسود للاحتفال بالحدث “إنه ورم سرطاني تمّ استخراجه، لكن يجب من الآن فصاعدا القيام بجلسات علاج كيميائي”.

وعمّـت الضوضاء قصر العدل. وهتف مئات الأشخاص، الذين يحتفلون بالقضاء شرعيا على الحزب الدولة للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بعد نحو شهرين على سقوطه بضغط من الشارع.

وقال أحد الشبان وقد لف نفسه بالعلم التونسي “تحيى تونس الحرّة. انتهى الكابوس”. وقد سادت أجواء من الغبطة في المكان، حيث تبادل البعض العناق وذرف آخرون الدموع وقاموا بإبلاغ أقربائهم بالنبإ عبر الهاتف. فيما أطلقت نِـسوة الزغاريد.

وبعدها، قامت الحشود بالتفرق في الشوارع المحيطة مطلقين العِـنان لأبواق سياراتهم تعبيرا عن فرحهم. وهتف المحتشدون “العدالة تحقّـقت: إلى القُـمامة أيها التجمع الدستوري الديمقراطي”.

وأضاف حمامي “علينا البقاء متيقظين لحماية منْـجزات الثورة وقطع الطريق أمام أنصار التجمع الدستوري الديمقراطي، الذين قد يعودون للظهور تحت مسميات أخرى”.

(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ.ف.ب بتاريخ 9 مارس 2011)

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية