مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“قـانونٌ غيرُ مسبوق في التاريخ المعاصر”

مجموعة من أفراد المجلس الأعلى للثوار الليبيين يحتجّون أمام مقر وزارة الخارجية الليبية يوم 28 أبريل 2013 في العاصمة طرابلس للمطالبة بعزل مسؤولي الوزارة المرتبطين بنظام معمر القذافي المُطاح به من المشاركة في الحياة السياسية. Keystone

بعد أسبوعين من محاصرة الميليشيات المسلحة لمنشآت حكومية في طرابلس وخاصة وزارتيْ الخارجية والعدل، انسحبت يوم الأحد 12 مايو الجاري من تلك المواقع، دون تحقيق مطالبها الرئيسية، وفي مقدمتها الإطاحة بحكومة علي زيدان، لكنها نجحت في الوصول إلى "الحد الأدنى" من المطالب، وهو تمرير قانون العزل السياسي.

ويمكن القول أن القانون أبصر النور بوِلادة قيْصرية تحت ضغط المدافع والأسلحة الثقيلة، التي كان عناصر الميليشيات يركبون صهوتها مُلوّحين بالأسوإ.

أتى القانون الذي وافق عليه المؤتمر الوطني العام (البرلمان الإنتقالي) يوم الأحد 5 مايو 2013، بغالبية 115 صوتا من أصل 157، بعد مخاضٍ مُؤلم استمر أشهرا. وقضت المادة الأولى منه، بإبعاد أي شخص تسلّم مناصب مسؤولية في الدولة خلال حُكم معمر القذافي المديد (1969 – 2011).

 

ويمكن القول أن المجتمع الليبي لم يشهَد انقِساما، مثل الذي أحدثه هذا القانون، الذي تباعدت المواقف في شأنه بين مُحذر من إفراغ الدولة من كوادرها بإقصاء نصف مليون ليبي من الحياة العامة، وبين مُهلّل اعتبره قطيعة نهائية مع الإستبداد.

 

كان المسلحون الذين طوّقوا وزارتيْ العدل والخارجية من أجْل حمل أعضاء المؤتمر الوطني على إجازة المشروع، يرفَعون لافتات كتبوا على بعضها “الرافض للعزل، خائن لدِماء الشهداء” و”بالعزل السياسي يكتمل إسقاط النظام ونتّقي شر الأزلام”، فيما نبّه المُعترضون، إلى أن هذا القانون “سيُشعِل حربا مُستترة من نوع آخر بين الليبيين”، على حد قولهم.

 

في المقابل، شهدت مدن ليبية، من بينها العاصمة طرابلس وبنغازي وطبرق والبيضاء، على مدى أيام الحِصار، تظاهُرات ندّدت بقانون العزل السياسي، لكن الحكومة كانت حريصة، على ما يبدو، على منع انزلاق الوضع إلى مواجهات بين المسلّحين ومَن دعتهم بـ “المدافعين عن الشرعية”.

واللاّفت، أن رئيس المؤتمر الوطني العام محمد المقريف، نأى بنفسه عن المشاركة في المناقشات أو ترؤُّس الجلسات، لكونه من المُستهدَفين البارزين بالقانون، باعتباره عمل سفيرا في الهند في ثمانينيات القرن الماضي. لكن الأطرَف، أن المُعارض البارز للقذافي، جمعة عتيقة الذي ناب عن المقريف في إدارة الجلسات، مُستهدَف أيضا بالقانون. وهذا يعني أن القانون أتى ليشطُب عمليا نتائج انتخابات المؤتمر الوطني، التي فاز بها “تحالف القِوى الوطنية”، بزعامة محمود جبريل، الذي ينطبِق عليه هو الآخر قانون العزل، بوصفه عمل وزيرا للتخطيط في عهد القذافي قبل أن ينشقّ عنه ويترأس أول مكتب تنفيذي (حكومة مؤقتة) بعد الثورة.

في المقابل، شكل التّصديق على القانون نزولا عند ضغوط الجماعات المسلحة، التي بات كثير من الليبيين ينعتها بـ “الميليشيات المسلحة”، باعتبار أن مهمة الثوار انتهت والبلد ماضٍ اليوم في إعادة البناء السِّلمي.

رغم العروض السّخية التي قُـدّمت للثوار السابقين من أجل الإنضمام إلى قوات الشرطة أو الجيش الوطنيين، لم يقبل سوى 5% منهم التخلّي عن جماعاتهم.

ينشط كثير من الثوارر السابقين في تجارة السلاح منذ توقّف الحرب في ليبيا، خاصة بعد الإستيلاء على المخازن التي كان القذافي يُجمّع فيها أسلحة من جميع الأصناف.

يُقدّر خبراء عسكريون عدد قِطع السلاح المتوفرة اليوم في ليبيا بمليون قطعة.

أكثر من نصف مليون مسؤول سابق

استخدمت الميليشيات أسلِحة ثقيلة لدى تطويقها وزارتيْ العدل والخارجية طيلة أيام، مُجبرة “المؤتمر الوطني” على التصديق على قانون العزل، وهو أول قانون تتِم إجازته تحت تهديد الأسلحة. ولم يكن في وُسع الحكومة استخدام القوة، على ما يبدو، لإجلاء المُحاصرين من محيط الوزارات وفرض الأمن، مخافة من حدوث مجزرة، وهو ما حمل وزير الدفاع محمد البرغثي على تقديم استقالته، قبل أن يتراجع عنها.

وبرر البرغثي تلك الإستقالة، بأنه لن يقبل أبدا أن تُمارَس السياسة بقوة السلاح، واصفا هذا العمل بأنه اعتداء على الديمقراطية التي أقسم أن يحميها، فيما أشارت تقارير صحفية، إلى العلاقة التي تربط المسلّحين المطالِبين بالعزل بقادة الميليشيات السابقة، من أمثال عبد الحكيم بلحاج وعبد الله ناكر، الذين أخفقوا في الحصول على الأصوات اللازمة لدخول البرلمان الإنتقالي، واستطرادا، الحكومة الإنتقالية.

ولا يشكك أحد من الليبيين في ضرورة محاسبة المتنفذين في عهد معمر القذافي ومعاقبة من ارتكبوا جرائم سياسية أو مالية، غير أن الخلاف يتركّز على الإطار الذي ينبغي أن تتِم فيه العملية: هل هو إطار العدالة الإنتقالية أم قانون العزل؟ وقال أحد المثقفين تعليقا على سَنّ القانون “أنا مع قانون العزل السياسي… قانون يجعل العزل بحُكم قضائي، وليس بنص قانوني، بمعنى أن يتِم العزل عن طريق محاكمة عادِلة، وذلك انطلاقا من خوفي على تماسُك وطني”.

وشكّل إنشاء الهيئة العليا للنزاهة والوطنية خُطوة مهمّة في هذا السياق، إذ استُبعد وزراء وحتى أعضاء منتخبون في المؤتمر الوطني العام، بعدما أثبتت الهيئة تورّطهم مع النظام السابق. إلا أن بعض العناصر “لم يصبروا إلى حين صدور قانون العدالة الإنتقالية، ولم يطِقهم الصّبر إلى حين الإنتهاء من كتابة الدستور والتصويت عليه”، كما علق الكاتب الليبي عبد الرحمان الشاطر.

أما محمود جبريل، فاعتبر أن قانون العزل “غير مسبوق في التاريخ المعاصر، إذ لم يحدث في أية دولة”، مؤكِّدا أن عدد المسؤولين المُستهدَفين بقانون العزل، يتجاوز 500 ألف شخص، “مما يعني إفراغ الدولة من رجالها”. ويبدو أن هذه الآلية ستُقصي من الملعب السياسي ومن الإدارة على السواء، الفئات التي تشكّل القاعدة الإجتماعية لجبهة “تحالُف القوى الوطنية”، التي تضُم نحو ستين حزبا وتُفسح الطريق بالمقابل لقادة الجماعات وأنصارهم، ليتسلّموا المواقع المهمّة في الإدارة والدولة.

رفع المسلحون ستّة مطالب أبرزها:

* الإطاحة بالحكومة التي يرأسها علي زيدان، باعتبارها تضم وزراء عملوا مع القذافي ومنهم وزير الخارجية محمد عبد العزيز ووزير العدل صلاح الميرغني.

* تفعيل قانون العزل، بإبعاد كل من عمل في أجهزة الدولة بين 1969 و2011 من مواقِعهم ومحاسبتهم قضائيا.

* الإطاحة برئيس المؤتمر الوطني العام محمد المقريف، باعتباره عمل سفيرا في الهند حتى استقالته عام 1980 وانضِمامه للمعارضة.

* تجميد ميزانية الدولة، التي أعلن عنها مؤخرا.

* الحق في تشكيل لجنة لتولي مسؤولية وزارة الخارجية.

“كلمة حق.. أريد بها باطل”

وتجدُر الإشارة هنا، إلى أن الجدل الذي أثير حول مشروع قانون العزل، استغرق كثيرا من الوقت بسبب التباعُد الكبير في مواقف الفريقين، إذ قصر الفريق الأول المُحاسبة على رموز النظام المتورّطين في جرائم سياسية أو مالية، بينما طالب الطرف الثاني بالتخلص من كل الذين عملوا مع النظام السابق، أيا كان موقعهم، ومعاودة البناء من الصِّفر أسْوة بالتجربة العراقية.

وأدّى هذا الخلاف إلى تأخير التصويت على المشروع منذ ديسمبر 2012، وسط تصاعد الضغوط على المؤتمر الوطني من أجل حمله على اعتماده. وفي أثناء ذلك، طُرح حلّ وسط يقترح الإقتِصار على استبعاد مَن تعامَل مع القذافي خلال السنوات العشر الأخيرة، في حين رأى المُعترضون أن السنوات الأخيرة كانت الأقل دموية، إذ حاور خلالها النظام من خلال “مؤسسة الغد”، التي أنشأها سيف الإسلام، نجل العقيد، جميع المعارضين بمَن فيهم السلفِيّين، بعد حوارات كُـلِّف علي الصلابي بقيادتها مع السجناء، لإطلاقهم من السجون.

وبالنتيجة، فإن المعارضين الذين عمِلوا في الدولة في السبعينات أو الثمانينات ثم انشقّوا ليقضوا أكثر من نصف قرن أحيانا في المنافي، سيُحرَمون من تقلّد أي منصب في المستقبل لمدة خمس سنوات، لا بل حتى من الإنخِراط في جمعيات المجتمع المدني، أي سيُجرّدون ببساطة من حقّ المواطنة.

الكاتب الليبي عبد الرحمان الشاطر كشف أيضا بعض النقاب عن المساومات التي جرت تحت قبّة “المؤتمر الوطني”، فأشار إلى أن “الكِيانات السياسية تسابَقت لتقديم مُسودّات للقانون، وجاءت صيغها متوافِقة من حيث أن كلا منها فصّل مسودّة مشروع قانونه، ليزيح خصمه من الساحة. وبذلك، انطبق على جميع تلك المشاريع قولة “كلمة حق أريد بها باطل”، والباطل هو أن العزل لا يخدم قضية الثورة والوطن من حيث العموم، وإنما يُمهِّـد الساحة لاستيلاء هذا الكيان أو ذاك على المشهد السياسي، ليُسيطر على الحُكم”.

وذهب الشاطر إلى أبعَد من ذلك، مؤكدا أنه “في منطق الإنتِقال الديمقراطي وبناء الدولة، يجب البحث عن أفضل السُّبل لتقليص عدد “الخاسرين” و”المُتضرِّرين”، وليس توسيع قاعدتهم وخلق “أعداء” وزرْع “ألغام”، ستقض مضاجعنا وتفجّر ذات يوم “أمننا” و”استقرارنا”، على حد قوله. واعتبر أن “الثورة في مفهومها العميق، قطع مع مناهج الإقصاء والتسلط والعزلة وبناء لمنهج المشاركة والعدالة بين أبناء الوطن الواحد”.

الأمن هو الجرح الذي وضع عليه الشاطر إصبعه، وهو ما زال نازفا، إذ لم تعجز المؤسسة الأمنية عن ضبط الأمور في المدن والسيطرة على المسلّحين وحسب، وإنما أخفق الجيش أيضا في احتواء الجماعات المسلحة العائدة من مالي والسيْطرة على الصراعات المتأجّجة بين القبائل وحِراسة الحدود الجنوبية من تدفّق المهاجرين غير الشرعيين. 

ضعف سلطة الدولة

بتعبير آخر، هل كان قانون العزل سيُجاز لو كان الأمن قويا ولم تكُن هناك مُحاصرة للوزارات وتهديد باستخدام الأسلحة الثقيلة؟ الأرجُح، أن التصديق ما كان ليَتِـم أو في الأقل، كانت صيغة العزل وشروطه ستكون مختلفة. لكن الناطق الرسمي باسم البرلمان عمر حميدان رفض هذه القراءة مؤكِّدا أن “القانون لم يصدُر بالإكراه. فقد صوّتنا عليه اقتناعا، لأن في إقراره مصلحة كبرى للبلاد”، على حد تعبيره.

مع ذلك، ما كان حصار الوزارات ليَستمِر لو كان الجيش قويا وقادِرا على ردْع الخارجين عن القانون. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم تصريح جبريل الذي قال لقناة “العربية” الفضائية: “إن هذا كلّه يعود إلى تأخر بناء المؤسسة الأمنية والعسكرية”. ومن أمارات ذلك الضعف، أن أعيان مدينة تاورغاء، الواقعة في محيط مدينة مصراتة، عيل صبرهم في انتظار تأمين عودتهم إلى بيوتهم، التي أجلوا عنها بعد الثورة، فقرّروا العودة في الخامس والعشرين من يونيو المقبل من بنغازي، حيث يلجؤون الآن مصحوبين بأسَـرهم، وطالبوا الحكومة والأحزاب بضمان سلامة المدنيين العائدين.

غير أن ضعف المؤسستيْن، الأمنية والعسكرية، ليس هاجس الداخل فقط، وإنما هو أيضا مصدر انشغال لدول الجوار وللقوى الدولية في آن معا. وتجلّى ذلك الهاجس مجدّدا، في التحليل الذي عرضته السفيرة الأمريكية المعيَّنة لدى ليبيا ديبورا كاي جونز، في جلسة الإستِماع التي عقدتها لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، للنظر في المُصادقة على تعيينها، إذ ركزت في خطابها على أن “الحلّ الذي تقترحه واشنطن بهذا الشأن، يكمن في تعزيز قُدرات أجهِزة الأمن الليبية ونزْع سلاح الميلشيات”.

وفي هذا السياق، قالت السفيرة الجديدة، التي قضى سلفها حرقا في مبنى القنصلية الأمريكية في بنغازي العام الماضي، إن حكومتها تسعى إلى مساعدة ليبيا على وضع حدٍّ للإنفلات الأمني، مُشيرة إلى أن “القوائم الثلاث الضرورية لتطور البلد، هي تعزيز الأمن وتدريب قوات عسكرية وأمنية”، وقد بدأ ذلك كما قالت، ونزع سلاح الميليشيات والتعامل معها (الحكومة) أيضا في قضايا الحُكم وفي الآثار المُترتّبة على اعتماد قوانين، مثل قانون العزل السياسي وما له من تأثير على وِحدة الليبيين ومستقبل حكومتهم”.

من هنا، يبدو أن هناك تقاطُعا بين الداخل والخارج في تحديد العُقدة المركزية في الوضع الليبي الرّاهن، وهي ضعف سلطة الدولة وغياب الأمن أو وهنه على الأقل. غير أن بناء الأمن في مفهومه الشامل، لا يمكن أن يقتصِر على التسليح والتدريب (الذي بدأ فعلا في كل من الجزائر والإمارات)، وإنما يقوم أيضا على تأمين المصالحة الوطنية التي تُبعد عن البلد شبَح النزاعات الأهلية وتفسَح المجال لمُعاودة بناء مؤسسات الدولة، وقد لا يُسهّل قانون العزل تلك المهمّة المعقّدة، خصوصا بعد وضع حواجِز دستورية تمنع مُراجعته أو تعديل بعض بنوده.

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية